في روايته "أفراح القبة" الصادرة في العام 1981، سعى نجيب محفوظ إلى تشريح المجتمع المصري بعد الإنفتاح الإقتصادي، وبيان ما حلَّ به من تفسخ وانتهازية وتسليع للقيم على حساب الروح الإنسانية، معرجاً على فترة الستينيات وهزيمة 67، وكأنه يحذر- بشكل فني خفي كعادته- من تكرار الهزيمة التي لن تقتصر على الجانب العسكري لكنها ستمتد إلى تدميرهذه الروح تماماً، لتصبح النكسة حضارية أكثر منها عسكرية.
من قرأ الرواية، لا بد من أن يتساءل: كيف يمكن تحويلها إلى عمل مسرحي يستوعب طبيعة بنائها؟ نعم هي تحوَّلت إلى مسلسل تلفزيوني حقق نجاحاً لافتاً، لكن طبيعة الدراما التلفزيونية، التي ربما تكون أكثر مرونة من المسرح، تسهل على الكاتب التعاطي مع الرواية، وبخاصة بما تمنحه من مساحات واسعة للحواروالسرد، وقدرة على الانتقال الزماني والمكاني بسهولة قد يعجز المسرح عن امتلاكها مع هذه النوعية من الروايات.
صعوبة الأمر تكمن في أن لدينا بالرواية أربعة فصول تروي أحداثاً واحدة ولكن من وجهات نظر مختلفة، كل فصل يحمل اسم أحد أبطال الرواية: طارق رمضان، كرم يونس، تحية الكبش، عباس كرم يونس.
مغامرة شبابية
المخرج الشاب يوسف المنصور أقدم على هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر من جهة هذا البناء الروائي المختلف، وقدَّم من إعداده عرض "أفراح القبة" في إنتاج لمسرح الشباب التابع للبيت الفني للمسرح المصري.
القراءة الواعية للرواية مكَّنت المخرج من صياغة نص مسرحي بدا متماسكاً ومحكماً، فهو لم يعتمد على التتابع السردي الذي يأتي على لسان الأبطال، وإنما على فكرة تداخل هذه الشخصيات أو تدخلها في رواية الحدث، وإن أدى ذلك إلى تكرار العديد من المشاهد وبالتالي طول مدة العرض التي تجاوزت المئة وخمسين دقيقة. وهو رغم ذلك خرج بأقل قدر من الخسائر، بخاصة أنه دعم عمله بمشاهد حركية تعبيرية (صمَّمها مناضل عنتر) عوضاً عن الديالوغات أو المونولوغات التي قد تصيب المشاهد بالملل.
على سبيل المثال فإن الإبن يروي عن أمه أنها كانت على علاقة بصاحب المسرح سرحان الهلالي، ويتم تجسيد المشهد الذي يوضح وجهة نظر الإبن، فيحدث أن تتدخل الأم ويتم تجسيد المشهد نفسه ولكن من وجهة نظرها، وهكذا العديد من المشاهد التي تم تكرارها لتأكيد وجهة نظر كل واحد من أبطال العمل.
فضح الشخصيات
يقررعباس كرم يونس أن يكتب نصاً مسرحياً للفرقة التي يمتلكها الهلالي، يتناول النص الحياة الشخصية لأفراد الفرقة بما تتضمنه من فضائح أخلاقية وأسرار لا يعرفها الكثيرون، ومن بين أفراد هذه الفرقة أمه وأبوه، وذلك كله من وجهة نظره، وعند تجسيد النص كعرض مسرحي، يحدث أن تتدخل كل شخصية يتم الحديث عنها وتوقف العرض، وتبدأ في سرد الحدث من وجهة نظرها التي تختلف تماماً عن وجهة النظر التي يقدمها الآخرون.
الأحداث تدور في فضاءين، الأول هو البيت القديم ، بيت الأب والأم والابن، الذي شهد كل المسكوت عنه في حياتهما خارج المسرح وفسَّره على هواه، أما الثاني فهو المسرح الذى تتجمع فيه الخيوط وتتشابك الأحداث. والفضاءان يكملان بعضهما بعضاً ويرتبطان عضوياً، بحيث لا تكتمل الرواية إلا بهما معاً، ومن خلالهما، نتعرف على بقية الشخصيات المساعدة، وأدوارهم، وطبيعة العلاقات المعقَّدة، الظاهر منها والخفي.
