قلة مِن الكُتَّاب مَن تحولت حياتهم إلى أسطورة لا تقل أهمية عن أعمالهم، وعلى رأس هؤلاء الكاتب والرسام البولندي برونو شولتز (1892 – 1942)، الذي عاش حياة هادئة في مدينة دروهوبيتش ونشر أعمالاً قليلة، قبل أن ينتهي نهاية مأساوية بقتله على يد ضابط نازي خلال الاحتلال الألماني لبولندا.
دُفِن شولتز في مقبرة حولتها الحرب لاحقاً إلى ركام. ومن مرقده المدمر هذا، ظل يلهم كتّاباً آخرين ويثير مخيلتهم لإنتاج نصوص تتحاور مع أعماله أو تتقاطع مع مجريات حياته أو تستلهم بعض "موتيفاته"، ومن هؤلاء الكتاب: فيليب روث، دانيلو كيش، جون إبدايك، سينثيا أوزيك، إسحاق سِنجر، سلمان رشدي، ديفيد غروسمان، جوناثان سافران فوير وغيرهم.
هذا الكاتب الذي استقبل كالفينو ترجمة نصوصه إلى الإيطالية بقوله: "من اليوم، يضيف الأدب الأوروبي في القرن العشرين اسماً جديداً إلى قائمة أساتذته"، لا يزال قادراً على إثارة الحماس والإعجاب، إذ عاد شولتز إلى الواجهة مجدداً، مع إعلان دار Sublunary Editions الشهر الماضي عن قرب إصدارها لقصة مكتشفة حديثاً له، عنوانها "أوندولا"، بترجمة للكاتب والمترجم فرانك غاريت. وبمجرد الإعلان عن هذا، قام المترجم ستانلي بيل بنشر ترجمة أخرى للقصة على موقع "ملاحظات من بولندا"، وعلى الرغم من أن "أوندولا" صارت متاحة إلكترونياً، لم تتراجع دار النشر عن نيتها نشرها ورقياً بترجمة غاريت وتقديمه في كتيب يقع في 42 صفحة، مطلع أكتوبر 2020.
منذ تصاعد الاهتمام العالمي بصاحب "دكاكين القرفة"، مع بدء ترجمته إلى اللغات الأوروبية المركزية، ثمة هوس بالبحث عن نصوصه المفقودة. لكن الجديد أن اكتشاف "أوندولا" جاء بطريقة مخالفة للمتوقع، فالشائع في عمليات البحث الخاصة بشولتز أنها تتمحور حول مخطوطاته غير المنشورة، التي يقال إنه أودعها لدى صديق غير يهودي، عندما استشعر قرب استيلاء النازيين على مسقط رأسه. لكن مع "أوندولا" الأمر مختلف، إذ عثرت باحثة أوكرانية تدعى ليسيا خوميش، أواخر 2019 على القصة في عدد من أعداد جريدة مغمورة تابعة لإحدى شركات النفط، ومع أن القصة المنشورة عام 1922 موقعة باسم مارسيلي فيرون، خمنت خوميش أنها لشولتز، وهو التخمين الذي أكد صحته لاحقاً الخبراء المتخصصون في أدبه.
والحقيقة أن الأمر لا يحتاج إلى خبراء، فمحبو شولتز وقراؤه، يمكنهم بسهولة إيجاد نقاط التقاء عديدة بين القصة وبين نصوصه اللاحقة، منها الجو الغرائبي، والخادمة آديلا التي تظهر بشكل متكرر في نصوص مجموعتي "دكاكين القرفة" (عنوان الترجمة الإنجليزية: "شارع التماسيح") و"مصحة تحت علامة الساعة الرملية"، وحالة الاعتلال الجسدي المصحوب بيقظة الحواس، غير أنها في النصوص اللاحقة المروية على لسان الطفل جوزيف، حالة تخص الأب الذي يعد ركيزة محورية في عالم شولتز. وإذا كانت النزعة الإروسية المازوخية غير حاضرة بصورة ملحوظة في الكتابين المنشورين، فإنها بؤرة لوحاته والخيط الواصل بينها. ثم إن مازوخية شولتز نفسه كانت مفتاحاً لقراءة إبداعه وخياراته بل ومصيره لدى كثيرين، أبرزهم الناقد البولندي سانداوير والكاتب فيتولد غومبروفيتش، الذي كتب في يومياته بورتريهاً ثاقباً وجارحاً في آن عن شولتز، وصفه فيه بالمازوخي الذي لا يلين ولا يتراجع عن مازوخيته، وبأنه كان أكثر خوفاً من الجرأة على العيش، ولم يعترف لنفسه بالحق في الوجود، وبحث عن إبادته الذاتية!
