تمكن الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح من السيطرة سريعاً على كل مفاصل الحكم العسكرية والمدنية، بالإغراء وبالقوة، وركّز أغلب جهوده بدايةً على إعادة ترتيب القيادات العسكرية والأمنية بما يضمن ولاءها المطلق له، وتم ذلك بدعم من الرياض التي كانت قلقة من تدهور الأوضاع في اليمن، وحصل على مساندة كبار المشائخ الذين رأوها فرصة سانحة للعودة إلى المشهد السياسي بعدما أمضوا سنوات عهد الرئيس اليمني لاسابق ابراهيم الحمدي في الظل بعيداً عن العاصمة... كما استفادوا من تجربتهم الماضية بأن تحدي الدولة يضعف نفوذهم إلى حد كبير.
كان صالح بحاجة للاستعانة بكبار المشائخ واستمالتهم تدريجياً لضمان استقرار مناطقهم بخاصة تلك المحيطة بالعاصمة، فيسر لأبنائهم الدخول ضمن القوات المسلحة، ومنحهم فرصة للإثراء عبر صفقات تجارية خارج إطار القوانين المعمول بها (دخل القاموس التجاري في فترة لاحقة ما كان معروفاً بنظام التراخيص في ظل قرار منع استيراد المواد الأساسية الا بإذن خاص، ولم يكن يحصل عليها الا أصحاب النفوذ).
جعلت ظروف مقتل الرئيسين الحمدي وأحمد حسين الغشمي مسألة تأمين صالح لحياته أمراً حيوياً وذا أولوية مطلقة، فاهتم بتوفير الحماية الشخصية لمحيطه، وانشغل في بدايات حكمه – وذاك أمر طبيعي - بالاستعانة بـأفراد يثق بهم ويعرفهم عن قرب، وكرّس الحرس الجمهوري عموداً فقرياً يعتمد عليه لحمايته الخاصة وحماية النظام، وكان على رأس قيادته ضباط من منطقته (سنحان) وجوارها، وتمت هيكلته على نمط الحرس الجمهوري في العراق، وأصبح القوة الحقيقية بين تكوينات القوات المسلحة، وكان معروفاً انه لا يخضع لسلطة وزارة الدفاع أو رئاسة الأركان الا في أضيق الحدود التي تستدعي التمثيل امام السلطات الخارجية لشراء الأسلحة. كما كان الانضمام إلى الحرس الجمهوري انتقائياً ومن مناطق بعينها، وأضحى ذراع صالح الرئيسي في الجيش اليمني، تحت آمرته او عبر قياداته التي ترتبط به مباشرة.
تعززت قوة صالح ونفوذه بمساعدة الرجل الذي كان يعتبره الناس "الرجل القوي" خارج القصر الجمهوري، علي محسن الأحمر، ومعهم ما بات يعرفه المتابعون بـ "مجموعة سنحان" التي كان من ضمنها كل من صالح الضنين، احمد فرج، مهدي مقولة، عبدالإله القاضي، محمد عبدالله صالح، علي صالح احمد. وكان هؤلاء مجتمعين يرون أنفسهم شركاء اصيلين في الحكم وضامنين لبقاء النظام واستمرارهم في قلبه.
لم يكن موقع علي محسن الرسمي يشي بأهمية استثنائية (اركان حرب اللواء الأول مدرع الذي تحول فيما بعد إلى "الفرقة" الأولى مدرع)، لكنه في واقع الحال كان أكثر من قائد عسكري، وكان يد صالح اليمنى، يعتمد عليه في ترتيب العلاقات مع القبائل والجماعات الإسلامية.
