لم يمنع وباء كورونا المنتشر عالمياً، وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، من زيارة سبع عواصم إفريقية وأوروبية خلال أقل من أسبوعين، في جولة كان عنوانها الرئيس في شقها العربي احتواء الأزمة الليبية، والتأكيد على دعم إعلان القاهرة، للتوصل إلى حل سياسي، يوقف نزيف الحرب الأهلية.
السعودية حذرت من تدويل الأزمة
وقبل التحركات الدبلوماسية المحملة برسائل أخرى لا تقل أهمية، مثل ضرورة إبعاد ليبيا عن التدخلات الخارجية، دانت السعودية، في مستهل العام الحالي، التصعيد التركي بإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا، وهي خطوة سبقت تفاقم التوترات بين البلدان الأوروبية وأنقرة على خلفية التنقيب عن النفط في البحر المتوسط.
ومع تصاعد النزاعات الإقليمية في ليبيا، استهل وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، جولة خارجية بدأها من مصر والجزائر وتونس والمغرب، وتُوّجت بعقد مباحثات في فرنسا وقبرص وإيطاليا، حيث أكد من العواصم السبع، حرص الرياض على التواصل الدبلوماسي مع دول البحر المتوسط، وعدم تدويل الأزمة كونها شأناً ليبياً أولاً وعربياً ثانياً.
وفي خضم المداولات السياسية التي لا تزال مستمرة، لا يستبعد الباحث في الشأن التركي، محمد الرميزان، تصعيد السعودية سياسياً ودولياً في حال وجود ما يستدعي ذلك، مشيرا إلى أن موقفها، الذي أعرب بوضوح عن استنكاره التدخل التركي في ليبيا، عبر كذلك عن دعمه للحل السياسي الدبلوماسي بشكل غير محدود ودعوة الفرقاء الليبيين لطاولة المفاوضات.
ووسط المتغيرات العاصفة بخارطة ليبيا، إثر التدخل التركي الذي عدّته القاهرة تهديداً لأمنها القومي، وانقلاباً على موازين القوى في شرق المتوسط، لم تتوان مصر عن دعم حكومة المشير حفتر، وقوات الجيش الوطني الليبي التي تسيطر على شرق البلاد، فيما أكدت السعودية، تأييدها للرؤية المصرية، وموقفها الثابت من أهمية حل الأزمة من خلال المشاورات السياسية السلمية.
وفي السياق ذاته، يزيد تلويح القاهرة بالخيار العسكري لردع أي ممارسات تتهدد أمنها القومي إمكانية اللجوء إلى سيناريوهات التصعيد، وهي احتمالات يُعتقد بأن السعودية لن تتوانَى في دعمها، لا سيما أن موقفها المتسق مع مصر ودول البحر المتوسط يناهض أي دعم أجنبي قد يطيل الحرب الأهلية في ليبيا، مثل إرسال أنقرة مئات الضباط ومعدات وطائرات بدون طيار إلى طرابلس.
التسوية السلمية خيار مثالي لكنه معقد
لكن في ظل تزايد التدخلات الأجنبية واشتداد حرب الوكالات بالمنطقة العربية، يزداد الحل السياسي الذي تطرحه القاهرة تعقيداً، فتشكيل كل من مجلس رئاسي، وحكومة تلبي احتياجات الشعب الليبي، وإيلاء مجلس النواب مسؤولية الإشراف على الحكومة، ليس مهمة سهلة، فضلاً عن التوزيع العادل للثروة، والوقف الرسمي لإطلاق النار، وإعادة ضخ البترول، وغيرها من محددات الرؤية المصرية.
ومع ذلك، كان الموقف السعودي بشأن ليبيا مسانداً لمبادرة الرئيس عبد الفتاح السيسي في السادس من يونيو (حزيران)، بل وسارعت السعودية إلى الإلقاء بثقلها السياسي لإيجاد تأييد عربي ودولي، إذ سافر وزير خارجيتها بعد يوم من زيارته القاهرة، إلى الجزائر وتونس ليؤكد من هناك دعم بلاده جهود دول الجوار بما يضمن تنسيقاً بين مصر والجزائر وتونس، يتجاوز الخلاف حول ملف تسليح القبائل الليبية.
