تُعَدُّ دار الكتب المصرية من أهمِّ منابر التنوير؛ ليس في مصر وحدها؛ وإنما في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط. ويشهد هذا العام الاحتفال بمرور 150 عاماً على افتتاحها. فدار الكتب والوثائق في مصر رمز ثقافي وإحدى أدوات نشر العلم والمعرفة في المنطقة العربية؛ فالبناء الضخم الواقع على كورنيش النيل يُعَدُّ قِبلةً للدارسين والباحثين والمهتمين بكل فروع العلم على مدار قرن ونصف القرن من الزمان.
لا تقوم دار الكتب بدورها كأكبر مكتبة وطنية في مصر فحسب، وإنما تضم إلى جانب ذلك مجموعة نادرة من الوثائق والمخطوطات التي تعود إلى عصور مختلفة، كما تضم مجموعة من المراكز المتخصصة في مجالات ثقافية متعددة. وبتطوُّر الزمن أصبحت دار الكتب تُساير التقدم العلمي، وتستخدم أحدث ما وصل إليه العلم والتكنولوجيا في تقديم خدماتها لجمهورها المُتردِّد عليها، وفي سُبُل الحفاظ على مُقتنياتها التاريخية التي لا يُقدَّر بعضها بثمن.
إنشاء الكتبخانة الخديوية
للتعرف على بداية فكرة إنشاء دار للكتب في مصر وكيف بدأت الفكرة، وتم تنفيذها يقول أيمن فؤاد سيد، أستاذ التاريخ الإسلامي، رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، والرئيس السابق لدار الكتب "قبل إنشاء دار الكتب كان هناك جهل بقيمة الممتلكات الثقافية التي تملكها مصر مع عدم وجود قوانين وتشريعات تحمي هذه الممتلكات وتمنع الاتجار فيها، أو نقلها، ومع تردُّد كثير من الأجانب على مصر، وانتشار تجارة الكتب والآثار تسرَّب جزء كبير من الكتب النادرة والمخطوطات وأوراق البردي من مصر وعرف طريقه إلى مكتبات خارجية في أوروبا وتركيا والولايات المتحدة".
يضيف "تنبَّه إلى خطورة ذلك واحدٌ من أبناء مصر المُستنيرين، وهو علي باشا مبارك، مدير ديوان المدارس، الذي عاش في فرنسا فترة غير قصيرة ابتداءً من عام 1844، حيث كان ضمن البعثة التي أُوفدت لدراسة العلوم العسكرية، وشاهد عن كثب المكتبة الوطنية في باريس، وأعجب بها كثيراً، وعندما عاد إلى مصر، وأصبح في موضع يُتيح له الاتصال بأُولي الأمر اقترح على الخديوي إسماعيل إنشاء دار للكتب على غرار دور الكتب الوطنية في أوروبا، واستصدر منه قراراً عام 1870".
مقرَّات مختلفة
مع مرور الزمن وتطوُّر دار الكتب المصرية وازدياد محتوياتها من كتب ووثائق كانت هناك حاجة ماسَّة إلى التوسع وتوفير ظروف أفضل لحفظ وتخزين الكتب التي يزداد عددها، بالإضافة إلى توفير مساحات أكبر لاستقبال المترددين على المكان، فماذا كانت أهم المقرات التي تنقَّلت بينها دار الكتب؟ عن هذا الأمر يقول أستاذ التاريخ الإسلامي "ضمَّت دار الكتب في أول عهدها 20 ألفاً من المجلدات والمراجع ومجاميع الخرائط التي أمكن جمعها في ذلك الوقت من تراث مصر المخطوط وأوائل المطبوعات، وضُمَّ إليها سائر كتب المكتبة الأهلية القديمة ومكتبتي وزارة الأشغال والمعارف العمومية، والمكتبة الأهلية القديمة كان محمد علي باشا قد قام بإنشائها في القلعة لحفظ كتبه الخاصة، والكتبخانة الخديوية عند إنشائها كان مقرها الطابق الأرضي بسراي الأمير مصطفى فاضل باشا شقيق الخديوي إسماعيل بدرب الجماميز بالقاهرة، وهي تُعد أول وأقدم مكتبة وطنية في الشرق الأوسط. وبَقِيَتْ في هذا المكان حتى ضاق بمحتوياته ووضع الخديوي عباس حلمي الثاني حجر أساس الكتبخانة الخديوية ودار الآثار العربية في باب الخلق، حيث خُصِّص الطابق الأرضي لدار الآثار العربية، والطابق الأول وما فوقه للكتبخانة، وافتتحت عام 1903، وقد تأثر تشييد المبنى بنظام المتحف البريطاني الذي كان حتى عام 1974 يحتوي على المكتبة الوطنية الإنجليزية. وفي 23 يوليو (تموز) 1961 وُضِعَ حجر الأساس لمبنى الدار الجديد على كورنيش النيل بمنطقة (رملة بولاق)، وما زال قائماً حتى الآن".
