أصدر كل من رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس المجلس الرئاسي فايز السراج بيانَين مُتزامنَين بوقف إطلاق النار، والدعوة لانتخابات في مارس (آذار) المقبل، وهو أمر يبدو شديدَ الطموح. ومن ناحية أخرى، تُجرى ترتيبات لتشغيل المؤسسة الوطنية للنفط، التي أعلنت أنها لن تستأنف إنتاجها إلا بشرط انسحاب الميليشيات من منشآتها. وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أول من سارع بتأكيد دعم مصر هذه التطورات الإيجابية التي سبقتها خطوات عديدة، من أبرزها لقاء اللواء خالد مجاور، رئيس المخابرات الحربية المصري، مع عقيلة صالح قبل هذا بيومين، وتضمنت تصريحات رئيس المجلس تطلعه لأن تكون سرت مقراً للمجلس الرئاسي الجديد، وأن يكون ممثلاً للمناطق الليبية الثلاث.
التفاصيل التي تكشَّفت في الساعات التالية لهذين البيانَين تضمنت تصريحاً من آمر حرب المنشآت النفطية، اللواء ناجي المغربي، أشارت إلى أن حفتر وافق على أن فتح الموانئ النفطية يتعلق بالنفط المُخزّن، لتوفير الغاز المطلوب لتشغيل الكهرباء، ولرفع المُعاناة عن المواطنين. وأضافت تصريحات أخرى أن أموال النفط سيتم إيداعها في البنوك، ولن يتم صرفها إلا بعد اكتمال تسوية سياسية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تحدَّثت المعلومات عن أن سرت والجفرة منطقتان منزوعتا السلاح، وهو ما يتضمَّن قدراً من الغموض، حيث ظهرت تصريحات متضاربة، وخاصة من أوساط الجيش الليبي بأن هذا لا يعني انسحاب قواته من المدينة؛ كون الوضع الراهن أن الجفرة وسرت تحت سيطرة الجيش الليبي فعلياً، بينما أشارت تصريحات لمستشار عقيلة صالح إلى أن الحديث عن منطقة منزوعة السلاح مبني على أن وجود الجيش الليبي في محيط سرت، وليس داخلها، وفي جميع الأحوال هناك غموض حول هذه النقطة حتى الآن.
واستكمالاً لتحليل الموقف، تأتي تصريحات لافتة للسراج بأن الهدف هو استرجاع السيادة الوطنية، وخروج القوات الأجنبية والمُرتزقة، وقد يكون التعليق للوهلة الأولى أنه يقصد المرتزقة الروس، ولكن لا يمكن تفسير هذا التصريح إلا مرتبطاً بتصريحات متسارعة لبعض القيادات الليبية المتشددة التي اتهمت السراج بالضعف، وعدم القدرة على القيادة، فالراجح أن المرتزقة في صفوف الوفاق أكثر عدداً من الطرف الآخر، وكانت بعض الأصوات قد رأت في هذا الاتفاق انعكاساً لمخاوف السراج من حليفه الإسلامي وزير الداخلية فتحي باشاغا الذي قوي نفوذه في الفترة الأخيرة، ولكن الأخير لم يرحب فقط بالاتفاق، بل صرح بأنه ما كان ممكناً لولا دعم مصر والولايات المتحدة وتركيا هذا الاتفاق. ويضاف إلى هذا المشهد ترحيب تركي وقطري وسعودي والجامعة العربية وإيطاليا وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وطبعاً واشنطن التي تشير التقارير إلى أنها اللاعب الرئيس في صياغة هذه الترتيبات.
ما يمكن استخلاصه من جملة المشهد وتفريعاته أن هذا الاتفاق هو خلاصة ترتيبات دولية وإقليمية، ونتاج توازنات فرضت نفسها من عديد من المكونات، بعد التدخل التركي الواسع، ثم الإنذار المصري، والتدريبات المشتركة المصرية – الفرنسية، والمصرية – اليونانية، والتوتر التركي – القبرصي - اليوناني، فضلاً عن التصعيد الفرنسي في مواجهة تركيا، وشيوع عدم ترحيب واشنطن بمواجهة مصرية – تركية، ولا بالطبع مواجهة تركية – فرنسية، وقد يضاف إلى كل المشهد عدم ترحيب واشنطن أيضاً بمواجهة تركية – يونانية.
السؤال إذن هل أدَّى التصعيد والوصول إلى حافة الصدام في المشهد الليبي إلى إمكانية بدء عملية تسوية وحلحلة لهذا المشهد وإمكانية الخروج من عنق الزجاجة؟ أم أن هذه التطورات فقط بغرض نزع فتيل الحرب والتهدئة وتوقع نوع من استمرارية الركود حتى تتغير التوازنات العسكرية والسياسية، وخاصة مع وجود بعض الشواهد لمحاولة استئناف التصعيد العسكري بين الجانبين.