وبعد مباحثات مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ووزير الخارجية صبري بوقادوم، قال الأمير فيصل بن فرحان، "ناقشنا بشكل مكثف الأزمة في ليبيا. هناك توافق، أعتقد، بين السعودية والجزائر حول حل ليبي - ليبي يفضي إلى تسوية سلمية تنهي الصراع وتحمي هذا البلد الشقيق من الإرهاب والتدخلات الخارجية".
وأفضى التطابق في الرؤى بين تونس والسعودية بشأن التحدّيات التي تواجهها المنطقة إلى تأكيد الجانبين أن حل المسألة الليبية لا يمكن أن يكون إلا سلمياً، ومن دون أي تدخلات أجنبية، إذ أعرب الرئيس قيس سعيد بعد استقباله الوزير السعودي عن حرص بلاده على تقريب وجهات النظر بين الفرقاء الليبيين.
لكن هناك تحدياً في تونس يتمثل، بحسب الكاتب جبريل العبيدي، في تنافس رئيس البرلمان راشد الغنوشي، مع الرئيس التونسي في خلق رئاسة برلمانية موازية، إذ يقول الباحث الليبي في مقال له بصحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، إن "الدور التونسي تراجع وأصبح رهين مغامرات الغنوشي، ومجاهرته بدعم حكومة الوفاق غير الدستورية، وتدخله في الشأن الليبي"، في حين نفى الغنوشي وجود أي تنافر بينه وبين الرئيس قيس سعيد، وقال في تصريحات لوكالة الأناضول، إن "من يحتج على تواصله مع حكومة الوفاق، يريد بديلاً عن الشرعية".
وفي المحطة السعودية الرابعة، أعرب وزير خارجية المغرب عن رفض بلاده التدخل العسكري في ليبيا الذي "يُعقّد إيجاد الحل السلمي، ويهدد أمن واستقرار شمال إفريقيا والمنطقة العربية برمتها". هذا التوافق يشير إليه العبيدي، بقوله إن "الدور المغربي الراعي السابق لاتفاق الصخيرات، بعد زيارة رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح للرباط، أصبح يدرك ضرورة إعادة النظر في اتفاق الصخيرات المغربي، لكونه لم ينفذ بشكله الصحيح، وتم التلاعب على بنوده وعرقلة تنفيذه، خاصة بعد فشل حكومة الوفاق الناتجة عنه، والتي تحالفت مع الميليشيات وأصبحت تمثل طرفاً في النزاع لا سلطة توافقية بين الليبيين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مخاوف من التدخل التركي
وتصاعدت حدة الانقسام الليبي بين القوى المتنازعة على السلطة بعد سقوط نظام القذافي، مما أدى إلى نشوب حرب أهلية بين سلطتين الأولى، تحت لواء الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، والثانية، تحت لواء حكومة الوفاق الوطنية بقيادة فايز السراج، فيما أدى فشل مؤتمر برلين مستهل العام الحالي، في تقريب وجهات نظر طرفي النزاع، إلى تدخل أطراف دولية عدة تسعى للاستفادة من الوضع السياسي والدولي وحماية مصالحها وأمنها الإقليمي.
وبدأ التدخل التركي في ليبيا منذ أكثر من عام مع بوادر تقارب مع حكومة الوفاق، وتوقيع اتفاقية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، للحصول على الدعم العسكري التركي وترسيم الحدود البحرية، وهكذا دعمت أنقرة حكومة الوفاق عسكرياً لمواجهة الجيش الوطني الليبي عندما اقترب من طرابلس، كما خاضت معركة سياسية في الداخل للدفع بالبرلمان التركي لقبول مقترح إرسال قوات عسكرية.
