"كاكاو" رواية جديدة تُترجم إلى العربية للكاتب البرازيلي الكبير جورجي أمادو (1912- 2001) وتنضم إلى رواياته الأخرى في المكتبة العربية وفي مقدمها روايته الشهيرة "غابرييللا قرنفل وقرفة" التي صنعت شهرته العالمية. رواية "كاكاو" (دار الساقي، ترجمة ماري طوق) تُعدُّ الثانية في مسار أمادو، صدرت عام 1933 وكان في الحادية والعشرين وتلت روايته الأولى "أرض الكرنفال". وانطلاقاً من هاتين الروايتين، بدأت تلوح ملامح عالمه الروائي الذي تتجاور فيه النزعتان الواقعية والغرائبية أو السحرية. فهو كان مناضلاً بولشيفياً ملتزماً، دخل السجن ونُفي ثم عاد إلى بلاده وانتُخب نائباً في البرلمان.غير أن نضاله "البروليتاري" لم يحل دون تحقيق حلمه الأول وهو احتراف الكتابة الروائية. وكان بحقّ ذلك الكاتب المحترف الذي استوحى الواقع البشري بل البرازيلي، كاتباً ملحمة الناس البسطاء والفقراء والمقهورين في صيغة مشرَّعة على التخيييل والغرائبية.
قد يُخيَّل إلى القارئ أن رواية "كاكاو" تعبق بجو من مذاقات الشوكولاتة والأطايب والمكسرات والروائح الشهية على غرار القرنفل والقرفة والغوافة، لكنه ما إن يبدأ القراءة حتى تتسرّب إليه رائحة كاكاو ملؤها المرارة والمرارة الأليمة، ويكتشف أنه أمام عالم بائس لا يعرف فيه مزارعو شجر الكاكو إلّا ألوان عذابهم وقهرهم وإذلالهم. وهذا العالم ليس غريباً عن جورج أمادو، هو الذي وُلد في مزرعة كاكاو في العاشر من أغسطس (آب) عام 1912، في إيتابونا جنوب ولاية باهيا.
أحداث الرواية تدور في إيليوس، المدينة الجنوبية التي كانت في أوائل القرن العشرين أكبر مركز لإنتاج الكاكاو في البرازيل. إيليوس، أرض الكاكاو والمال، ومقصد أرتال غفيرة من المهاجرين البرازيليين والأفارقة والعرب والخلاسيّين. تسرد الرواية حياة شاب برازيلي يُدعى سرجيبانو غادر بلدته ليعمل في مزرعة للكاكاو في إيليوس. رأى سرجيبانو نفسه منساقاً إلى هذه الوظيفة بعدما خسرت عائلته كل شيء عقب وفاة والده المفاجئة، واستولى عمّه على معمل والده. هناك، في المزرعة "عزبة الأخوّة" التي يملكها الكولونيل مانيل ميسيل دو سوزا تيليس (الملقّب بـ"مانيه الطاعون") والتي تشبه كل شيء إلّا اسمها، يكتشف سرجيبانو أحوال الفقرالمدقع التي يعيشها العمال. إنّها المرّة الأولى التي يرى فيها مزارع الكاكاو: "رأينا الفروش الخشبية التي يُجفَّف فيها الكاكاو، والدارة المزدانة بلافتة كُتب عليها "عزبة الأخوّة"، كنّا كثراً في المزرعة الهائلة. أوراق الكاكاو اليابسة تفترش الأرض حيث تستدفئ الأفاعي في الشمس بعد أمطار حزيران الطويلة. الثمار الصفراء تتدلّى من الأشجار أشبه بفوانيس أيّام زمان".