الشروط الخارجية للتسوية السياسية
لا تصل الصراعات إلى تسويات إلا وفق عدد من السيناريوهات أو الاحتمالات، إما أن يتمكن أحد أطراف الصراع من فرض إرادته، أو تتيقن الأطراف من عدم قدرة أي منها على تسوية هذا الصراع وفقاً لإرادتهم المنفردة، أو يتمكن طرف خارجي وسيط أو منظمة دولية من فرض تسوية أو تسهيل حدوثها بشكل أو آخر. هنا من المؤكد أن الطرف التركي وجد حجم معارضة دولية وإقليمية واسعة فرضت عليه المراجعة والتجاوب مع جهود الحلحلة، ولا نقول التسوية بعد، فشواهد التراجع التركي أكبر من مجرد عدم إقدامها على التحرك تجاه سرت، بل من الإشادة التركية بدور مصر في ليبيا، وهي الإشادة الأولى من جانب أردوغان بمصر منذ 30 يونيو (حزيران) 2013، ولعلي أضيف لكل هذا أمراً قد يبدو بعيداً عن المشهد الليبي، وهو إعلان تركيا اكتشاف أكبر حقل غاز في شواطئها بالبحر الأسود، الأمر الذى قد يكون تمهيداً لتراجع تركيا عن التصعيد في شرق المتوسط، بحيث يكون هذا الإعلان حفظاً لماء الوجه، أو فرصة حقيقية تُتيح هذا التراجع، وتهدئ من الغضب التركي من غيابها عن مائدة الغاز من شرق المتوسط، ففي النهاية طبيعي أن تجد تركيا نفسها مُرهقة من توسع معاركها الخارجية واحتمال خسارتها كلها، وبشكل أو آخر يبدو المشهد من حيث نتاج تصارع الإرادات والتوازن لصالح الخروج من المأزق الراهن، أو على أسوأ الظروف مناورة تركية لالتقاط الأنفاس بعد تصاعد الضغوط والمعارضة ضدها، وإن كان من المرجح من نمط تصريحاتها الرغبة في الخروج من مأزق تكتل العداوات ضدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن الأزمة الليبية مثل الأزمات الإقليمية الراهنة الأخرى تسير في دوائر أو مسارات دائرية، وسجل تطورها يشير إلى أنها كانت تخرج من تصعيد وتهدئة مؤقتة إلى تعقيد أكبر، وأن نموذج اتفاق الصخيرات الذي كان يفترض فيه أن يقود إلى تسوية وتهدئة أدخل الأزمة الليبية في مسار معقد، وصل إلى حافة الهاوية في المواجهة العسكرية بين الجيش الليبي وقوات الوفاق، وجاءت مخرجات برلين التي وُصفت آنذاك بأنها لن تُخرج الأزمة من تعقيداتها، ثم حافة هاوية ثانية وأكثر حدة بالتدخل التركي الذى قاد إلى الإنذار المصري، الذى بدا في حينه وكأن الأمور تسير في طريق المواجهات الدولية الواسعة، وليس فقط الحرب الأهلية، ولكن هذا التصعيد واسع النطاق قاد إلى المخرج الراهن.
في الحقيقة، هذه المرة تبدو الشواهد أن فرص البناء على هذه المعادلات الإقليمية والدولية الجديدة أكثر احتمالية مع كل الرسائل التي خرجت من أغلب الأطراف، وأن الأمور ستكون رهناً بالمعادلات الداخلية.
الشروط الداخلية للتسوية الليبية
يمكن تلخيص عناصر الأزمة الداخلية في عدة متغيرات رئيسة، قد يصفها البعض بالانقسام بين المجلس النواب اللاجئ إلى طبرق وحكومة الوفاق التي انبثقت من الصخيرات، أو الخلاف على مكاسب النفط، أو الانقسام بين شرق البلاد وغربها، وقد يُثير البعض طموحات المشير حفتر السياسية في مواجهة خصومه، أو يزداد عمقاً ويراها صداماً بين الإسلام السياسي والقوى المدنية، كما قد يبرز وجود الميليشيات المسلحة، وخاصة ذات التوجه الديني. والحقيقة، إن كل ما سبق لا يكفي لفهم مضمون وفلسفة التطورات والتحولات التي شهدتها ليبيا؛ فالحقيقة أن القضية الكبرى هي رفض قوى الإسلام السياسي ما بعد الإطاحة بالقذافي أي ناتج للانتخابات دون منحها الهيمنة على الحياة السياسية أو تسليم هيمنتها على العاصمة لسلطة سياسية مؤيدة لها، ومحاولتها كسب الوقت لحين تغيير توجهات الشعب الليبي بالإقناع أو القهر لفرض النموذج السياسي الذى تريده، ومعنى هذا أن الخروج من المحنة الحالية يقتضي أمرين محددين، أولهما قبول كل المجتمع الليبي ناتج أي انتخابات شفافة ونزيهة تحت إشراف دولي، وثانيها هو نزع سلاح جميع الميليشيات غير سلطة الدولة الرسمية.
مسارات مُحتملة
إننا أمام مسارين: المسار الأول محاولة بعض المكونات العسكرية للجانبين إجهاض المسار السياسي والعودة للتصعيد العسكري، وهو ما سيتوقف احتماله على مدى الإصرار الدولي لمنع حدوث ذلك. أما المسار الثاني فهو إذا بدأت عملية سياسية حقيقية في هذا الاتجاه فإن صدامات بين مكونات القوى المؤيدة لحكومة الوفاق ستؤدي إلى عودة حالات عنف ومواجهات مسلحة، على الأقل في المنطقة الغربية، وإن تيارات الإسلام السياسي الأكثر اعتدالاً ستضطر لمواجهة تلك الأكثر تشدداً إذا كان لدى تلك المعتدلة بعض الثقة في إمكانية تحقيق ناتج أقل سلبية من نماذج الانتخابات السابقة؛ اعتماداً على مرور سنوات من سيطرتها على المنطقة الغربية، على الأقل كمعارضة وازنة، وعلى الرغم من التشكيك في قدرة السراج على السيطرة الكاملة على المشهد في معسكره، فلا أستبعد، ولا أؤكد أيضاً، أن بعض هذه الفصائل سيحاول استغلال وقف إطلاق النار لتغيير الموازين على الأرض، وهو الأمر الذي قد يحدث في حالة انتكاس الموقف التركي مجدداً مع التقدير مرة أخرى بأن الإشارات الإيجابية الأخيرة من أنقرة غير مسبوقة، وعلى الرغم من كل ذلك فإن علينا التريُّث بعض الشيء ومراقبة التطورات السريعة المقبلة.