سرحان الهلالي الذي حصل على المسرح من مالكه الأجنبي بالحيلة بمساعدة صديقه الممثل الثانوي طارق رمضان، ثم خيانته لطارق وانفراده بإدارة المسرح وتحريك كل خيوط اللعبة. شخصية ترمز إلى ذلك القائد الذي تبوأ مكانته بالحيلة وخان مساعديه، حسب نجيب محفوظ، وإن أضفى عليها بعض الملامح التي تجعلها لا تتطابق حرفياً مع من يقصده تحديداً. هذه الشخصية أداها باقتدارعبدالمنعم رياض مستخدماً جسده وجهازه الصوتي بحرفية شديدة ووعي يشير إلى امتلاكه مفاتيحها وقدرته على سبر أغوراها. وظني أنها من أصعب شخصيات العمل التي تتطلب حساسية خاصة من الممثل؛ لأن فيها ما يغري بالمبالغة في الأداء، لكن رياض كان واعياً وعمل كما يقولون بميزان حسَّاس.
وفضلاً عن عبدالمنعم رياض، كان التمثيل في هذا العرض واحداً من أهم العناصر التي أدت إلى نجاحه. هايدي عبدالخالق التي لعبت دور "تحية الكبش" الأم المتهمة في شرفها من زوجها وابنها، وقدرتها على الإقناع، محمد يوسف في دور الأب الغارق في العفن، ومحمد عبدالقادر في دور الممثل طارق رمضان، ومينا نبيل في دور عباس كرم يونس، وبقية الممثلين الذين شكلوا فريقاً بارعاً في الأداء على اختلاف مساحة كل منهم: عبير الطوخي، سمر علام، فاطمة عادل، جيهان أنور، أحمد طارق، ياسمين ممدوح وافي، مينا نادر، يوسف مصطفى، أحمد عباس، محمد تامر، حسام علاء، هدير مصطفى، باسم سليمان، مارتينا رؤوف، حسام علاء، وحمزة رأفت.
الكل مُدان
عمد المخرج إلى إدخال بعض الممثلين من بين الجمهور وخروجهم إليه، فهو من ناحية عمل على كسر الإيهام، ومن ناحية أخرى أراد تأكيد التماهي بين المشاهد وما يشاهده، أي أن يرى المشاهد نفسه على الخشبة، فما هذه الشخصيات التي تلعب أدوارها على خشبة المسرح إلا نحن، وكأنه يعيد ما أكد عليه محفوظ من أننا جميعاً مدانون، وأن لا أحد مكتمل، أو منفرد وحده بالحقيقة، وأن إنكار ذلك مآله مزيد من الانحطاط والهزائم.
الاختلاف الوحيد بين الرواية والإعداد المسرحي هو أن نجيب محفوظ يتساءل في نهاية الرواية "مَن قتل تحية؟"، وتحية هي إحدى بطلات العمل التي أحبها الإبن وارتبطت بعلاقة مع الممثل طارق رمضان ثم تزوجت الإبن وأنجبت منه وتعرضت للقتل، وهي، كما صوَّرتها الرواية، مثال للبراءة والرغبة في العيش النظيف، لكن قسوة المجتمع تحول دون ذلك. ومن هنا ترك محفوظ السؤال عالقاً، من دون إجابة، وكأنه يشير إلى أن الجميع شارك في قتلها معنوياً قبل أن تقتل جسدياً. لكن المخرج جعل قتلها على يد أحد مساعدي سرحان الهلالي بتكليف من الأخير، ليغلق أفق السؤال الذي طرحته الرواية، فضلاً عن أن مبررات القتل لدى سرحان غير واضحة، وقد تكون تلك النقطة هي المأخذ الوحيد على العمل، وربما لجأ المخرج إليها لجعل العرض مرضياً للجمهور العام الذي قد يحار في تفسير العديد من الأحداث.
مرونة الديكور
ديكور العرض (صمَّمه عمرو الأشرف) كان مرناً وسمح بالانتقال من منظر إلى آخر بسلاسة ومن دون اللجوء إلى الإظلام. فالبيت القديم في خلفية المسرح وهو عبارة عن بناء من طابقين، في الطابق الأول تقبع الأسرة المكونة من الأب والأم والابن، وفي الطابق العلوي في اليسار تمَّ تخصيص هذه المنطقة لمائدة القمار التي كان الأب يستضيفها كل ليلة، وفي اليمين حجرة كانت تدور فيها العلاقة غير الشرعية بين طارق رمضان وتحية، وهو تقسيم له دلالته الواضحة. أما المسرح فيتم الانتقال إليه عن طريق إسدال ستار على البيت واستخدامه كجزء من بناء المسرح الذي لا يضم أية قطع ديكورية أخرى. فنحن أمام خشبة مسرح وكواليس يخرج منها الممثلون ويدخلون إليها.
بشكل عام استطاع العرض رغم طوله النسبي أن يتماس مع الجمهور ويقدم له وجبة متنوعة من الأداء التمثيلي المتقن، ومشاهد متنوعة أيضاً في دلالاتها، وبما أنه يدين فكرة الحقيقة المطلقة، فقد أتاح لكل مشاهد أن يرى ويقارن ويتأمل من الزوايا كافة ليطرح في النهاية وجهة نظره هو الآخر، كنوع من الإلحاح على فكرة التعددية وعدم ادعاء امتلاك اليقين.