لم يمض وقت قليل على الانفجار الغامض الذي هز بيروت ودمر مرفأها البحري وقلبها وبعضاً من ضواحيها، حتى انتشر هاشتاغ لافت جداً على وسائل التواصل الاجتماعي هو "بيروتشيما" سرعان ما تبادله الناشطون، من مثقفين ومواطنين تأثروا بهذه الصدمة العنيفة التي لم يشهد لبنان طوال حروبه ما يوازي وقعها الكارثي وحجم دمارها. هذه الكارثة حلت في شكل مفاجئ وغير متوقع، فلم يكن أحد يتصور أن انفجارا في هذا الحجم المأساوي سيقع، لا سيما في غمرة الانشغال الشعبي والرسمي بوباء الكورونا والانهيار الاقتصادي الشامل والإفلاس. ومع أن الانفجار هذا لا يضاهي طبعاً قنبلة هيروشيما، إلا أن مشهديته الرهيبة ذكرت كثيراً بمشهد سقوط القنبلة الذرية على المدينة اليابانية وانفجارها وصعود كتلة هائلة من الدخان الأسود وانفلاش هذه الكتلة في السماء. فحين حدوث الانفجار، انتشرت كتلة من الدخان الأسود تلتها نيران حمراء ثم كتلة أخرى كبيرة جداً من الدخان الرمادي والرمادي المائل إلى الحمرة. وكم بدت مصادفة غريبة أن يحدث انفجار بيروت عشية الذكرى ال75 على إلقاء قنبلة هيروشيما.
لم يقع الانفجار في شوارع بيروت أو ساحاتها أو في الأحياء الغاصّة بالبشر كما اقتضت العادة سابقاً أو كما كان يخطط المجرمون خلال الحرب، وقع الانفجار في المرفأ الذي يملك تاريخاً قديماً عبر العصور ويمثل رمزاً من رموز الانفتاح اللبناني على العالم، والذي يجمع اللبنانيين كلهم على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم السياسية والعقائدية، وعلى اختلاف طبقاتهم الاجتماعية. أضحت بيروت للمرة الأولى بلا مرفأ، أي بلا نافذة تطل على غرب العالم. إمحى تاريخها البحري العريق الذي يمتد إلى العصر الفينيقي وكذلك ذكريات الهجرة والمهاجرين وصور السفن الشراعية والبواخر التي انطلقت من بيروت إلى العالم الجديد. كتب حازم صاغية في "فيسبوك": "بلد بلا مرفأ. الدلالة الرمزية هائلة".
مدينة الزجاج المتناثر
ذكّر الانفجار الرهيب أيضاً بحادثة 11 سبتمبر (أيلول) أو تفجير البرجين في نيويورك، في ما أحدث من خراب في المكان وناسه، وفي الصدمة التي جسدها واقعاً ورمزاً، وفي ردود فعل الناس والإعلام، مع أن الانفجار البيروتي كان أفقياً وليس عمودياً، ما جعل مساحة الخراب الذي خلفه في الأحياء والبيوت والمباني، أشبه بساحات المعارك التاريخية المدمرة: أحياء مدمرة، إهراءات ضخمة لم تبق منها سوى هياكل، بيوت ومنازل أضحت بقايا أطلال. زجاج تناثر مثل الضحايا الكثر، قتلى وجرحى ومفقودون تحت الردم الهائل، زجاج، زجاج، زجاج يفترش الطرق كالرمل.
ولئن هزت الصدمة كل اللبنانيين والدولة شبه الغائبة والمراجع كافة، من شدة هولها ومأسويتها، فإن المثقفين اللبنانيين كانت لهم ردود فعل مؤثرة ومواقف وتعليقات انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تمثل حقيقة الفاجعة التي منيت بها بيروت المدمرة أصلاً والمهزومة. وبدت هذه التعليقات العفوية وشبه المرتجلة إزاء هذه الصدمة غير المتوقعة، ذات طابع رثائي ونبرة غاضبة وموقف احتجاجي وساخر أحياناً سخرية مرة. بعضهم نشر صوراً ورسوماً وبقعاً سوداء حداداً على بيروت ومنهم أعاد بث أغنية فيروز القديمة "يا مينا الحبايب يا بيروت" التي تحمل إحدى أجمل الذكريات عن بيروت... وانتشرت صور للخراب الذي حل في مسرح الجميزة الذي قدمت على خشبته عروض جريئة وشابة، وصور للمكتبة الشرقية العريقة التي طاولها الانفجار ودمر أجنحتها ورفوفها وخزاناتها وقلب الكتب والمجلدات والمخطوطات المهمة. وفي صورة معبرة جداً التقطت على درج الجميزة بدا الركام يحرس لوحة جدارية للمطربة فيروز رسمت على أحد الحيطان. فيروز بين الركام، كأنها نجت من الانفجار.
