كان الأمر أشبه ببدعة علمية لا سابق لها: فلم يكن قد حدث من قبل أن تأسس علم بكامله لافظاً ما كان عليه قبل ذلك، من خلال اشتغال مجموعة من العلماء/ المفكرين على علمهم، وإصدارهم مجلة فصلية تلمّ شملهم وأفكارهم، في وقت راح كل واحد منهم يشتغل على حدة على بحوث متنوعة في مجال ذلك العلم تلتقي جميعها في بوتقة واحدة خلال حقبة تاريخية محددة. ولنحدد منذ الآن أن تلك المجلة حملت اسم "حوليّات" ANNALES مع عنوان فرعي يلخص مجالات عملها يتألف من ثلاث كلمات هي "اقتصادات، مجتمعات، حضارات". أما الكلمة الأكثر أهمية التي كانت ماثلة خلف تلك التسمية فكانت تبدو طالعة من مكان آخر كالشبح: التاريخ. كان علم التاريخ هو بالتحديد العلم الذي انطلق منه واشتغل عليه أولئك العلماء الذي كانوا يعدَّوْن على أصابع اليد الواحدة فإذا بهم خلال سنوات قليلة يصبحون عشرات ثم مئات. يصبحون كلّ من انكب جدياً منذ أواسط القرن العشرين على كتابة التاريخ والاشتغال عليه. أما البداية فكانت تحديداً في عام 1929 حين تشارك لوسيان فيفر ومارك بلوك في تأسيس تلك المجلة الفصلية التي أشرنا إليها والتي ستصبح نقطة المركز في تلك الثورة التي غيرت علم التاريخ بل حتى أهدافه ومراميه الاجتماعية. مع مجلة "حوليّات" إذاً لم يعد التاريخ كما كان عليه طوال قرون وحقب وعبر مدارس وتيارات. ولنقل هنا في نوع من إعادة اعتبار لا بدّ منها وإن كانت ستبدو مغالية من قبلنا بعض الشيء، إن التاريخ قد صار في عمل جماعة الحوليّات أشبه بذلك الذي وصفه وطالب به ابن خلدون في مقدمته الشهيرة التي إذا كانت قد رُبطت منذ إعادة اكتشافها أوائل القرن العشرين بأشغال كارل ماركس ودوركهايم، فإن ظهور "حوليّات" ومؤرخيها أوجد الوريث الشرعي للنظريات الخلدونية في كتابة/ صناعة التاريخ. وإذا كان معظم الذين يتحدثون عن "الحوليّات" اليوم يذكرون اسم المؤرخ الفرنسي الكبير الراحل فرنان بروديل بكونه أشهر مؤسسيها، فإن الإنصاف يقتضي منا أن نعود إلى زمن ما – قبل – بروديل لتحديد ذاك الذي كان بالفعل أول من غاص في تلك المغامرة الفكرية الفريدة من نوعها. وهو لوسيان فيفر أستاذ بروديل وعشرات غيره من كبار مؤرخي "الحوليّات"، والمؤسس الأول والحقيقي للمجلة كما للتيار.
على خطى ابن خلدون؟
والحقيقة أنه إذا كان لمفكرنا العربي ابن خلدون من شبيه في الغرب، من أبناء القرن العشرين، فإن هذا الشبيه لن يكون سوى لوسيان فيفر، الفرنسي الذي يعتبر بحق ومن خلال تأسيسه "حوليّات" وتيارها، الأب الشرعي لـ "التاريخ الجديد" في فرنسا، وربما في أوروبا كلها أيضاً، منذ بدايات القرن أيّ قبل أن يؤسس تلك البدايات الجماعية المدهشة، حين وضع، وكان في الثالثة والثلاثين من عمره، أطروحته حول "فيليب الثاني ومقاطعة فرانش – كونتي". هذه الأطروحة التي لا تزال تُقرأ حتى اليوم وكأنها كتبت في الأمس القريب، لجدتها وجدة تعاملها مع القضية التاريخية.
وهنا لا بد أن نعود إلى علم التاريخ نفسه لنشير إلى أنه إذا كان قد عولج دائماً، قبل ابن خلدون - في "المقدمة" على أي حال، أكثر مما في "كتاب العبر" الذي كان في نهاية الأمر عملاً تقليدياً في كتابة التاريخ يختلف ما فيه عما دعا اليه مؤلفه في "المقدمة"، غير أن هذه مسألة أخرى بالطبع - بوصفه حكايات سياسية ومعارك وتعاقب ملوك، ودسائس قصور، إذ كان له المصير ذاته في المدارس التاريخية الأوروبية، بصورة عامة، قبل أن يحل القرن العشرون، ويتبدل تبدلاً جذرياً على يد مؤرخين من أمثال لوسيان فيفر. فهنا صار التاريخ علماً يستوعب العلوم الأخرى: صار المجتمع جزءاً أساسياً مكوناً له، فضمّ التاريخ علوم الاجتماع والجغرافيا، وتاريخ الأديان وتاريخ الذهنيات وتطور التقنيات والصناعة، ناهيك بتاريخ الفنون والآداب والتاريخ الاقتصادي وتطور العادات الاجتماعية والتقاليد... صار التاريخ مصنوعاً من هذا كله، من كل تلك العلوم والأفكار التي طبعت - كما يدرك القارئ المطلع – "مدرسة الحوليّات"، والأمر ليس مصادفة، فلوسيان فيفر الذي جعل كل ذلك أساس أطروحته الأولى التي أشرنا إليها، سيجعله كذلك في أساس "مدرسة الحوليّات وتيارها الفكري" حين وجد نفسه يلتقي مع زميله إرنست بلوك، ثم مع ذلك الرهط من الذين انضموا إلى المؤسسين تدريجاً وحملوا تلك الأسماء التي طبعت كتابة التاريخ فناً وعلماً في القرن العشرين ولا تزال تفعل حتى الآن: فرنان بروديل، ولي روا لادوري، وبيار شينو، وجاك ليغوف، مارك فيرو، وجورج دوبي... بين آخرين.
