لا بُدَّ للبلاد التي يضرب التاريخ جذوره عميقاً فيها أن تكون السياحة من أهمِّ مصادر دخلها القومي، فبلدٌ مثل سوريا يحتوي على آلاف المواقع الأثرية القديمة والقلاع والمتاحف والكنائس والمساجد والمعابد التاريخية، كانت السياحة إحدى رئتيه التي تُؤمِّن له مُتنفساً دائماً ومتجدداً وعائدات اقتصادية مُرتفعة.
هذا ما كانت تُشير إليه الأرقام في نهاية عام 2010. فبحسب وزارة السياحة السورية، زار سوريا في هذا العام تسعة ملايين سائح من مختلف أنحاء العالم، في زيادة قُدِّرت بنسبة 40 في المئة، وبلغت عائدات السياحة آنذاك 30.8 مليار ليرة سورية (ما يُعادل وقتها 8.4 مليار دولار).
انخفاض إلى الصفر
بعد الاضطرابات والمعارك التي اندلعت في سوريا منذ مارس (آذار) 2011، بدأ القطاع السياحي في التراجع، وهذا ما صرحت به وزيرة السياحة السورية آنذاك لمياء عاصي في لقاء لها مع صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، قالت فيه إن نسبة السياحة انخفضت في بداية الأشهر الأربعة الأولى إلى 26 في المئة، ووصلت بعدها بفترة إلى 60 في المئة، مُضيفةً أن نسبة السياح القادمين من أوروبا، وهي المصدر الرئيس للسياح إلى سوريا، انخفضت إلى الصفر، حيث ألغيت الحجوزات، ورفضت شركات التأمين منح تأمين للسياح الراغبين في القدوم إلى سوريا، وعليه فإن هذا القطاع السياحي في سوريا كان الأكثر تضرراً في هذه الحرب.
وهذا ما أعادت تأكيده وزارة السياحة بداية العام الماضي عندما قدَّمت تقريرها عن الخسائر التي لحقت بقطاع السياحة في سوريا، والتي شملت بصورة تقديرية الأضرار المادية، بالإضافة إلى تدمير المواقع الأثرية والبطالة والانخفاض الكبير في الإيرادات، الذي قُدِّر في العام الماضي بـ500 تريليون ليرة سورية (ما يُعادل 2.3 تريليون دولار أميركي)، ليتضاعف هذا الرقم اليوم مع انخفاض قيمة الليرة السورية.
السياحة السوداء
على الرغم من النصائح التي وجَّهتها معظم حكومات العالم لرعاياها بعدم السفر إلى سوريا لأسباب تتعلق بالسلامة، فإأن هنالك فئة من السياح كانت ترغب بزيارة المواقع التي شهدت خراباً ومعاركَ داميةً، لرؤية ما خلَّفته من آثار. ونشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية تقريراً في نهاية العام الماضي تحدثت فيه عن زيارة موجة جديدة من السياح الغربيين إلى البلاد، في رحلات تنظمها شركات سياحية متخصصة للمرور بالقرى المُدمَّرة والاختلاط بالسكان المحليين وزيارة الأماكن الأثرية التي تعرَّضت للدمار والتخريب، وكذلك تجربة الحياة الليلية العالمية الشهيرة التي عادت إلى وسط دمشق. وكانت أغلب هذه الرحلات تتركَّز في محيط مدينة دمشق وقلعة الحصن في ريف حمص، بالإضافة إلى أطلال تدمر الأثرية في الصحراء الشرقية، حيث تُعد زيارة الأماكن المرتبطة بالدمار وقضاء الإجازات في البلدان التي لا تزال عملياً في حالة حرب، ظاهرةً جديدةً نسبياً، يُطلق عليها اسم "السياحة المُظلمة أو السوداء".
