دخلت قصيدة النثر في منتصف التسعينات مرحلة تحول كبير في جمالياتها، فبعد جيلى السبعينات والثمانينات اللذين لم يغفل شعراؤهما القضايا العامة وأهمية المجاز وضرورة الإيقاع الذي يتسع مفهومه ليتجاوز الإيقاع التفعيلي، جاء جيل برؤى مغايرة؛ منها الاهتمام بالجزئي والهامشي والتفاصيل اليومية الصغيرة والتخلص من المجاز الاستعاري الكثيف واستبدال الصور الكنائية والمشهدية به واستخدام لغة تداولية تتسم بأحادية الدلالة والاهتمام بنوازع الجسد. وتداولُ مثل هذه "الوصفة"، أدى إلى ما يمكن تسميته بكلاسيكية قصيدة النثر أو تقليديتها وانتقال وصفتها – على سبيل الاستنساخ – من شاعر لآخر. غير أن الشعر بإبداعيته المتجددة ثار على هذه التقاليد وتلك المجانية التي تمحو خصوصية الشاعر.
من هذه الزاوية يمكن النظر إلى ديوان "أكلنا من شجرته المفضَّلة" للشاعرة رضا أحمد، الذي فازت مخطوطته بجائزة الشاعر حلمى سالم في دورتها الأولى التي نطمها "منتدى الشعر المصري" بالتعاون مع دار "الأدهم" للنشر.
لم تكرر الشاعرة تلك الوصفة الجاهزة، بل سعت إلى تحقيق صوتها المتميز، فلسنا – مثلاً – أمام لغة تقوم على "التقشف" الجمالي والتداولية وأحادية المعنى، بل أمام لغة لا تجافي ثراء المعنى وانفتاح تأويلاته. ويتجلى ذلك منذ العنوان الذي يحيل إلى شجرة "الخطيئة" التى حرَّمها الله على آدم وحواء، وعندما أكلا منها تبدت لهما سوءاتهما، ما يعنى معرفتهما بطبيعتهما البشرية. لكن الشاعرة لا تجعل من هذه الشجرة شجرة خطيئة أو معرفة، بل تصفها بالشجرة المفضلة، ما يعني الابتعاد عن المعنى الموروث وإن كان متقاطعاً معه. وهكذا تنفتح دلالات هذه الشجرة التي قد تكون شجرة الحياة أو شجرة الحب بوصفه منقذاً للإنسان من اغترابه وحزنه ووحدته. وهى تيمات تشيع بكثرة داخل الديوان. تقول الشاعرة في السطور التي تتصدر الديوان: "كنتُ طوال هذه السنوات/ وحيدة وخائفة/ جبانة بشكل ما/ نطفة باقية من جريمة كاملة/ اعتنى بها كما ينبغي/ أرشيف المحفوظات/ كحِرزٍ ينمو للعثور على جثة". ولا شك أن هذه السطور تعد مرآة أولى لعالم الديوان حيث تشير إلى الوحدة والخوف والجُبن مِن مواجهة الحياة التي تشبه جريمة كاملة ضاعت جثتها التي لا يدل عليها سوى حِرزٍ ظل ينمو طوال هذه السنوات.
وفي قصيدة "وتلك الثقة تكلفك الكثير"، يبدو "الموت" على غير صورته الموروثة حين "تنشب المنية أظفارها" في مَن تصيبه، بل أصبح "ضيفاً" مألوفاً للعائلة وإن كان الجميع لا يستطيعون رفع الكلفة معه. تقول رضا أحمد: "الموت ضيف العائلة/ لا أحد يرفع الكلفة بالقرب منه/ خوفٌ ما جعلنا الآن/ نستخدم مكبرات الصوت في وداعه/ لقد فضحنا ما أكله/ وعايرناه بملابسه النظامية الرثة/ وأرضه التي لا ينبت فيها إلا العظام والجماجم".
استعارات مبتكرة
صحيح أن صورة الموت – هنا – تقترب من صورته القديمة إلا أنها تظل محققة لخصوصيتها وتميزها من خلال هذه الاستعارات المتتالية المبتكرة التى تقوم على تشخيص الخوف والموت ورؤية العظام والجماجم بوصفها ثماراً وخيمة تنبت في أرضه. ومن الواضح أن الشاعرة لا تتأمل الموت بصفة تجريدية بل تتأمله متداخلاً مع نسيج الحياة ومتبدياً فى تفاصيلها وانعكاس كل ذلك على الذات حين تقول: "أنا نفسي رصيدٌ ضخم من الحزن واليأس/ سأروق للموت يوماً ما/ لكن لا يعجبني أن أنتظره/ فيما هو جالسٌ يرمق أمي بمحبة وأبي بفضول/ وإخوتي مشغولون ببناء مقبرة/ تتسع لوليمة تجمعنا كعائلة". فالمنايا لم تعد "خبط عشواء من تصيبه تُمِته"، كما كان يقال، بل أصبح الجميع ينتظرونها ويتأهبون لها. وإذا كانت الشيخوخة – غالباً – تمهيدا للموت أو مقدمة له، فإن الشاعرة ترى فيها نوعاً من الجمال: "أرى في تجاعيد الوجوه التي تنساب أمامي جمالا آخر/ خطوطاً حقيقية رسمتها اليدُ العليا". وهكذا يتم تفكيك مفاهيم الموت والحياة وإعادة تركيبها بما يتوافق مع الرؤية الشعرية لها التي ترى الجمال في نقائضه.