سمة خلدونية أخرى
أما بالنسبة إلى لوسيان فيفر فهو وُلد عام 1878 في مدينة نانسي، في الشرق الفرنسي، وتلقى دراسة ابتدائية وثانوية عادية قبل أن ينال دبلوم التخرج في مادة التاريخ ويصبح استاذاً لهذه المادة. أما الجديد في مساره، فلم يأتِ إلا بشكل لاحق حين وضع أطروحة الدكتوراه التي أشرنا إليها، في العام 1911، وقاده نجاح تلك "المغامرة الفكرية" - على حد وصف جاك ليغوف لها - إلى أن ينخرط في سلك التعليم العالي في كلية الآداب بمدينة ديجون، وانتقل بعدها ليدرس في ستراسبورغ بعد انقضاء الحرب العالمية الأولى. وهي المرحلة التي تركز فيها الجزء الأساسي من عمله على التنديد بالكتابة التاريخية الفرنسية الجامدة (كما يفعل ابن خلدون، تماماً، حين ينتقد المدارس التي سبقته، في "المقدمة").
فبالنسبة إلى فيفر كان التاريخ المكتوب مجرد تاريخ تاريخيّ، يهتم بالأحداث والطرائف والتقلبات الكبرى. أما التاريخ الحقيقي بالنسبة إليه، وكما سوف يشرح لاحقاً في كتب أساسية له مثل "ظهور الكتاب" (1954) و"معارك من أجل التاريخ" (صدر في العام 1957 بعد رحيل مؤلفه بعام)، فهو تاريخ البشر الذي تدخل فيه عناصر العلوم الاجتماعية، حيث إن "التاريخ لا يمكن أبداً فصله عن الإطارات الاجتماعية والاقتصادية، التي يتجذر فيها بالضرورة". ومن هذه العناصر الجغرافيا، التي يتوسع في تبيان علاقتها بالتاريخ في كتابه "الأرض وتطور البشرية، مدخل جغرافي إلى التاريخ" (1922)، والتطلعات الدينية وظهورها كجزء من التفكير البشري أيام عصر النهضة وأنسنة الإنسان، كما يشرح في كتابه "مصير: مارتن لوثر" (1928) وبخاصة في "مشكلة اللا-إيمان في القرن السادس عشر" (1942).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كل شيء يصبّ في التاريخ
باختصار كان لوسيان فيفر، عبر عمله الشخصي، كما عبر "التيار" الذي ساهم مساهمة أساسية في انشائه (تيار "الحوليّات" أو "التاريخ الجديد"، كما يطلق عليه في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية)، يسعى إلى أن يدمج في علم التاريخ مجمل إنتاجات العناصر الدراسية الأخرى، إذ إن التاريخ، يمكن أن يكون، بل من المحتم له أن يكون، في رأي لوسيان فيفر، مرتبطاً بتطور التقنية وعلم الاجتماع وعلم الأعراق، وتطور العلوم اللغوية، وبقية العلوم الاجتماعية، تكوّنه ويكوّنها في الوقت نفسه. ومن هنا يعتبر فيفر، كما أشرنا، مؤسس أول مدرسة علمية تاريخية ظهرت في القرن العشرين، وكان مركز انبعاثها القسم الرابع في "مدرسة الدراسات العليا" الذي منه أيضاً انبثقت مجلة "حوليّات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي" التي تأسست في العام 1929، واعطت التيار كله اسمه المتعارف عليه. وفي كتبه الأخيرة، انكب لوسيان فيفر، خلال السنوات التي سبقت رحيله عن عالمنا في سبتمبر (أيلول) 1956، على تفسير أساليبه التاريخية والتركيز على ارتباطها بالمجتمع والإنسان. أما نشاطه وسمعته كعالم استثنائي فدفعت إلى انتخابه عضواً في "أكاديمية العلوم الأخلاقية والاجتماعية" في العام 1949، ما جعله يلعب دوراً أساسياً في إنشاء المركز القومي للبحث العلمي، أحد أهم مراكز الدراسات العلمية في فرنسا.