طوال السنوات التي تلت رحيل القائد الأوركسترالي النمساوي هربرت فون كارايان قبل أكثر من ثلاثين سنة من الآن، ازدحمت المكتبات بأعداد من الكتب والدراساتِ التي تتناول سيرته بقدر ما ازدحمت محال بيع الأسطوانات بأعماله التي أتت تسجيلات أُنجزت طوال حياته لأبرز الأعمال الموسيقية في تاريخ البشرية. ولكن بقدر ما كانت هذه الأخيرة، في معظمها تحفاً إبداعية، جاء معظم الكتب متهافتاً لا يهتم من جوانب حياة فون كارايان المتعددة والمتنوعة إلا بما شابها من طابع إيديولوجي يتعلق خاصة بتلك السنوات التي انتمى فيها إلى الحزب النازي الألماني (بدءاً من العام 1935 وحتى زواجه من زوجته الثانية ذات الجذور اليهودية، آنيتا خلال الحرب وبدء تجنبه أي اختلاط بالنازيين). ونعرف أن ذلك الإلحاح من قبل المؤرخين والباحثين قد شوّه سمعة الموسيقي إلى حد كبير تشويهاً أشعره بالمرارة ودمّره في نهاية الأمر. ولقد احتاج الأمر إلى سيرة حاسمة موثقة مفصّلة ودقيقة تصدر عنه لكي يستعاد اعتباره حتى وإن كانت قد صدرت بعد رحيله بسنوات.
هذه السيرة كانت تلك المؤلفة من قسمين وضعهما الإنجليزي ريتشارد أوزبورن الذي يعتبر سيّداً من كبار سادة التأريخ والنقد الموسيقيين في العالم: جزء أول هو عبارة عن حوارات مطولة كان المؤلف قد أجراها مع فون كارايان على فترات متقطعة؛ وجزء ثان وهو الأهم، يضم مئات الصفحات ومتابعة لحياة فون كارايان مرحلة مرحلة. ولعل ما يميّز هذا الكتاب الأخير هو أنه، وعلى عكس القسم الأكبر من الكتب السابقة التي صدرت عن الموسيقي، ركّز اهتمامه على الجانب الفني والمهني من حياة فون كارايان ومساره، من دون أن يغرق في تلك الصغائر التي وسمت معظم النصوص المؤدلجة التي تناولته.
تفاصيل سياسية ولكن
ومع هذا لم يهمل أوزبورن الجانب السياسي الثابت تاريخياً، تحدث عنه ودانه ولم يسعَ لا إلى تفهّمه ولا إلى تبريره لكنه أشار بوضوح إلى أن فون كارايان، على الرغم من عضويته في الحزب النازي، لم يكن له أي نشاط سياسي أو حزبي على الإطلاق، بل إنه لم يستنكف عن أن يقدم في برلين وغيرها وحتى خلال أقسى السنوات النازية، أعمالاً لا يمكن للنازيين أن يرضوا عنهم بأية حال من الأحوال. بالنسبة إلى أوزبورن لم يكن فون كارايان مولعاً بالسياسة ولم يكن مهتماً بها. كانت الموسيقى وتحديداً قيادة الأوركسترا، شغفه الأول والأخير. وربما كان يرى أيضاً أن نشر الموسيقى إنما هو فعل تنويري يمكنه التصدّي لظلمات الأيديولوجيا، وتخلفها. وأوزبورن عرف كيف يركز على هذا الجانب من سيرته. وبالتالي كان موفقاً في تلك الرحلة التي قام بها ليس فقط في مسيرة الرجل، بل كذلك في زمنه وفي الأفكار المتعددة الأبعاد التي سادت في ذلك الزمن جاعلة أصحاب الحساسية الإبداعية من أمثاله يتأرجحون بين شتى الأفكار والمذاهب من دون أن يتركوا أيّاً منها يستولي عليهم في جوانيّتهم، وبالتالي "لم يكن ممكناً لفون كارايان أن يكون نازياً حتى ولو انتمى إلى الحزب النازي". ولتقديم الدليل القاطع على هذا صوّر الكاتب في مئات الصفحات العلاقة الإنسانية التي قامت بين الموسيقي وفنه، علاقة تتخطى الأيديولوجيا وتسمو عليها. وفي طريقه قادنا أوزبورن في مجاهل عالم الموسيقى ودسائسه ومناوراته وزواياه المظلمة، متوقفاً بصورة جديدة تماماً عند العلاقة السردابية التي قامت بين النازية والموسيقى، وبدا حريصاً على أن يرسم ذلك كله من منظور فون كارايان نفسه ما أضاف إلى متعة الكتاب وجدواه، وأوضح للمرة الأولى أموراً كثيرة كانت غامضة حتى على فون كارايان نفسه.