أصبحت "الفرقة" القوة الأقرب للحرس الجمهوري في تجهيزاتها واعداد المنتسبين إليها، لكنها كانت اكثر شمولية مناطقياً في صفوفها، وأقرب إلى "جيش شعبي" منها إلى "جيش نظامي"، فضمت أعداداً كبيرة من المجندين الذين التحقوا بها من المناطق اليمنية المختلفة، وكان العامل الغالب عليهم هو التوجه الديني المحافظ، وأضحى الارتباط بعلي محسن مدخلاً مختصراً للحصول علـى رتب عسكرية دونما حاجة إلى تأهيل محترف، وبقيت مهمته الرئيسية هي المساهمة في تعزيز حماية النظام وبقائه، واستيعاب العسكريين الذين نزحوا من الجنوب في السبعينات، ثم انضم إليهم الذين وصلوا بعد أحداث 13 يناير (كانون الثاني) 1986، وكذلك الجماعات الإسلامية التي كانت تعتبر نفسها في مواجهة مفتوحة مع النظام "الشيوعي" في الجنوب وضد عناصر "الجبهة" في الشمال. وصار الناس مقتنعين أن علي محسن، سيكون "الخليفة المنطقي" إذا ما حدث ما يدفع صالح إلى الابتعاد عن موقعه.
بدأ صالح التفكير في احداث مصالحة سياسية داخلية، فدعا إلى حوار سياسي يجمع كل التيارات السياسية والفكرية والشخصيات الاجتماعية على مستوى الشمال (مع تمثيل جنوبي من الشخصيات الموجودة في الشمال)، ونتج عنه وثيقة "الميثاق الوطني" الذي شارك في صياغته كل التيارات بتناقضاتها، وفي أغسطس (آب) 1982 تم الإعلان عن (المـؤتمر الشعبي العام) كتنظيم تجتمع في إطاره كل الأحزاب السياسية التي كانت تعمل سراً، وكبار الشخصيات الاجتماعية من مختلف المناطق اليمنية، وكبار الموظفين في الحكومة، ورجال الأعمال، وكبار قادة الجيش، وكبار ضباط المخابرات والأمن، وعدد كبير من المستقلين.. ورغم الحشد الكبير من الشخصيات التي التحقت به إلا أنه ظل حزباً لـ"صالح"، ولم يتحول إلى حزب فاعل ومؤثر في صنع القرار السياسي، اذ بقي ظلاً له كما هو الحال مع كل التنظيمات التي يكونها الرئيس، أي رئيس! وكان تمويله من المال العام او بتبرعات قسرية من كبار التجار... وفي واقع الأمر لم يكن له أي نشاط الا في مواسم الانتخابات وعند الرغبة في حشد الجماهير لتأييد الرئيس، وبالقدر الذي كان يحتاجه ويسمح به، وذلك رغم رصد إمكانات الدولة لمصلحته على مدى عقود حكم صالح.
كانت الأمور تجري بشكل طبيعي في مسار تثبيت حكم صالح، لكن الشح المتزايد في الاحتياط المالي بسبب تقلص تحويلات المغتربين المالية، تزامناً مع تعليق دفع المساعدة المالية السعودية السنوية لدعم الموازنة العامة للدولة اليمنية، نظراً إلى أن الرياض كانت تريد تسريع وضع حد نهائي للنزاع الحدودي مع صنعاء، إذ كان صالح يتهرب ويماطل في المسألة (أعيدت المساعدة السعودية في العام 1988، وتوقفت مرة أخرى في العام 1990 نتيجةً للموقف اليمني من غزو الكويت، إلا انها أعيدت في العام 1996 مع دفع مبالغ تغطي سنوات التوقف... كانت قيمة المساعدة تبلغ حوالي 120 مليون دولار سنوياً يتم تحويلها مباشرة إلى المصرف المركزي اليمني). في المقابل، حدثت زيادة ملحوظة في الإنفاق العسكري لشراء السلاح بكميات كبيرة من الاتحاد السوفياتي، ما أثار مرة أخرى حفيظة الرياض التي أقلقها احتمال أن يكون مرتبطاً بالنزاع الحدودي بينهما أو استعداداً لحرب محتملة... وزاد الريبة أنه برغم تقارب الموقفين السعودي واليمني تجاه الحرب العراقية – الإيرانية، بمساندة العراق بقوة، الا أن العلاقات الشخصية القوية بين صالح والرئيس العراقي السابق صدام حسين زادت هواجس الرياض حول طبيعة تلك العلاقة والمدى الذي يمكن أن تصل اليه.