ووسط مخاوف عربية وتنديد سعودي، كان التساؤل المطروح ما مصلحة تركيا من تحويل صراع أهلي إلى ملعب للقوى الإقليمية، في ظل مشاكل اقتصادية تعكسها انهيارات الليرة التركية من وقت لآخر، وعما إذا كان ذلك - أي التدخل في ليبيا - يشكل انقلاباً على مبدأ "صفر مشاكل" المنبثق عن سياسات حزب التنمية والعدالة الحاكم، الذي عُرف عنه اعتماده على قوة تركيا كدولة تجارية، وعلاقاتها مع جميع اللاعبين في الشرق الأوسط؟ تساؤلات عديدة طُرحت مع عسكرة أنقرة لنهجها، الذي بات مؤشراً مقلقاً للبلدان العربية ودول شرق البحر المتوسط، فضلاً عن الولايات المتحدة وأطرف أخرى في الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي "الناتو"، والأمم المتحدة.
مجلة "فورين بوليسي" أرجعت في أحد تحليلاتها، اعتبار تركيا الملف الليبي على قائمة أولويات سياستها الخارجية، إلى أن أنقرة لم تعد متصالحة مع كونها مجرد ذخيرة للتحالف عبر الأطلسي أو عضواً طموحاً في أوروبا، وفيما كان سبب الشراكة من جهة الوفاق واضحاً، طُرح استفهام فحواه لماذا يدخل أردوغان الذي تواجه حكومته تحديات اقتصادية فاقمها وباء كورونا، في مغامرة عسكرية على بعد 1200 ميل من بلاده، وما المصلحة التي يمكن تحقيقها؟
وبغض النظر عن عقود إعادة البناء المربحة المحتملة للشركات التركية، فإن الأسباب وراء استعداد تركيا للخوض في الحرب الأهلية الليبية، تلخصها المطبوعة الأميركية في ثلاث نقاط، الأولى، تعود إلى مساعي رئيسها لتسليط الضوء على ذلك المبدأ الذي يحرك السياسة الخارجية خلال حقبة حزب العدالة والتنمية، المتمثل في المناصرة العلنية للقضية الفلسطينية، والإصرار على ضرورة رحيل بشار الأسد، ومعارضة الحكومة المصرية، إذ إن دعم حكومة الوفاق في ليبيا بات متسقاً مع الفكرة القائلة بأن أردوغان سعى إلى تعزيز موقف أنقرة، بصرف النظر عن الجهات الدولية الفاعلة، في وقت تخدم هذه الأطروحات، الحزب والرئيس المتطلع إلى ولاية جديدة في انتخابات عام 2023.
ثانياً، "تحركات أنقرة في ليبيا هي في الواقع تحركات مضادة للعلاقات المزدهرة بين اليونان ومصر وقبرص وإسرائيل، رغم عدم وجود غاية أمنية من وراء مجموعة الاستثمار الرامية إلى استغلال احتياطيات الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط"، وترجح فورين بوليسي أن علاقات تركيا المتوترة مع هذه الدول، دفعت الأتراك إلى التكهن بأن حريتها في الملاحة في المنطقة يمكن أن تضيق بسبب الروابط المتنامية، التي تحظى بدعم أميركي، والطبيعة المتشابكة للمناطق الاقتصادية اليونانية والمصرية والقبرصية والإسرائيلية.
ثالثاً، "ليبيا هي المكان الذي يمكن لتركيا أن تتحدى فيه خصميها الإقليميين، مصر والإمارات العربية المتحدة، وترث القاهرة وأنقرة خلافاً معروفاً في القضايا الكبرى التي تعكر صفو الشرق الأوسط، مثل الموقف من جماعة الإخوان المسلمين، وهكذا توجّه دعم تركيا للوفاق، بينما ألقت القاهرة بثقلها لمساندة حفتر، وتشاركها في ذلك الإمارات التي تصنف الإخوان المسلمين ضمن قائمة المنظمات الإرهابية منذ عام 2014".
الأحزاب التركية منقسمة
وبحسب محمد الرميزان، فإن التدخل العسكري في ليبيا، وقبله في سوريا والعراق، وإنشاء قواعد عسكرية في المنطقة العربية في دولتي قطر والصومال، تعد أموراً ظاهرة في السياسة الخارجية التركية، وتؤكد اتساع رقعة نفوذ الدولة التركية خارج حدودها، وهذه العوامل هي التي تدفع القوى الدولية والإقليمية والعربية لاتخاذ اللازم وتقييم المتغيرات للحفاظ على الأمن القومي وتجنب الصراعات الدولية والتدخلات العسكرية.