الكتاب الحاسم
والحقيقة أنه لن يكون من المبالغة القول إن هذا الكتاب حسم الكثير من الأمور التي تمسّ حياة هربرت فون كارايان وتشعّبات تلك الحياة وصراعاتها، هو الذي كان حتى بعد رحيله عن عالمنا في يوليو (تموز) 1989، عرضة لشتى أنواع الهجوم، ولا سيما من قبل تلك الأوساط التي كان همها أن تؤكد إن هذا الموسيقي الذي اعتبر أكبر قائد للأوركسترا أنجبه القرن العشرون، "لم يكن في حقيقة أمره سوى صنيعة النازيين وكان متواطئاً معهم". ونعرف أن هذا الكلام انتشر بسرعة وقوة خلال السنوات التالية لموت هربرت فون كارايان، حتى وإن كان قد اختفى نوعاً ما ليندثر إلى حد كبير مع صدور كتابَي أوزبورن، بخاصة أن الأوساط الموسيقية العالمية، ومستمعي الموسيقى - وهم المعنيون، أولاً وأخيراً، بماضي فون كارايان ومسيرته -، فضلوا دائماً أن يتعاملوا معه كموسيقي محبٍ للكمال ساعٍ إليه، غير مفضّل على الموسيقى أي شيء في العالم، بدلاً من أن يتعاملوا معه، كما شاء، خصومه، كناشط سياسي وقف إلى جانب هتلر.
صحيح أنه كان في حياة فون كارايان وهو أمرٌ لا يتملّص منه أوزبورن، بعـض الظلال، ومن بينها تتلمذه على قائد الأوركسترا فورتفانغلر، الذي كان معروفاً، بممالأة النازية والسكوت عن جرائمها، ومن بينها أيضاً قيادته أوركسترا برلين السيمفونية في وقت كانت الأوساط الموسيقية العالمية تقاطع كل ما هو ألماني باعتباره صنواً للنازية والهتلرية، غير أن فون كارايان نفسه، كان دائماً ينفي عن نفسه أي لون سياسي قائلاً إن ما يهمه أخيراً هو الموسيقى، والموسيقى ولا شيء غير الموسيقى. ولأنه كان على حقٍ في ذلك، أي على حقٍ في التعبير عن موقفه الحقيقي، الموسيقي، من الحياة، كانت النتيجة أنه رحل، وصمتت، ولو إلى حين، الأصوات التي حاولت النيل من سمعته، بينما بقيت موسيقاه، وتسجيلاته التي تعدّ بالمئات، حيةً ينصت إليها هواة الموسيقى من دون هوادة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذروة المجد في برلين
المهم أن فون كارايان، على غرار موزار الذي أحبه وخدم موسيقاه طوال أيام حياته، كان نمسوياً ولد وترعرع في مدينة الموسيقى والأوبرا وموزار، سالزبورغ. وهـو درس الموسيقى في تلك المدينة نفسها، متوجهاً منذ البداية ليكون قائد أوركسترا. ولقد كان أول ظهور له كقائد، في العام 1927 وهو في التاسعة عشرة من عمره، وذلك في مدينة أولم حيث قاد أوركسترا المدينة وهي تعزف السيمفونية الأربعين لموزار. وبعد ذلك بفترة قصيرة من الزمن انتقل كما يروي لنا أوزبورن، إلى برلين حيث أسندت إليه قيادة فرقة موسيقى الأوبرا التابعة للدولة، وهو أدى مهمته بنجاح، حتى وإن كان ذلك هو ما سوف يؤخذ عليه بعد ذلك. مهما يكن في الأمر فإن فون كارايان عاد في العام 1945 إلى فيينا حيث تولى قيادة فرقتها الأوبرالية، وظل طوال السنوات العشر التالية يتنقل بين أشهر الفرق وأكبر المهرجانات في العالم مكوّناً لنفسه اسماً كواحد من ألمع قادة الأوركسترا في ذلك الحين. ولقد ظلّ ذلك دأبه حتى العام 1955، حين عاد إلى برلين مرة أخرى، ولكن هذه المرة كقائد لأوركسترا برلين الفيلهارمونية، التي تعتبر واحدةً من أعظم الفرق في العالم. وهو ظل يقود تلك الأوركسترا حتى عام رحيله 1989، ومعها سجل أروع تسجيلات هذا القرن، من سمفونيات بيتهوفن التسع، إلى معظم أعمال موزار، إلى كونشرتو دفوراك للتشيلو والأوركسترا وصولاً إلى بعض أجمل مؤلفات تشايكوفسكي وسيبليوس. وفي هذه التسجيلات التي كان فون كارايان يعتني بتفاصيلها كافة، كان هذا القائد الفذّ ينحو دائماً إلى الكمال، يهتم بإزالة الغبار، وبتوزيع الكراسي وبعدد الآلات الوترية وبصحة العازفين وطعامهم. وهذا ما جعل النقاد يعتبرون دائماً أن قيادة فون كارايان لأوبرات موزار، على سبيل المثال، لا يعادلها شيء في تاريخ الموسيقى. مهما يكن من أمر، فإن هذا النمسوي الذي تبنّته ألمانيا، مات وفي قلبه حسرة، إذ إن الضغوط التي اشتدّت عليه في أشهر حياته الأخيرة، جعلته يبتعد عن أوركسترا برلين بعد أربعة وثلاثين عاماً من العيش المشترك، ومن حكاية العشق بينه وبينها. وهكذا قضى ذلك الفراق عليه، هو الذي كان قد تمكّن من البقاء على الرغم من تعاقب العهود والحروب والصراعات والأنظمة، وكان يقول دائماً، إنه يعيش من أجل الموسيقى ولن يقتله سوى غياب الموسيقى. وكان له ما أراد: قتله "غياب الموسيقى".