هذا المزيج المدهش من الألوان يجعل كلّ شيء جميلاً وسحريّاً، لكن العمل متعب ومرهق. وكما يروي سرجيبانو، يبدأ العمال في الساعة الخامسة، وبعد شحذ السكاكين الفولاذيّة عند باب المخزن، بقطع قواقع الكاكاو. وفي الخامسة صباحاً، يزوّدون جرعة من العرق الرديء وصحن فاصوليا كي يكتسبوا الطاقة اللازمة للعمل طيلة النهار. مزارع الكاكاو أشبه بالجحيم، العمّال المزارعون يشقّون فيها كالرقيق بأجور متدنيّة جداً، الجوع ينهش أحشاءهم، ومن قوّة سواعدهم، يجني مالكو المزارع (الكولونيلات) ثرواتهم الطائلة. المالكون يعيشون في قصورهم الباذخة، بينما العمّال يتكوّمون في أكواخ من غرفة واحدة، ولا أمل لهم في تحسين أوضاعهم التي تزداد سوءاً، فـ"بيت المونة" يمتصّ كلّ رواتبهم، ومعظم العمّال مدينون بالمال للكولونيل، وبعضهم لا يستطيع توفير المال للعلاج من أمراضهم كالملاريا المزمنة. العمّال خانعون مستسلمون لقدرهم ولكن إلى حين يستيقظ فيهم وعيهم الطبقي: "لم يكن أحد يطالب بشيء. بدا كلّ شيء منتظماً، وكنّا نعيش، إن جاز القول، خارج العالم ولا أحد يهتمّ لبؤسنا. نعيش لنعيش. كانت تلوح لنا في الأفق البعيد البعيد فكرة بأنّ الأشياء قد تتغّير ذات يوم. بأيّ طريقة؟ لا نعلم".
شارع الأوحال
لا تروي "كاكاو" مأساة العمّال فقط، إنّها أيضاً مأساة الآباء الذين يرون بناتهم منذ سن الثانية عشرة (وأحياناً قبل هذه السن) تفتضّ بكارتهنّ على يد الملّاك أو أبنائهم. فأوزوريو ابن الكولونيل، الشخصية الأكثر إثارة للاشمئزاز في الرواية، يحلو له مثلاً اغتصاب فتيات البلدة القاصرات لدى قضائه العطلات في المزرعة. وهكذا لا تجد الفتيات القاصرات ملاذاً آخر سوى "شارع الأوحال" حيث يبعن أجسادهن ويستسلمن لحياة غريبة: "لم أستطع قطّ أن أفهم سبب امتلاء مواخير شارع الأوحال بصور القدّيسين وتماثيلهم. كانت صورة "سنيور دو بونفيم"، تزيّن كلّ البيوت. وكانت أنطونيتا، قبل أن تضاجع رجلاً، تؤدّي صلاتها. تؤمن الفتيات بالسحر ويقمن بنذورات. يلعنّ الحياة التي يعشنها وفي الوقت ذاته، يشكرن الخالق كلّ يوم على أنه خلقهنّ".
في هذا العالم المليء بالظلم والاستغلال والشقاء، يتعلّم المزارعون الحقد، لكن سرجيبانو يتعلّم أمراً آخر: كيف نجعل من هذا الحقد دافعاً حقيقياً للنضال ضدّ الظلم وحافزاً للمطالبة بالعدالة الاجتماعية؟ لذا لن يهتم سرجيبانو كثيراً بإعجاب الجميلة ماريا، ابنة الكولونيل به، ولن يستجيب لإغراءات الحياة التي تدعوه إليها. يواصل طريقه وحيداً، وربما ليس وحيداً، حالماً بتضامن العمّال وباتحادهم وانتصار قضيّتهم المحقّة: "كنتُ أفكر بهذا الرجاء الكامن في نفوس العمّال كلّهم، الذي منذ ذلك الحين أشعر به يعتمل في داخلي أنا أيضاً".
تندرج رواية "كاكاو" في خانة الأدب الواقعي وربما الواقعي الاشتراكي، بحسب التسمية التي راجت في أوج النضال الطبقي، لكنها رواية واقعية يتخلّلها جو سحري، جو الطبيعة الساحرة، الذي يتغنّى به البطل مراراً، عطفاً على الغنائية التي تشوب السرد وتسم اللغة المنسابة مثل ماء النهر والأبعاد الرومنطيقية الصلبة. يقول جورج أمادو عن هذه الرواية: "حاولتُ أن أروي في هذه الرواية، بالحدّ الأدنى من الأدب والأقصى من النزاهة، حياة العمّال في حقول الكاكاو جنوب ولاية باهيا. فهل تكون رواية بروليتارية انبثقت من هذا كلّه؟". رواية كاكاو، التي صادرتها السلطات إبّان صدورها، تظهر اهتمام أمادو الكبير بالصراع الطبقي على الرغم من سنّه الفتيّة، وتطلّ على أدبه الرفيع المحمّل بروح البرازيل الحقيقية المتجسّدة في أكثر من أربعين رواية تُرجمت إلى أكثر من أربعين لغة. "كاكاو" رواية تنتمي إلى الأدب الملتزم ولكن المتخفّف من عقائديّته، وهي أشبه بوثيقة عن حياة العمّال في برازيل الثلاثينيّات من القرن الماضي. رواية قاتمة وسط ذهب ثمار الكاكاو، انبثقت من السؤال عن مصير "معذَّبي الأرض" الذين يسحقهم جشع أسيادهم، أسلوبها فجّ يعرّي العنف الاجتماعي وبشاعة الواقع مشحوناً بهمّ أمادو الإنساني. لكنّها أيضاً رواية الأمل والحلم بغدٍ أفضل، بالأخوّة الحقيقية المنقذة للعمّال، لأنّها نابعة من وعيهم الطبقيّ.