الجدارية الأخيرة
حين احتل النازيون بولندا، أُجبِر شولتز بوصفه يهودياً، على العيش في الغيتو، وتكفل ضابط نازي يدعي فليكس لانداو بحمايته، مقابل استغلاله في القيام ببعض الأعمال لصالحه. هكذا قضى شولتز الأشهر الأخيرة من حياته في رسم جدارية في غرفة نوم طفل لانداو. ويقال إنه تَبَاطَأ في إنهاء جداريته إلى أن يتمكن أصدقاؤه من مده بوثائق هوية مزيفة تساعده في الهرب، لكن القدر لم يمهله لأن ضابطاً نازياً آخر، كان في خصومة مع لانداو، قابله في الشارع فأفرغ رصاصتين في رأسه وقال للانداو بعدها: "قتلت يهوديك"!
وقد شكك البعض في وجود هذه الجدارية معتبرين إياها من الخرافات المحيطة بقصة حياة أحد أهم كتاب أوروبا، لكن مخرج أفلام وثائقية ألماني يدعى بنيامين غيسلر، تمكن من العثور عليها عام 2001، بعد عملية بحث شاقة عن مقر إقامة فليكس لانداو وقت وفاة شولتز، وحين وصل إليه لم يكن الأمر سهلاً لأن الجدارية كانت قد تغطت، بعد مرور كل هذا الوقت، بطبقات عديدة من الطلاء، لذا احتاجت –بعد اكتشافها- إلى الكثير من الترميم.
وبمجرد الإعلان عن هذا الاكتشاف المهم، بدأت معركة حامية بين أوكرانيا وبولندا وإسرائيل على من له حق الاحتفاظ بالجدارية. بولندا رأت أنها الأحق لأنها موطن شولتز خلال حياته، وأوكرانيا كان مبررها أن مسقط رأسه يقع في أراضيها حالياً والجدارية عُثِر عليها على ترابها الوطني، أما إسرائيل فارتأت أحقيتها في ضم الجدارية إلى متحف الهولوكست في تل أبيب لأنها من إبداع أحد ضحايا النازية، ونجحت بالفعل في إضافتها إلى مقتنيات المتحف رغم اعتراضات أوكرانيا وبولندا.
مسيح دروهوبيتش
من بين مخطوطات شولتز الضائعة، حظيت روايته "المسيح" بالاهتمام الأكبر، ولم يتوقف البحث على مدار عقود عن مخطوط هذه الرواية، الذي يعد واحداً من أكثر المخطوطات المفقودة إثارة للخيال ولحمّى البحث والتعقب. وكلما تضاءل أمل الحالمين بالوصول إليه، وركنوا إلى الإيمان بعدم وجوده من الأساس، حدث ما يلهب حماستهم من جديد.
في مراسلاته لأصدقائه كتب شولتز عن رواية يكتبها وتدور حول وصول المسيح إلى مدينة دروهوبيتش، لكنّ أحداً لم يعرف مصير هذه الرواية: هل انتهى من كتابتها؟ هل ترك مخطوطها لدى صديق من خارج الغيتو اليهودي بالفعل؟ هل استولى عليها النازيون، ثم انتقلت منهم إلى أرشيف المخابرات السوفياتية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية؟ أم لم يُنهِ شولتز روايته، وضمّن أجزاءً مما كتبه فيها في نصوص "مصحة تحت علامة ساعة رملية" كما يعتقد بعض المتخصصين في أدبه ممن يرون أن قصة "الكتاب"، التي تبدأ بها هذه المجموعة، كانت في الأصل جزءاً من مسودة "المسيح"؟
في المقابل، ثمة من يؤكد أن مخطوط الرواية موجود في أوكرانيا؛ حيث تقع دروهوبيتش حاليًا، وقد كتب الروائي الإسرائيلي ديفيد غروسمان في نيويوركر عام 2009 أنه قابل شخصاً عرض عليه شولتز مفتتح روايته، المتضمِّن مشهد انبلاج الصباح على مدينة ما؛ حيث يسطع ضوء الشمس تدريجاً على أبراج وقباب المدينة.
