تبدو الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة أقرب إلى استفتاء على الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب، لقيامه بشخصنة الرئاسة الأميركية، واتباعه أساليب غير تقليدية من ناحية، ونظراً لأن الحزب الديموقراطي وجد صعوبة بالغة في الالتفاف حول مرشح واحد جديد عن الساحة السياسية، أو يحمل رسالة سياسية جديدة وواضحة وجذابة للناخب الأميركي، بل أرى أن الحزب الديموقراطي أهدر فرصة ثمينة لجذب الناخبين نحو مفاهيمه للحكم، لأن الأغلبية العظمى من الناخبين الأميركيين تميل للتغيير في قيادة البلاد، خصوصاً عندما تكون هناك تحديات وصعوبات اقتصادية عامة، وقلق تجاه المستقبل.
وانتهى الحزب الديموقراطي بعد عناء طويل إلى الاقتراب من ترشيح جو بايدن نائب الرئيس السابق في إدارة باراك أوباما، على أساس أن التغيير الذي يسعى إليه الناخب سيكون التراجع عن الاستقطاب الذي يطرحه الرئيس ترمب، والحزب في ذلك قد يكون أصاب جزئياً، فهناك اضطراب في الساحة السياسية الأميركية، وقلق من الاستقطاب الحاد السائد، خصوصاً في ظل أزمة كورونا والضائقة الاقتصادية، إلا أن اختيار الحزب الديموقراطي لبايدن رهان على أن التغيير المطلوب ليس بجديد، وإنما عودة للماضي والنمط التقليدي في إدارة الأمور من خلال سياسيين أصحاب خبرة، باعتبار أن مرشحهم سياسي تقليدي، خدم سنوات طويلة في مجلس الشيوخ الأميركي، وهو مرشح توافقي فاز نتيجة للاستقطاب الذي تشهده الساحة الديموقراطية، بين مرشحين يميلون بشدة لليسار من جانب، ومن جانب آخر بسبب تفكّك وتنازع المرشحين الوسطيين الجدد الذين تغيب عنهم جميعاً الخبرة في إدارة العلاقات الدولية، أو حتى قيادة المؤسسات الحكومية الأميركية.
في هذا السياق، حظي بايدن بأكبر نسبة تأييد بين المرشحين من الحزب الديموقراطي، ويتردد أن 30 في المئة على الأقل من الناخبين الديموقراطيين يفضلون اختيار مرشح آخر، مثل محافظ ولاية نيويورك أندرو كومو، أو ميشيل أوباما زوجة الرئيس السابق، أو حتى هيلاري كلينتون التي خسرت الانتخابات الأخيرة أمام ترمب في 2016.
واللافت للنظر أيضاً أنه على رغم أن إحصاءات الرأي العام تشير إلى تقدم بايدن على ترمب بنسبة 53 في المئة مقابل 40 في المئة، فإنها تستخلص أيضاً أنّ مؤيدي ترمب أكثر حماسة وولاءً له من مؤيدي بايدن، وكلها دلالات على أن فرص فوز بايدن بالترشح الديموقراطي والفوز بالرئاسة قائمة، إلا أن تلك الاحتمالات لم تحسم بعد على أي مستوى.
ولا أعتقد أن الانتخابات الرئاسية الأميركية قد حسمت بعد، و أرجّح أنها لن تحسم إلا مع اقتراب الانتخابات، نظراً لطبيعة الناخب الأميركي الذي يميل للتغيير، لأن النتيجة تحسم عادة بفارق لا يتجاوز ما بين 2 و 4 في المئة من المشاركين، ما يجعلها تتأثر كثيراً بأحداث الأسابيع الأخيرة عامة، فضلاً عن وجود مرشح غير تقليدي مثل ترمب، وظروف استثنائية أميركية، كلها اعتبارات غير محسومة في ظل توتّر غير مسبوق في المجتمع الأميركي منذ نصف قرن، والمناخ التصادمي مع روسيا والصين، وتداعيات جائحة فيروس كورونا المجتمعية والاقتصادية، وارتفاع البطالة الأميركية إلى مستويات لم تشهدها الدول العظمى منذ أكثر من نصف قرن.
