كم بدا الروائي الكويتي ناصر الظفيري الذي رحل قبل أيام عن ستين سنة، في أوتاوا – كندا، يشبه بطل روايته الأخيرة "المسطر" التي لم يمضِ عام على صدورها (منشورات ضفاف)، فهو حاول أن يحمّله الكثير من ملامحه الشخصية بصفته ينتمي إلى فئة "البدون" المهمشة في الكويت، وأن يتماهى أيضاً في صورته كـ "بطل" مقتلع، هاجر إلى الغرب (فرنسا أولاً ثم الولايات المتحدة) ليكتسب جنسية أميركية أو هوية تفيد من هو أو "تثبت" من هو، كما عبّر مرة متحدثاً عن قيده المكتوم. ولئن حصل الظفيري على هوية كندية بعد هجرته في العام 2001 إلى أوتاوا وبات يسمى قسراً الروائي الكويتي – الكندي، فهو لم يبدل اسمه كما فعل بطله الذي كان يدعى "رومي راضي" فأمسى يدعى "رومي جيمسون"، وهو اسم العائلة الأميركية التي تبنته شاباً وليس طفلاً، وعاش في كنفها. ظل الظفيري يصر على انتمائه الكويتي و"البدوني" حتى بعدما أصبح كندياً، بل هو كتب روايته الأخيرة في كندا خلال علاجه الطويل من مرض السرطان الذي لم يتمكن من الانتصار عليه مثلما انتصر على "بدونيته" وقيده المكتوم. وهذه الرواية هي ثالثة الثلاثية "البدونية" التي ضمت رواية "الصهد" (2013) جزءاً أولَ، ورواية "كاليسكا" (2015) جزءاً ثانياً، ثم "المسطر". سميت هذه الثلاثية "ثلاثية الجهراء" وهي المحافظة التي عاش فيها مثله مثل سائر"البدون"، في شمال الكويت، وعُرفت ببؤسها الاجتماعي و"الوجودي". لكن الظفيري الذي كان بحق روائي "البدون" والقضية "البدونية"، وقصَر معظم نتاجه القصصي والروائي على قضيته الأم هذه حتى غدا هذا النتاج أقرب إلى "ملحمة" سردية، يروي عبرها المراحل التاريخية التي اجتازها "البدون"، بدءاً من نشأتهم وتكوّنهم كأقلية، فإلى ماضيهم القريب وواقعهم الذي ما برح مأسوياً. وتطرق أيضاً إلى العلاقات التي قامت بين الأفراد والجماعات "البدون" بالسلطة أو السلطات والتقاليد والأعراف التي همّشتهم، مع أنهم كانوا وما زالوا "مواطنين" أوفياء لوطنهم الكويت، ودافعوا عنه في الحروب التي شنّت ضده، لا سيما خلال الاجتياح العراقي للكويت. وقد يكون أحد أبطال رواية "المسطر" وهو الخال ضيدان، نموذجاً للشخص "البدوني" الكويتي والعربيّ القحّ والباسل الذي شارك في حرب يونيو(حزيران) 1967 وحرب أكتوبر(تشرين الأول) 1973 وحرب تحرير الكويت 1990 التي أصيب فيها وأصبح عقيماً بعد إجراء عملية الكيّ له إنقاذاً لحياته. ولعل رواية "المسطر" حملت أصلاً كنايته وهي تعني الجندي العاديّ الذي لا يحقّ له أن يترقّى عسكرياً وأن يحمل أيّ رتبة، جراء انتمائه "البدوني" حتى ولو ضحّى وقاتل ببسالة.