150 عاماً من التنوير
كانت دار الكتب المصرية - ولا تزال - أحد أهمِّ الكيانات الثقافية في مصر، وكانت مُلتقى كبار الكتاب والمفكرين وأعلام العلم والأدب، وعلى الرغم من أنها عند بداية إنشائها كانت تُدار بواسطة الأجانب فإنه مع مرور الزمن تواكب على رئاستها نُخبة من الرموز الأدبية في مصر، كما كان من بين المهتمين بالدار والمترددين عليها نُخبة من رموز مصر الثقافية من أمثال أحمد لطفي السيد، وتوفيق الحكيم، ويحيى حقي، ومنصور فهمي باشا، والشاعر أحمد رامي، وغيرهم كثير من الرموز المصرية؛ لما لدار الكتب من قيمة ومكانة في مصر وخارجها، ولما لها من دور كبير في التنوير ونشر العلم. وحول هذا الأمر يقول "كانت دار الكتب حتى النصف الأول من القرن العشرين تُعَدُّ الجامعة الأهلية لمصر، وكان يتوافد عليها كل من هو مهتم بالعلوم، وبالتعرف على مصر، فاستقبلت المُستشرقين والعلماء والباحثين والكُتَّاب، ومنذ إنشائها في عهد الخديوي إسماعيل فقد عُني كثيراً بتطويرها وزيادة أعداد محتوياتها من الكتب، فاشترى لها من ماله الخاص مكتبة أخيه مصطفى فاضل باشا بعد وفاته في اسطنبول بمبلغ 13 ألف ليرة عثمانية، وقد كانت مكتبة لا نظير لها تضم 3458 مجلداً من نوادر المخطوطات ونفائس الكتب. وكانت نواة المجموعة الأجنبية الأولى من الكتب هي كتب الجمعية المصرية التي ألَّفها عام 1836 بعض الأجانب الذين توافدوا على مصر، وأُهديت إلى الكتبخانة عام 1873، وأوصى كثير من المفكرين والكُتَّاب على مرِّ السنوات بضم مكتباتهم الخاصة إليها بعد رحيلهم، وأهداها ورثتهم إلى الدار، وتضم المكتبات المهداة مجموعات كبيرة لمشاهير الأدباء والمفكرين أمثال الشيخ محمد عبده، وعمر مكرم، وعباس العقاد، وأحمد تيمور باشا، وأحمد زكي باشا، وغيرهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مخطوطات نادرة
من أكثر ما يُميِّز دار الكتب والوثائق القومية في مصر ما تحتويه من مخطوطات نادرة تعود لعصور مختلفة يتم التعامل معها بعناية فائقة، وتُعَدُّ أحد كنوز مصر الثقافية التي تُعنى الدار بالحفاظ عليها، وتُتيح للباحثين والعلماء سُبُل الاستفادة منها. وعن هذا الأمر يقول فؤاد "تضم دار الكتب مجموعة نادرة من المخطوطات تبلغ نحو 60 ألف مخطوط من أقيَم وأنفَس المخطوطات، وتضم مجموعة من المصاحف الشريفة والربعات، وبعضها على الرِّق، ويرجع أقدمها إلى عام 77 هجرية، وهو مصحف منسوب إلى الإمام الحسن البصري، بالإضافة إلى مجموعة نادرة من المصاحف المملوكية ومجموعة نادرة من المخطوطات الفارسية المُزيَّنة بالصور (المنمنمات)، مثل نسخة من كتاب (كليلة ودمنة) يتخللها 112 صورة مرسومة بالألوان ترجع إلى القرن الثامن الهجري، ونسخة من (الشاهنامة) للشاعر الفارسي أبي القاسم حسن بن إسحاق الفردوسي، تعود لعام 796 هجرية تتخلَّلها 67 صورة مرسومة بالألوان. كما تضم الدار مجموعة نادرة من أوراق البردي العربية التي تضم وثائقَ ومُراسلات وعقودَ بيعٍ وشراء وزواج، كما تضم مجموعة من النقود الإسلامية التي تعود لعصور مختلفة، ومجموعة نادرة من الخرائط القديمة تخُصُّ كل القُطر المصري أهدتها مصلحة المساحة إلى دار الكتب لتُحفظ ضمن مقتنياتها. وتضم الدار مجموعة نادرة من الدوريات أقدمها العدد الأول من جريدة (الوقائع المصرية) الصادر يوم 3 ديسمبر 1828، والعدد الأول من جريدة الأهرام الصادر في 5 أغسطس (آب) 1876".
