لعل الأعمال التي رفض الفنانون العظام التخلّي عنها واحتفظوا بها داخل مجموعاتهم الخاصة هي أهمّ من الأعمال الفنية التي تتشكّل منها مجموعات كبار مجمّعي الفن. وإلى هذا النوع من الأعمال تنتمي اللوحات الزيتية والمائية التي يتألف منها معرض الفنان البريطاني الكبير ويليام تورنر (1775 ــ 1851) في متحف "جاكمار أندريه" في باريس. لوحات لم تفقد شيئاً من نضارتها وعفويتها، وتتجلى فيها تلك الطريقة الفريدة التي استثمر هذا العملاق فيها مفاعيل الضوء والشفافية داخل المناظر التي رسمها، وجعلت منه رائد الحداثة التشكيلية بلا منازع.
الكاتب البريطاني جون راسكين، الذي كان أحد الأوائل الذين درسوا مجموعة تورنر الخاصة، لاحظ أن هذا الفنان أنجز معظم لوحاته ب"دافع المتعة". من هنا الجرأة في تشكيلها، وبالتالي توفيرها زواية نظر فريدة للولوج إلى ذهنه ومخيلته وممارسته الحميمة لفن الرسم. وبما أن الأعمال المعروضة حالياً من هذه المجموعة تعود إلى مختلف المراحل التي عبرها بفنه، تسمح لنا بمتابعة تطوّر عمله التشكيلي من بداياته التي تتميّز بواقعية توبوغرافية إلى مرحلة نضجه التي قاد فيها اختباراته الضوئية واللونية الفاتنة براديكاليتها، علاوةً على خطّها خارطة الأسفار العديدة التي قام بها في سياق هذه الاختبارات.
عند الوهلة الأولى، قد تبدو هذه الأعمال عاديّة ومألوفة للمتأمّل فيها اليوم، ولكن تتوجب العودة بها إلى زمنها لاستنتاج جانبها الثوري. زمنٌ يسبق بمئة عام ظهورالرسامين الانطباعيين الذين بجّلوا تورنر وتعلّموا منه الكثير، هو الفنان العصامي الذي لم يتعلّم الرسم على نفسه فحسب، بل كان أوّل فنان خرج من محترفه لرسم مشاهده الخلابة في أحضان الطبيعة. وبدلاً من الاكتفاء بالمناطق الطبيعية المتوافرة في بلده، مثل رسامين كثر بعده، جال في مختلف أنحاء أوروبا لاكتشاف آفاقٍ جديدة، مدفوعاً برغبة ملحّة في التجريب.
ألوان حارة وباردة
من جهة أخرى، كان تورنر مولعاً بالنظريات العلمية حول اللون، وخصوصاً بنظرية التكامل بين الألوان الحارّة والألوان الباردة لخلق انفعالٍ ما. ولعٌ قاده إلى استثمار ابتكارات عصره في مجال الأصباغ الطبيعية، وفي مقدّمها "الكروم" الأصفر الذي فتنه إلى حد تحوّل فيه إلى لونه المفضّل، على رغم هزء النقّاد آنذاك منه لأن هذا اللون كان غائباً من لوحات الفنانين الذين اعتبروه فقيراً وفضّلوا عليه اللون الذهبي. ثم ما الحاجة إلى الأصفر لرسم البحر أو السماء؟ لكن تورنر لم يعبأ بهاجس الواقعية الذي تحكّم بعمل الرسامين المعاصرين له، فما كان يهمّه هو ليس المشهد المرسوم بل الانفعال أو الانطباع الذي يخلّفه فينا. وهذا ما يفسّر افتتان الرسامين الانطباعيين بعمله، وعلى رأسهم مونيه الذي كان يقول عن تورنر أنه كان يرسم "بعينين مفتوحتين" من شدّة الضوء الباهر في لوحاته. ضوءٌ دفعه هاجسُ تجسيد مفاعيله إلى التوقف باكراً عن الرسم على قماش غامق، كرسّامي عصره، وإلى طلاء أقمشة لوحاته كلياً بلونٍ أبيض قبل الرسم عليها. وفي ذلك أيضاً كان مجدّداً.
وهذا ما يقودنا إلى قيمة أعماله المعروضة حالياً التي لا تتجلى فيها فقط كل حساسية تورنر الرومنطيقية تجاه الطبيعة، بل أيضاً كل عبقريته في إغراق مشاهده المرسومة بأنوار الصباح الباكر الحارّة أو بأنوار المغيب المتوهّجة، وفي التلاعب بشفافية المادة وتنضيد الألوان بهدف خلق مناخات ضبابية تتوارى داخلها تفاصيل هذه المشاهد. أعمال بعضها دراسات أو اختبارات لونية أنجزها بمادّته المفضّلة، أي الأكواريل التي كان يعرف كيف يجعلها ترتجّ على الورقة حتى ينبثق الضوء منها، وتتحلّى بأحجام تعادل أحجام لوحاته الزيتية الكبيرة، علماً أنه منح نفسه حرّية أكبر في تنفيذها. وإذ تشكّل هذه الدراسات رابطاً بين رسومه الإعدادية ولوحاته المنجَزة، إلا أنها كانت تملك قيمة بذاتها في نظره. ولا عجب في ذلك، فهي ما زالت إلى حد اليوم تثير دهشة المتأمِّل فيها بحداثة تشكيلاتها.
أعمال أخيرة
وفي جوار هذه الدراسات، نشاهد في معرض تورنر الحالي نماذج عن الرسوم التي زيّن بها مجموعات شعرية كثيرة انطلاقاً من عام 1818. رسوم مشهدية أنجزها بمادّتيّ الأكواريل أو الغواش على ورق ملوَّن، لكنه كان يرسم تفاصيلها بقلم الرصاص قبل أن يضيف الألوان عليها، ويلجأ إلى ذاكرته البصرية الحادّة لترجمة مفاعيل الضوء فيها. وحتى في هذه الأعمال، يتعلّق الأمر بنقل إحساسٍ أو انطباعٍ أكثر منه بإسقاط رؤية دقيقة. من هنا ذلك الشعور الذي يتملّكنا أمامها بآنيّة مشاهدها، كما لو أن الفنان رسمها تحت مطر اسكتلندا أو في ضباب منطقة النورمندي الفرنسية، علماً أنه حقّق معظمها داخل محترفه أو في غرف الفنادق التي استقر فيها أثناء ترحاله.
لكنّ أهم ما في معرض تورنر الحالي هو عدد من اللوحات التي رسمها في العقد الأخير من حياته، بدعم من بعض مشجّعي الفن ومجمّعيه الذين افتُتِنوا بجرأة تشكيلاته، ورصدها كلياً لموضوع الضوء وانعكاساته. أعمال تتحلّل داخلها هندسة الأبنية المرسومة داخل الماء المحيط بها، وتتبلبل معالِم المشهد إثر اجتياح البياض الباهر كامل فضائها، وبالتالي تختلط العناصر التوبوغرافية إثر عمل تورنر على تصفيتها للتركيز فقط على تعانُق البحر والسماء داخل هالة من النور. أعمال تكمن كل قيمتها وحداثتها السابقة لأوانها في تقدّم المحسوس فيها بشكل راديكالي على دقة التصوير، وفي تشكيلها إذاً تأملات صافية في عالمنا.