تعدد الرواة
لا بد لمن يقرأ رواية "المسطر" من طرح سؤال حول "تجاهل" هذه الرواية عربياً واستبعادها من أيّ جائزة، علماً أنها تستحق فعلاً أن ترشّح وتُدرج على الأقل في اللوائح الطويلة أو القصيرة. طبعاً لم تخلُ الرواية من هنّات قليلة وصغيرة، لكنها رواية حقيقية وعميقة وذات بعد تقني أو فني متميّز. وقد اعتمد الظفيري فيها لعبة "الراوة" المتعدّدين، وأولهم عبد الكريم، صديق رومي وخاله ضيدان، وهو الذي يستهل السرد مستعيداً "قصة" إضاعة رومي قطعة الخمسين فلساً المعدنية في الرمل، بعدما سقطت من جيب الدشداشة المثقوب، وكان خاله أعطاه إياها ليشتري له بها علبة دخان. يجعل الظفيري من هذه "الواقعة" حدثاً رمزياً لا سيما عندما يقول على لسان الولد راضي: "ملعونة هذه الرمال... ابتلعت خمسين خالي". ويمضي الولد ينقّب الرمل الساخن بأصابعه تحت الشمس الحارقة بحثاً عن القطعة، ولا يجدها. ترمز الرمال هنا إلى جوف المكان، أو الجهراء التي ابتلعت أعمار أناس وأتعابهم وهويتهم. فالرواي يقول أيضاً: "ما يربطه بالمكان تاريخ صغير لا يملكه، كان مكتوباً على الرمال". أما هذه الخمسون فلساً فهي ترمز أيضاً إلى "الخمسين عاماً التي ابتلعتها الرمال من عمر الخال ضيدان".
يروي عبدالكريم فصولاً من سيرته المشتركة مع رومي وخاله وكيف التحق بالجندية وشارك في حرب تحرير الكويت ثم دخل السجن بعد التحرير نتيجة تهمة باطلة. ثم انتهى به أمره ليصبح كاتباً وصاحب دار لنشر الكتب. ويتوقف عند الخال ليقدمه وكأنه شخصية طريفة وفريدة، الخال العقيم الذي ربّى ابن أخته وكان عصامياً في تعلّم القراءة والكتابة، وقد اقتنى الكثير من الكتب، الخال الذي كان يعي أن جيله ظل أسير "الثبات" ولم يستطع "أن يتحرّك إلى الأمام"، وكان يحرّض ابن أخته وصديقه على خوض مغامرة التحرّر من الماضي.
أما الراوي الثاني فيكون راضي نفسه الذي يسلم صديقه عبد الكريم بعد عودته من الولايات المتحدة للمرة الأولى بعد تحرير الكويت باسم "رومي جيمسون"، مخطوطاً له ويطلب منه الاهتمام به وطباعته، وكتب فيه حكاية خاله ضيدان ساعياً إلى تحويله إلى "أسطورة" من أجل أن يتمثّل به الشبان "الذين يأتون بعده، أولئك الذين سيقفون أمام مساطر الجيش يحلمون بالعيش بعرق جلودهم وكرامتهم وسينتهون كما انتهى ضيدان بعد أشهر"، بل من أجل "كل الذين ضحّوا بكلّ شيء من أجل لا شيء". وإذ يجاهر "رومي جونسون" بالقول: "أميركا وطني الأول وجنسيتي الأولى وجامعتي الأولى وهذه عائلتي"، فهو يعجز عن إخفاء حنينه إلى أرض الكويت وأرض "البدون" والجهراء و"العشيش" والمساكن الشعبية الفقيرة ذات الدور الواحد التي سكنها "البدون" بعد هدم "العشيش". ولئن شاء الروائي ناصر الظفيري أن يتماهى في شخصية بطله رومي، فهو شاء أيضاً وفي الوقت نفسه، أن يجعله مختلفاً عنه لا سيما في تطرّفه إزاء حال الاقتلاع الذي عاشه كأن يقول: "الوطن كذبة صغيرة لا تستحق حتى إثمها". فالظفيري عبّر أكثر من مرة عن ارتباطه العميق بأرض الكويت وبأرض "البدون" وذاكرتهم الجماعية، وقد حمل معه إلى منفاه الكندي كل ذكرياته ولم يتخلّ لحظة عن هاجس العودة. وقيل إنه كان يتمنى أن يدفن بعد موته في أرض الكويت إلى جانب إخوته "البدون"، ولكن يبدو أن وصيته لم يقدّر لها أن تتحقق، فدفن في أرض غربته.
يستحق الروائي ناصر الظفيري أن تُعاد قراءته أو أن يُعاد اكتشافه، ليس بوصفه روائي "البدون" وقضيتهم، بل كروائي مهمّ وطليعيّ، صاحب تجربة فريدة في الحركة الروائية الكويتية والعربية الجديدة. ويكفي الظفيري نجاحه في رفع قضية "البدون" إلى مصاف القضايا الإنسانية الكبيرة، وهي قضايا الشعوب المقتلعة والمستلبة التي تعيش على هامش التاريخ والواقع.