رسائل إلى صديقة
لكن لماذا لجأ شولتز، في بداية مشواره مع الكتابة، إلى نشر "أوندولا" باسم مستعار؟
الجواب الذي يقترحه ستانلي بيل، في تقديمه لترجمته، يتلخص في الحرج من المحتوى الجنسي للنص، لكنني لا أرجح أن هذا هو السبب الكامن وراء الاختباء خلف اسم "مارسيلي فيرون"، لأن شولتز لم يُحرَج من الطابع الإروسي المازوخي لرسومه، فلماذا يُحرَج منه في قصة "أوندولا"، المعنونة بالاسم الذي سبق أن اختاره للبطلة الفاتنة في هذه الرسوم؟
أغلب الظن أن السر يكمن في توجس "بروست الغرائبية"، كما يُطلَق عليه، من مستوى ما يكتب. هذا التوجس كاد يوقف مشروعه الكتابي قبل أن يبدأ، إذ ظل لسنوات يَرصُف نصوصه في الأدراج، رافضاً إطلاع أي شخص عليها. كانت وحدته عميقة وعزلته لا سبيل إلى تخفيفها. ولم يسع هو إلى التخلص منها، بل رأى فيها جوهر روحه وقدره الخاص، فهي بكلماته "المحفز الذي يحث الواقع على التخمر، على ترسيب أشكاله وألوانه". لذا انقطع قدر استطاعته عن مجريات الحياة اليومية، وكرَّس نفسه للفن، وتعويضاً عن الوقت الضائع في التزامات عمله كمدرس رسم بإحدى المدارس الثانوية في دروهوبيتش، انغمس في مراسلات مثَّلت جسراً يربطه بالعالم الخارجي. ويقول كاتب سيرته الشاعر يِرجي فيكوفسكي إنه وصل بفن كتابة الرسائل إلى مستوى مبدع، إذ اكتست رسائله إلى صديقته الشاعرة ديبورا فوغِل بمسحة أسطورية وميثولوجية مدهشة، فما كان من ديبورا إلا أن لفتت نظره إلى أن هذه الرسائل نصوص إبداعية متفردة، وحثته على إكمالها، وهو ما حدث. وهكذا وُلِدت مجموعته الأولى "دكاكين القرفة"، التي ربما ما كان لها أن تولد لولا إلحاح فوغِل وحماسها.
وبدعم من الروائية المعروفة زوفيا نالكوفيسكا نُشِر الكتاب وأُتيح لعموم القراء، مع أنه كُتِب وفي ذهن مؤلفه أنه موجه إلى قارئة واحدة هي ديبورا فوغِل، مستقبِلة الرسائل المرسلة إليها من دروهوبيتش.
ويرى فيكوفسكي أن الكتابة على هذا النحو ساعدت شولتز على عدم الاكتراث بالذائقة السائدة في المشهد الأدبي البولندي ولا بالمتطلبات المتقلبة للنقاد الرسميين. وقد ذكر شولتز لاحقاً، بعد نجاحه واعتباره من أهم الأصوات الطليعية في بولندا، أن الضغوط الناتجة عن توقعات القراء والنقاد تصيبه بالشلل وتُعجِزه عن الكتابة. لذا فمن باب أولى أنه كان أكثر توجساً من كتابته حين أرسل "أوندولا" للنشر قبل صدور "دكاكين القرفة" بأكثر من عشر سنوات.
سيرة لميثولوجيا الذات
لكن ما سبق لا يعني أن موهبة شولتز كانت فطرية فقط، بل صقلها بوعي حاد وثقافة رفيعة. فقد كشفت مقالاته وما نجا من رسائله، التي فُقِد معظمها، عن مُنَظِّر ذي معرفة عميقة بالفلسفة والميثولوجيا وتاريخ الأدب. يتجلى هذا مثلاً في مقالاته: "إعادة خلق ميثولوجيا الواقع"، و"تولد الأساطير" و"جولات المتشكك". وفي رسالة كتبها إلى صديقه الكاتب والفيلسوف ستانيسلاف إغناتسي فيتكيفيتش، حلل فيها "دكاكين القرفة" بوصفها تقدم وصفة ما لواقع مادته الأساسية في حالة مستمرة من التخمر والتبرعم، كما أنها مسكونة بحياة كامنة، لا وجود فيها لما هو صلب أو ساكن أو صامت، فكل شيء يسبح خارج حدوده. في الرسالة نفسها، التي ترجمتها أجنيشكا بيوتروفسكا ونُشِرت في ملف عن شولتز في جريدة "أخبار الأدب" قبل سنوات قليلة، صنف المؤلف كتابه كسيرة ذاتية ميثولوجية أو بالأحرى سيرة لجينالوجيا روحه أو خط نسب روحه حتى لبه "حيث يتسرب في داخل الميثولوجيا، ويضيع نفسه في هذيان ميثولوجي. لقد شعرتُ دائما أن جذور الروح الفردية لو تتبعناها إلى أعماقها بما فيه الكفاية، سنجدها ضائعة في جحر ميثولوجي ما. هذا هو القاع النهائي، الذى من المستحيل أن نصل إلى ما بعده".
في النهاية، قد لا تكون "أوندولا" في مستوى قصص شولتز اللاحقة عليها، لكن اكتشافها حدث مهم، كفيل بتحفيز المتخصصين في أدبه على بذل أقصى ما يستطيعون لاكتشاف أعمال أخرى له، فإن تعذر عليهم الوصول إلى المخطوطات الضائعة، يمكنهم تكثيف جهودهم للعثور على نصوص مبكرة نشرها بأسماء مستعارة في مجلات وصحف مغمورة، وقد كتب ستانلي بيل أن مجموعة من الخبراء تمشط بالفعل آراشيف الجرائد والمجلات في كل من بولندا وأوكرانيا حالياً بحثاً عن نصوص محتملة لشولتز.