كل هذه الاعتبارات تسلّط الأضواء الإعلامية كاملة على الرئيس الأميركي ترمب، وتجعله يتحكم في الأجندة السياسية الأميركية بدرجة كبيرة، بتصريحاته التي تشكك في الخلاصات والمعلومات العلمية بمبادرته الخاصة بإعادة استئناف عجلة الاقتصاد الأميركي، والعودة سريعاً إلى نمط الحياة الطبيعية، وردود فعله الحادة والقوية أحياناً في التصدي ومواجهة لجوء بعض المتظاهرين للعنف غضباً من العنصرية في بعض الساحات الأميركية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لذا أعتقد أن الانتخابات الرئاسية الأميركية، ستكون أقرب إلى استفتاء على أداء وفلسفة وطروحات صفات وتصرفات ترمب، فهو العنصر الجاذب والفارق للناخبين، وبشكل يتجاوز كثيراً تأثير نائب الرئيس السابق بايدن، والتقويم الأساسي للرئيس الأميركي الحالي ينصبّ على نجاحه أو فشله في إدارة رد الفعل الأميركي تجاه جائحة كورونا من الجانب الصحي، وستتفاعل مع هذا الاعتبار الظروف الاقتصادية للولايات المتحدة، ونحن نقترب من الانتخابات في نوفمبر.
أما بالنسبة للقضايا والسياسات التي تؤثر كثيراً في الطبقة المسيّسة ضمن الناخبين في التباين الأيديولوجي الأساسي بين الحزب الجمهوري والديموقراطي، فيقع حول دور الحكومة في إدارة الحياة اليومية للمواطنين، إذ يميل الحزب الديموقراطي إلى زيادة الإنفاق الحكومي، والتوسّع في تقديم الخدمات الحكومية، في حين يفضّل الجمهوريون تخفيف الضرائب والانكماش الحكومي، وترك الخدمات للقطاع الخاص واقتصاد السوق. ومن ضمن القضايا الأخرى التي يبدو حولها تباين أيديولوجي واضح، قضية تحديد السياسات على أساس التحليل العلمي للمعلومات، وهو الموقف الغالب للناخب الديموقراطي، أو التشكيك في ذلك، وهو ما يميل إليه الناخب الجمهوري، الذي يعتقد أن الفكر الليبرالي اليساري يغلب على العلماء والأكاديميين، ويترجم ذلك بشكل واضح في تباين مواقف الحزبين حول قضية التغيّر المناخي، وكيفية التصدي لجائحة كورونا. وهي أحدث القضايا التي شهدت تبايناً أيديولوجياً بين السياسيين والناخبين في الساحة الأميركية.
والقضية السياسية الثالثة التي ستؤثر في نتيجة الانتخابات هي الدور الذي يراه الناخب مناسباً للولايات المتحدة في الساحة الدولية، بعد أن قرّر ترمب الانسحاب من اتفاقات دولية عدة، منها المرتبطة بالعبور الآمن في المجال الدولي للدول، والحد من التسلح والتغير المناخي، والقرار الأخير بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية.
وأتوقع أن تحظى قضية التأمين الصحي الكامل لعامة الشعب باهتمام كبير من الناخبين أيضاً، وهي قضية فاصلة بين الحزبين، وتضاعفت أهميتها والحاجة إليها بعد أحداث جائحة كورونا الذي لم تفرّق بين غني وفقير، أو بين حدود ولاية وأخرى.
أما العنصر المستجد فهو اندلاع العنف في الشارع الأميركي مرة أخرى، وبمستويات لم نشهدها منذ الستينيات حين قتل مارتن لوثر كينج، وهو عنصر له تداعيات خطرة على تقبل الناخب الأميركي حصول ترمب على ولاية رئاسية جديدة، إذا حملوه مسؤولية تفاقم المشكلة، وقد يكون عنصراً منشطاً لمؤيدي ترمب إذا حّمل الناخبون المتظاهرين مسؤولية التخريب، وأيدوا الإجراءات القوية التي يلوّح بها الرئيس الأميركي.
انخفضت فرص ترمب الانتخابية في الآونة الأخيرة، وبعد تراكم الأزمات والمشكلات التي لها تداعيات اقتصادية على بعض تصرفاته التصادمية التي أفقدته الوسط الأميركي من المستقلين، أو أعضاء الحزبين على مشارف مواقف حزبهم، وإنما قلّة جاذبية المرشح الديموقراطي لا تزال تجعل القرار الحاسم في الانتخابات الأميركية بين يدي الرئيس ترمب ورهن تصرفاته.
وترتيباً على ما تقدم، أرى أن الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة فريدة وتاريخية، باعتبارها أقرب إلى الاستفتاء في شكل انتخابات، يفوز فيها ترمب بولاية جديدة، مع تركيز الناخبين على شخصية الرئيس وليس سياساته، أو يفوز فيها بايدن من دون تقويم جاد لسياساته أو إمكاناته، أو أ ن يكون له دور مؤثر في تحديد النتيجة.
والخلاصة، أن انتخابات نوفمبر ستكون بمثابة استفتاء بين ترمب وترمب!