ساهمت الحرب بين الملكيين والجمهوريين (1962-1970) في ترسيخ قناعة لدى أغلبية الرأي العام اليمني أن السعودية "تعرقل" التنمية في اليمن، و"تعارض" أي نشاط للتنقيب واستخراج النفط في الأراضي اليمنية، بمبرر أنه سيجري في مناطق متنازع عليها، وزاد من حدة هذه المشاعر ان كثيرين في وسائل الإعلام كانوا من ذوي التوجهات "اليسارية" و"التقدمية" وعلى خصومة تاريخية مع السياسة السعودية... لكن صالح تمكن من التوصل إلى اتفاق بشروط مجحفة (بسبب المخاطر المحيطة بالعملية) مع شركة "هنت" الأميركية، التي كان ملّاكها يرتبطون بصداقة حميمة مع الرئيس الأميركي الراحل جورج بوش الذي حضر بنفسه حين كان لا يزال نائباً للرئيس رونالد ريغاد، تدشين أول بئر منتج في مأرب اليمنية في العام 1986.
وظلت المواقف بين صالح والرياض في حالة شد وجذب، والاتهامات بشأن خرق اتفاقية الطائف الحدودية بين البلدين تتصاعد، وصارت المشاكل تُدار عبر التسريبات ووسائل الإعلام، وارتفعت الأصوات في صنعاء بالحديث عن محاولات سعودية لإثارة المتاعب والاضطرابات في اليمن عبر تمويل كبار رجال القبائل الذين كانوا يستلمون مبالغ كبيرة مقابل الولاء وضمان استقرار الحدود. وضاعفت تدهور العلاقات بين البلدين، محاولات صالح لإظهار استقلالية أكبر في مواقفه الخارجية، ولاشك أن عوامل تاريخية كثيرة تراكمت وساهمت في مراكمة مزيد من الجفاء استغلته أطراف داخلية في اليمن لخلق المزيد من التوتر في العلاقات، وتحقيق مكاسب ذاتية.
في هذه الفترة، تعرض اليمن الجنوبي لهزة هي الأعنف والأكثر دموية في تاريخه، اذ استيقظ العالم في صباح 13 يناير (كانون الثاني) 1986 على أنباء حرب أهلية استمرت أسبوعين تقريباً، بينما أشارت معلومات إلى أن عدد القتلى من طرفي الحرب زاد عن 10 آلاف مواطن بين مدني وعسكري، ودمار طال منشآت عامة وخاصة عدة... ووصل الرئيس اليمني الجنوبي السابق علي ناصر محمد إلى تعز ثم انتقل إلى صنعاء التي بقي فيها حتى موعد قيام الوحدة اليمنية في 22 مايو (أيار) 1990.
بعد أشهر قليلة من أحداث 13 يناير 1986، بدأ الوهن يدب في جسد الاتحاد السوفياتي وأجريت تعديلات جذرية في علاقاته مع الدول التي كانت تدور في فلكه، وكانت تُعرف بالمنظومة الاشتراكية، فشعر حكام اليمن الجنوبي الجدد أنهم أصبحوا بلا سند خارجي يستطيع حمايتهم وإعانتهم على مواصلة منهج الحكم السابق وإنقاذ الاقتصاد المنهار وتخفيف القطيعة السياسية مع دول الجوار، ورغم محاولات الحزب الحاكم إحداث إصلاحات اقتصادية وتحقيق انفتاح سياسي داخلي وخارجي، إلا أن الواقع أثبت أنه فقد حيويته وألقه وانشق مناطقياً، وضعفت سيطرته على المجتمع في الجنوب لسببين: الأول هو الحرب الأهلية في 13 يناير 1986 ثم انهيار الحزب الشيوعي السوفياتي الذي كان الممول والداعم الأكبر.
وللحديث بقية...