ترميم ومراكز علمية
إلى جانب قيام دار الكتب والوثائق بدورها المنوط بها كأكبر مكتبة وطنية في مصر تضم الدار عدَّة مراكز علمية وبحثية هامَّة، كما تضم مركزاً للترميم على أعلى مستوى يُعنَى بترميم مقتنيات الدار من مخطوطات ووثائق نادرة والحفاظ عليها. وحول هذا يقول أستاذ التاريخ الإسلامي "يُعَدُّ مركز الصيانة والترميم والميكروفيلم أحد المراكز التطبيقية الهامَّة في دار الكتب المصرية؛ فهو يتولى ترميم وصيانة مقتنيات الدار، ويعود إنشاؤه إلى عام 1962، عندما استقدمت الدار متخصصة روسية في أعمال الترميم وصيانة المخطوطات والوثائق تنفيذاً للمعاهدة القائمة بين الجمهورية العربية المتحدة والاتحاد السوفياتي آنذاك لتقوم بتدريب مجموعة من العاملين على أعمال الترميم بمختلف أنواعه. أما قسم الميكروفيلم فيعود إلى عام 1930، عندما أنشأت الدار قسماً للتصوير تابعاً لمطبعة دار الكتب لتصوير المخطوطات على ورق حسَّاس بطريقة الفوتوستات".
ويضيف "بحلول عام 1954 بدأت الدار عملية منظمة لتصوير رصيدها من المخطوطات على الميكروفيلم ليصل إجمالي ما تم تصويره إلى ما يزيد على خمسين ألف مخطوط، وتتَّبع الآن دار الكتب أحدث الوسائل التكنولوجية لتصوير مُقتنياتها، وإتاحة الاستفادة منها، كما تضم دار الكتب ستة مراكز علمية متخصصة، وهي مركز تحقيق التراث، ومركز تاريخ مصر المعاصر، ومركز الترميم والصيانة والميكروفيلم، ومركز الببلوغرافيا والحاسب الآلي، ومركز توثيق وبحوث أدب الطفل، ومركز التنمية البشرية".
تطوير دار الكتب
مرَّت دار الكتب بتطوُّرات مختلفة مع مرور الزمن واختلاف وسائل العصر، وأصبحت الآن تستخدم أحدث الوسائل التكنولوجية، وتتَّبع آخر ما وصل إليه العلم في مجال الكتب والمخطوطات، إلا أنها على اختلاف مراحل تطويرها قد عانت بعض الإشكاليات التي قد يختلف عليها البعض، وتظل أموراً تقبل الجدل والمناقشة، وتحتمل وجهات نظر متعددة. يقول فؤاد باعتباره كان مدير مشروع تطوير دار الكتب الذي تم تنفيذه عام 1994 "أرى أن فكرة ضم دار الوثائق القومية إلى دار الكتب، والتي حدثت عام 1965 لم تكُن فكرة مُوفَّقة؛ فقد جاء هذا الضم عبئاً على دار الكتب وتهميشاً لدار الوثائق أعاق كلاً منهما عن أداء رسالته على الوجه المُنتظر منه، فجمع المكتبة الوطنية والأرشيف الوطني في كيان واحد يبدو غير منطقي، إلا أنه في عام 1992 أصدر وزير الثقافة الفنان فاروق حسني قراراً وزاريّاً بتشكيل لجنة استشارية عُليا لتطوير دار الكتب تولَّت رئاسة جلساتها السيدة سوزان مبارك حرم رئيس الجمهورية آنذاك، كما استصدر الوزير فاروق حسني قراراً جمهوريّاً في مارس (آذار) 1993 بأن تكون دار الكتب والوثائق القومية هيئة عامة مستقلة لها شخصيتها الاعتبارية وميزانيتها المستقلة".
ويؤكد "كان الهدف من مشروع التطوير هو القيام بعملية تطوير شامل لدار الكتب كمكتبة وطنية وإعادتها إلى المكانة التاريخية والريادية في منطقة الشرق الأوسط والأخذ بأسباب التقدم العلمي والتكنولوجي، كما كان هناك نقطة انطلاق أساسية، وهي العمل على تطوير مبنى باب الخلق التاريخي وتحويله إلى مكتبة للدراسات الشرقية، وهو ما حدث بالفعل حيث تم تطويره وصيانته وإعادة افتتاحه ليعود إلى القيام بدوره، ويُضاف إليه متحف دار الكتب الذي يضم مجموعة من أنفَس المُقتنيات التي تضمها الدار".