سياسة وفانتازيا
إن كان أدب أمادو ينتمي إلى المدرسة الملتزمة تبعاً لانتمائه اليساري، فهو لم يكن ملتزماً في المعنى السياسي الضيّق أو المباشر. ولعلّ أهم ما يميّز التزامه، قدرته على الجمع بين الواقعية السياسية و"الواقعية السحرية" (بحسب المقولة الأميركية اللاتينية الشهيرة) أو قدرته على تخطّي الالتزام السياسي من خلال الفانتازيا والتخييل. ونزعته التحرّرية هذه هي التي دفعته إلى تخطّي مرحلته الروائية الأولى التي درج النقاد على تسميتها بـ"الشيوعية الرومنطيقية". إنها المرحلة التي كتب فيها روايتيه الشهيرتين "كاكاو" و"عرق" وهما تغرقان في وحول المأساة البروليتارية وتستلهمان البؤس الشعبي البرازيلي. ولكن انطلاقاً من عام 1935 أي من خلال روايته "باهيا أرض جميع القديسين"، يظهر في صنيعه الروائي نفس ملحمي، وكاد هذا النفس يطغى على الطابع النضالي الذي عُرف به سابقاً. استوقفت هذه الرواية الكاتب الفرنسي ألبير كامو وكان قرأها في الجزائر وكتب عنها قائلاً: "كتاب رائع ومذهل. وإن كان صحيحاً أن الرواية هي حدث أولاً، فهذه الرواية هي نموذج في هذا النوع". ولعلّ شهادة مماثلة من كاتب فرنسي كبير في مرتبة ألبير كامو هي خير دليل على طليعية جورجي أمادو وعلى الأثر الذي يقدر أن يتركه هذا الكاتب البرازيلي في قرّائه على اختلاف مشاربهم.
أما المنعطف الحقيقي في مسيرة أمادو الروائية، فيتمثل عام 1954 عندما قرّر الابتعاد عن الحزب ليكتب رائعته الأكثر شهرة ورواجاً "غابرييلا قرنفل وقرفة". في هذه الرواية وما تلاها من أعمال، تبلغ "الغنائية" الروائية ذروتها، مع انفتاح على المزيد من الفانتازيا والدعابة والسخرية. يشرع أمادو في التغنّي بأرضه الأولى، محتفلاً بالأعياد الشعبية والمواسم والعادات، ومركّزاً على الخصائص التي تسم أهل تلك البلاد الغريبة وعلى الثقافة 'الشعبية، ثقافة الملبس والعطور والمأكل والمشرب، على حياة النسوة والرجال، على الحياة الليلية الصاخبة والحمراء... ومَن يقرأ روايات من مثل "دونا فلورا وزوجاها" و"تيريزا باتيستا "وسواهما، لا ينسى تلك القامات النسائية الساحرة... كالغانية التي تناضل ضد داء الجدري، أو تلك المرأة التي تهجر الحانة لتصبح ناشطة بيئية... في مثل هذه الروايات، استطاع أمادو أن يجعل من الوقيعة السياسية ما يشبه الحكاية الخرافية التي يتقاطع فيها الواقع والفانتازيا، التاريخ والسخرية، المأساة والملهاة...
تتيح رواية "كاكاو" الفرصة أمام القارئ العربي كي يتعرّف إلى بدايات هذا الكاتب التي شكّلت علامات مساره الروائي الفريد، وتكشف انحياز أمادو إلى فكرة الانتماء إلى الأرض وناسها الفقراء والطيبين، وقد نجحت ترجمة الكاتبة اللبنانية ماري طوق للرواية في بلورة السرد واعتماد لغة وأسلوب هما غاية في المتانة والسلاسة.