وامتداداً لهذه الرؤية التي تتداخل فيها المتناقضات تمتدح الشاعرة "الأغلال"؛ لأنها في "ساق وردة". فإذا كانت الساق تقيد الوردة بالأرض، فإنها ترتفع بها. ولنا أن نتعامل مع هذه الدوال على أنها معادلات موضوعية لأشياء أخرى وليست مقصودة في ذاتها، بل تمهد لحكمة القصيدة أو تيمتها الرئيسية وهي أننا نشبه – في الغالب – "مرثية تعذَّر فيها ذكر اسم الوطن/ حيث الألم في كل مكان/ والموت ينتظر في نهاية المتاهة". وهو ما يذكرنا بما كان يقوله النقاد قديماً عن "بيت القصيد" وما أسماه شكرى عياد، حديثاً، بضالة القصيدة التي تظل تبحث عنها حتى تقتنصها في أحد أبياتها. وتطرح قصيدة "أمارس الموت كعمل تطوعي" سؤالاً عن كيفية معايشة الموت أو ممارسته يومياً، ما يعني أن الموت يأخذ أبعاداً تتجاوز بعده الفيزيقي. لهذا تتعدد الإشارات إلى النمل الذي يصنع بيوته من التراب، وإلى السفينة التى تحاصر عطشها على الشاطىء وإلى "الحلوى العالقة بين فخذي عروس/ يزفها القمر كل ليلة إلى رجل مُسِن". لكن الشاعرة لا تستسلم لهذه الحالات حين تتذكر أنها كانت وردة تربك حركة الريح حين تتنهد أو حين تستمد الحياة من علامات الموت في قولها: "أريد أشياء تجعلني أتمسك بالحياة/ كلوحة تضم عائلتي يرتفع فوقها الشريط الأسود/ كما لو أن لي حفيداً يهتم بإحصاء المتبقي مِن جذوره/ أريد مأساة تخصني/ وشمعة ينتقل إليها الضوء من رأسي حين أموت".
ومن المهم أن نلاحظ تزاوج الماضي الممثل في العائلة الراحلة والمستقبل الذي يمثله ذلك الحفيد الباحث عن جذوره. وفي السطر الأخير تتمنى لو كانت قادرة على إضاءة شمعة قبل أن تموت ولا يخلو انتقال الضوء من الرأس تحديداً من الدلالة على الإبداع بوصفه النور الذي يفتح آفاق المستقبل. وهو سطر يذكرنا بقول لوركا: "إذا مت دعي النافذة مفتوحة". وبما أن الحياة هي الحب تحديداً كما كان يقول أمير الشعراء أحمد شوقي، فإن الشاعرة تسعى وراءه بوصفه ممثلاً لحقيقة الحياة. تقول فى "معبر هادىء بين حطامك وضحكتي": "كنتُ راغبة في الحب/ في اقتناء لمسة واحدة/ لا تزول رغبتها/ وندوبها/ لا تهرب من جسدي أو ذاكرتي".
صراع الروح والجسد
والجمع بين الرغبة والندوب يعدّ امتداداً للرؤية الشعرية الموروثة للحب الذي يجمع بين النعيم والعذاب، وفكرة اقتناء لمسة لا يهرب أثرها من الجسد. إنها تستدعي النزعة الحسية وصراع الروح والجسد وتكاملهما أحياناً حين تقول في قصيدة "وهل كانت لدينا حكاية أخرى": "على الحب أن يكون طليقاً أحياناً/ وعلينا أن نراقب خطورة الجسد/ حين يصير رحباً مباحاً ومهمشاً/ والروح حين تعود في الليل إلى عزلتها/ وتلهث بجانب سرير جثة فاسدة/ ككلب انتهت علاقته بالموسيقى/ حين جرَّب النباح خلف عظمةٍ/ بدلاً من التغزل في قرص القمر". ومن الواضح أن الشاعرة تنأى عما يسمى بالقصيدة الإروتيكية التي شاعت كثيراً، فهي حريصة على مراقبة "خطورة الجسد"، و"عزلة الروح"، واستبدال النباح خلف عظمة – لاحظ الصيغة التهكمية من الجسد – بالتغزل الرومانسي بقرص القمر. على أن هذه الصيغ التهكمية تزداد وضوحاً في قصيدة "بالمنطق نفسه تتخذ الكراهية شكل البنفسج"؛ حين نقرأ: "ليس للحب علاقة بالملصقات الساكنة في الجسد/ كالعين والقلب وبراعم النهد/ وشبكة التفاعلات الشائكة بين الشفاه وتقلصات الرحم/ للحب تأثير زهرة اللوتس/ كل شىء يكمن في الخفة/ في صميمك لا تجعل أي شىء يفسد وهج روحك/ ونظافة مساحتك الشخصية".
هذه سطور حاسمة في تحديد رؤية الشاعرة للحب الذي تنأى به عن "الملصقات الساكنة في الجسد"، وترتقي به إلى أن يصبح تأثيره شبيهاً بتأثير "زهرة اللوتس"؛ لتظل الروح محتفظة بوهجها وخفتها. وفي هذه الحالة تنبثق لحظة الإشراق وسط "وحل" الواقع. تقول: "ألق بذورك في الوحل/ وكن على ثقة أنها تعرف طريقها إلى النور/ وإليك". إن رضا أحمد قادرة على إدخال مثل هذه المفاهيم في نسيج شعري مبتدع؛ حتى وإن لم تعد هذه المفاهيم تهم أحداً غيرها. تقول في "قبلة تتنفس في وسيلة وداع": "بيدي أحشر كلمات لم تعد تهم أحداً في حلقي/ مثل الحب، الخير، الجمال، الحق والصدق/ وأقفز وأبتسم/ أبكي/ أرج حنجرتي كثيراً/ أتحدث ببراءة عن طفولتي التي أطلقت سراحها/ مع المطر والفرح وفي حضن يؤلمني".