وخلص الباحث في الشأن التركي إلى القول بأن أبعاد التدخل في ليبيا تتمثل أولاً في التأكيد على النفوذ التركي إقليمياً وتحديداً في منطقة البحر المتوسط والمنطقة العربية، وإيجاد حليف ما بعد المتوسط وهو حكومة الوفاق، ومن ثم الحصول على دعمها في قضية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا للبدء بالتنقيب عن حقول الغاز البحري في وسط وشرق المتوسط، وهي الخطوة التي تعارضها اليونان وقبرص الجنوبية ومصر.
لكن التوقعات تشير إلى أن التدخل التركي المدعوم من حزب العدالة والتنمية الحاكم، سيسهم في زيادة الخلافات في الداخل التركي لا سيما من قبل الأحزاب المعارضة كحزب المستقبل والديموقراطية والتنمية المؤسسين حديثاً ومن قبل شخصيات مهمة كداود أوغلو وعلي باباجان من جهة، ومن جهة أخرى زيادة حدة الخلاف بين أنقرة والقوى الإقليمية كقبرص واليونان وفرنسا والدول العربية الأكثر تأثيراً كالسعودية ومصر.
الدول المنفردة أم التكتلات الإقليمية؟
ويعتبر مراقبون أن الجهد الدبلوماسي المتسارع أخيراً، يشكّل توقاً سعودياً إلى إعادة التوازن بين المكونات في منطقة الشرق الأوسط، واستعادة زمام المبادرة بتكوين تحالف عربي ثنائي أولاً مع مصر ليتوسع ويشمل دول الجوار الليبي تونس والجزائر اللتين أكدتا موقفهما من التوجه السعودي، والسعي لإيجاد تأييد دولي، وهو ما انعكس في لقاء الأمير فيصل بن فرحان بنظيره وزير الخارجية الفرنسي الذي تلتقي بلاده مع الرياض على رفض الوجود التركي على الأراضي الليبية.
ويقول الدكتور عبد الله العساف، إن الرياض أدركت أن الخارطة السياسية في العالم لا تسمح بوجود الدول المنفردة، وإنما الحل هو بالتكتلات الإقليمية والدولية، وأضاف أن تعددية الملفات وتداخلها، يؤكد أن ثمة مسؤولية كبرى تُلقى على عاتق الدبلوماسية السعودية في تحركاتها، إذ إنه في ظل حالة الفراغ الإقليمي الناشئة عما شهدته المنطقة خلال الخمس سنوات الماضية، فُرض على السعودية الانغماس في كثير من أزمات المنطقة ومشكلاتها، وهو ما أثقل دبلوماسيتها بأعباء كثيرة تطلب التعامل معها بحرفية وكفاءة.
لكن الرياض، بحسب أستاذ الإعلام السياسي، لم تتوانَ عن ترتيب البيت العربي الخارجي، وهو ما يعكسه النشاط الدبلوماسي النشط والزيارات التي قام بها وزير الخارجية السعودي خلال الفترة السابقة، والتي تعبر عن الحاجة إلى التحالفات الثنائية الإقليمية لإيقاف النفوذ التركي في ظل تجدد المخاوف من استنساخ التجربة الإيرانية، على حد تعبيره.
واشتدت الخلافات الإقليمية بشأن الملف الليبي بعد الاتفاقية البحرية المثيرة للجدل بين أنقرة وحكومة الوفاق الوطني أواخر نوفمبر التي تتيح لتركيا توسيع حدودها البحرية في منطقة غنية بالنفط من شرق المتوسط.
ومنذ 2011، تشهد ليبيا التي تملك أكبر احتياطي نفط في إفريقيا نزاعاً مسلحاً بين حكومة الوفاق ومقرّها طرابلس، والجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، الذي يسيطر على شرق البلاد وجزء من جنوبها والمدعوم من البرلمان ومقرّه طبرق.