السياحة الداخلية
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جهة أخرى، نشطت السياحة الداخلية بكثافة في السنوات الأربع الماضية في المدن التي انطفأ فيها لهيب المعارك وعاد إليها الأمان بشكل كامل أو جُزئي، كالساحل السوري ومدينة دمشق وما حولها، وبعض المناطق في حمص وحماة وحلب. فالسوريون الذين اعتادوا قبل الحرب على ارتياد أماكن السياحة والاصطياف والترفيه بشكل كثيف، بخاصة أيام العطلات، جاءت الحرب وملأت حياتهم بأحداث القتل والدمار ومشاهد الدماء والخراب وحكمت عليهم بالتزام منازلهم، لكنهم ما لبثوا أن عادوا إلى نمط حياتهم السابق كل حسب إمكاناته، سواء بلجوئهم إلى الأماكن الشعبية، كمصايف الربوة وبلودان ومضايا وبقين وغيرها الكثير، أو المطاعم والمنتجعات والفنادق الفاخرة.
وحثَّت الحكومة السورية أصحاب المنشآت السياحية على اتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة تشغيل منشآتهم المتوقفة لتشجيع السياحة الداخلية والشعبية وتأمين الخدمات وإقامة الأنشطة والفعاليات المتنوعة والترويج لها. كما توافد السوريون من معظم المدن والمناطق باتجاه المدن الساحلية قاصدين أماكنها الأثرية وجبالها وشواطئها، وقد وصل الحال في آخر سنتين بسبب كثافة الحجز في الفنادق والشاليهات وبعض المطاعم الكبرى إلى ضرورة التأكد من الحجز المُسبق قبل القدوم إليها.
رحلات استكشاف
لقد دفعت الحرب بعض الفرق والجمعيات التي تُعنى بالأنشطة الاستكشافية والتوثيقية، والشركات المتخصصة بالسياحة الداخلية، إلى تنظيم رحلات استكشافية لسبر طبيعة ومعالم البلاد بشكل أكثر عُمقاً، وتوثيق تفاصيل أماكن طبيعية غير مُكتشفة بعد في الغابات والوديان وحول البحيرات والشلالات، بالإضافة إلى توفير تجربة لعيش ومراقبة الحياة البرية بكل أبعادها من مسير وصعود جبال ومبيت وتخييم وغطس وغيرها، حيث لقيت هذه النشاطات رواجاً واستحساناً لدى المشاركين، فالفريق المُنظِم كان يضع توصيات وشروطاً دقيقة على المشاركين ويوفر لهم كل مستلزمات الأمان، بدءاً من الاكتشاف الأوَّلي المُسبق للمكان المقصود وتأمين الدعم اللوجستي، وصولاً إلى متابعة المشاركين أثناء الرحلة. كما تتخلَّل هذه الرحلات زيارات متنوعة للتعرف على عادات وتقاليد بعض المناطق الريفية في الزراعة والطبخ والفنون التراثية، وكذلك توثيق للنباتات والحيوانات في البرية السورية، وبذلك توجَّه السوريون لاكتشاف تفاصيل البيئة المُحيطة بهم، حيث أبدوا مفاجأتهم بوجود مناطق كهذه في البلاد مع مقارنتها بأماكن تحظى بشُهرة عالمية خارج سوريا، فكانت فرصة للتوجه نحو الداخل والتعرف على طبيعة البلاد في فترة باتت فيها خيارات السفر والاستجمام الأخرى صعبة جداً، أو شبه معدومة أحياناً، الأمر الذي حوَّل خيار السياحة الداخلية لخيار قوي ومنافس، ربما سيستمر عند الكثيرين حتى بعد توفر خيارات وفرص السفر الأخرى.
الأماكن الدينية
إضافةً إلى ذلك لم ينقطع السوريون عن زيارة الأماكن السياحية الدينية. ففي المحن والشدائد يُصبح الإنسان أكثر قُرباً وحاجةً إلى التواصُل الروحي للصلاة وطلب الصبر والسلام ورد الأذى، فمن المساجد إلى الكنائس إلى المزارات، توافد السوريون إلى هذه الأماكن التي لا يخلو محيطها أيضاً من المناظر الطبيعية والمنشآت السياحية الشعبية منها والفاخرة.
وفي حين كان هذا القطاع يُوفِّر قبل عام 2011 من 15 إلى 30 في المئة من الأعداد الكلية للسيَّاح، وفق أرقام وزارة السياحة، لا تزال سوريا تستقبل عدداً من السيَّاح الراغبين بزيارة هذه الأماكن على اختلافها، وبخاصَّة تلك الواقعة في دمشق، حيث يأتي معظمهم من دول الجوار ونسبة قليلة جداً تأتي من بلدان أخرى غربية أو أوروبية.