شهادات مثقفين
بعض التعليقات هي أشبه بشذرات سريعة هي بنت لحظتها، كأن يقول الروائي الياس خوري مطمئناً أصدقاءه: "نحن بخير في مدينة مدمرة ومستباحة". وتقول الروائية نجوى بركات: "نحن بخير؟ أجل، لكن لسنا بخير". الشاعر والمسرحي يحيى جابر: "أوقفوا إنعاشنا. تعبنا وأتعبناكم وأنتم تنتظرون خروجنا من غيبوبتنا". والشاعر فوزي يمين: "أي فاجعة لم تحل بنا بعد يا الله؟". وصرخت الكاتبة مارلين: "أبوكاليبس بيروت". الكاتب حازم صاغية: "سكّان لبنان فائضون عن الحاجة. لم يعد لديهم ما يُنهَب. إذاً فليموتوا".
ويعلق الشاعر عيسى مخلوف قائلاً: "لا يُفاجأ بالانفجار الذي حدث في لبنان اليوم من يعرف من أيّ طينة تتألّف طبقته السياسية، وهي التي تأخذه من كارثة إلى أخرى. هذه الطبقة ومن يحميها في الداخل والخارج تعمل على تفكيك البلد واغتياله، بعد أن اغتالت عدداً من رموزه ودمّرت عاصمته وأطفأت أنواره وسمّمت ماءه ونهبت أمواله وهجّرت نسبة كبيرة من أبنائه وجعلته ساحة مفتوحة لحروب لا تنتهي.غيوم الانفجار الكبير التي غطّت سماء بيروت ستتجمّع شحناتها الكهربائية في صدور الأحرار من اللبنانيين وستنفجر، ذات يوم، كالصاعقة. لن يكون الوقت طويلاً أمام المجرمين اللصوص الذين لا يتمثّل بهم لبنان. ستنتصر لا محالة إرادة الحياة والخير والحقّ والجمال".
وكتبت الشاعرة زينب عساف: "رح نضل نبكي إذا ما عرفنا نغضب". الكاتبة هدى فخرالدين: "بيروت. ارقدي بسلام في ظلمة هذا اليوم. سيُعرّي المنافقون جراحك في الصباح". وكتبت القاصة منى مرعي: "ما تسموهن شهداء... ما حدا منن اختار يموت... هؤلاء قتلى وهناك قاتل، يجب أن يكون الأمر بهذا الوضوح وبهذه الفجاجة... أن نضع على الضحايا صفة الشهداء هو تحييد آخر لموقع قاتل ملموس ووجب البحث عنه". وكتب الشاعر وديع سعادة: "تماماً في يوم ذكرى 75 عاماً على قنبلة هيروشيما، ها أنتِ يا بيروت هيروشيما ثانية!! بيروت يا بيروت ، ماذا ينفع الكلام يا بيروت ؟! ماذا ينفع الكلام يا بيروت وقد صرتِ، ولبنان كله، بحراً من الدم والدمع؟". الشاعر شوقي بزيع: "عبثاً أحاول العثور على كلمات مناسبة لتوصيف ذلك الهول الكارثي الذي أحاق ببيروت. كأنّ ما اندلع عند الخاصرة البحرية للعاصمة اللبنانية هو الجحيم نفسه، أو كأن ما حدث هو السيناريو الأولي الممهد للقيامة". الإعلامية جيزيل خوري: "أنا مواطنة لبنانية أريد أن أعرف من يقتلنا. شعب رهينة دولة فاشلة وعصابة فرق الموت. انقذونا". الشاعر محمد ناصر الدين: "طائر الفينيق وتلك المراثي الضائعة تصح فقط لو نحّيتم سكاكينكم عن عنق هذا الطائر وأعناقنا، أو زرعناها في قلوبكم السمينة الفاجرة، مرة وإلى الأبد". الإعلامية غابي لطيف: "يا ريت كان حلم مش حقيقة، يا ريت كان كابوس مش جريمة، لبنان لم يعد يحتمل ولا شعبو".
الكاتبة سوسن الأبطح قالت: "الحقيقة كان بعد ناقصنا انفجار نيترات الأمونيوم الشديدة الاشتعال، لنتأكد أننا في الجحيم". الروائي جبور الدويهي: "تفاحةٌ للبحر... ماذا نساوي من دون بيروت؟ ريف وعشائر. ولو كان الحادث من خطأ بشري فهو يأتي في عداد ضربات تكال إلى عاصمة الحرية والتنوع لكنها عائدة ولو كره المجرمون".