Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المثقف والطاغية في مسرحية "سور الصين" للسويسري ماكس فريش

يوم أثبتت أحداث نهايات القرن الـ20 للكاتب المتشائم أنه كان على حق في سوداويته المطلقة

مشهد من تقديم لمسرحية "سور الصين" (موقع المسرحية)

ملخص

أول مسرحية كبيرة كتبها السويسري ماكس فريش ، كانت "سور الصين" التي سار فيها شكلياً، على خطى مسرح بريخت الملحمي، مقدماً شخصيات تاريخية تستخدم الأقنعة والأقوال المأثورة للتعليق على أحداث العالم التاريخية

الحكاية منذ البداية حكاية طاغية يريد أن يبني سوراً عظيماً يمنع به "البرابرة" من أن يتسللوا إلى داخل بلده، قد يحدث هذا في أي زمان  ومكان، بل تكاثر حدوثه في الأزمنة الأخيرة وكان، كما نعرف جميعاً، واحداً من الشعارات التي رفعها إبان معركته الانتخابية واحد من أحدث الفائزين بالانتخابات الرئاسية في العالم، الرئيس الأميركي دونالد ترمب. بيد أن السور الذي يراد تشييده في مسرحية "سور الصين" للكاتب السويسري ماكس فريش الذي يهمنا أمره هنا، هو سور بني في الصين قبل مئات السنين، وبات يعتبر اليوم معلماً سياحياً ورمزاً في شكل من الأشكال، وبالتالي فنحن أمام مسرحية تاريخية. ولكن هل تراها تاريخية حقاً؟ أبداً، ولا حتى في "التاريخية" المطلقة لكل شخصياتها، بمن فيها الإمبراطور هوانغ-تي صاحب المشروع. ولا ينبع هذا من كون الموضوع معاصراً لنا، بل كذلك وفي صورة خاصة، من كون بطل المسرحية الذي يدعو نفسه فيها مين - كو، مثقفاً ينتمي إلى الزمن الذي نعيش نحن فيه، حتى وإن كان يشارك في الأحداث التاريخية التي ترويها المسرحية وكأنه فرد من تلك الأزمنة، ولكن قبل الاستطراد في هذا التوضيح سيكون من الأفضل الوقوف عند المسرحية في بعدها التاريخي الحدثي، فكما أشرنا تدور مسرحية فريش من حول العمل الذي يقوم به الإمبراطور هوانغ-تي جاهداً لبناء سوره، وهو للترويج للفكرة وجمع نوع من التأييد العالمي / الأممي حولها، يفتتح مسعاه بإقامة حفلة تنكرية راقصة كبرى في قصره تشغل الفصل الأول في المسرحية. ومن بين الشخصيات المشاركة في الحفلة تطالعنا كليوباترا وكريستوف كولومبوس ونابوليون. بل حتى دون جوان والعاشقان الخالدان روميو وجولييت، إذ يقوم كل واحد من هؤلاء بالتعليق على ما يبدو أساسياً له في الحياة التي يعيشها. ولكن بين الحضور يتجول معاصرنا ومندوبنا في ذلك العالم القوي والبهيج، المثقف الذي لا يتوقف عن تحذير المحتفلين من أخطار القنبلة الذرية، ومن أن العالم لو استمر على ما هو عليه سينتهي الأمر إلى قيام حرب عالمية ثالثة توصل العالم إلى نهايته. ونلاحظ أن هذا المثقف إنما يتنكر في الحفلة تحت سمات أحد موظفي القصر، لأنه في حقيقته مطلوب هناك للمحاكمة بصفته الشاعر مين - كو، المعروف بكونه الوحيد في طول الإمبراطورية وعرضها الذي لا يزال يجرؤ على انتقاد الإمبراطور. وفي تلك الأثناء يحدث أن رجال الإمبراطور يقبضون على رجل أخرس لا ناقة له في الأمر ولا جمل، باعتبار أنه هو الشاعر المطارد ويعذب الرجل من دون أن يصدقه أحد في إشارته إلى براءته. وبعد تعذيب مرعب يتحول هذا الأسير المظلوم شهيداً لثورة تندلع يقوم بها الشعب الذي راح يطالب بإطلاق سراحه. وسنعرف أن الشخص الذي قاد الثورة لم يكن سوى واحد من أبناء القصر، الأمير وو - تسيانغ الذي يعود غضبه في الأساس لكون الأميرة ابنة الإمبراطور صدت تقربه إليها وسؤالها الاقتران به، مفضلة عليه مين كو نفسه.

 بريخت من دون الشيوعية

في النهاية، فيما تكون الثورة صاخبة مندلعة خارج المسرح تصل إلينا أصداؤها بقوة، يطالعنا مين - كو المعاصر لنا، يتحدث إلينا قائلاً إنه اكتشف في نهاية المطاف أنه عاجز تماماً عن إحداث أي تغيير في مجرى التاريخ وفي إرادات الأقوياء. ولقد كتب فريش هذه المسرحية عام 1946 يوم كان واقعاً بعد، تحت تأثير صديقه وأستاذه الكبير برتولد بريخت، وهو بالتالي اتبع أسلوب هذا الأخير «الملحمي» الذي يقطع سياق المسرحية إلى اسكتشات ومقاطع متتالية، راغباً لها في أن تكون نوعاً من التساؤل المتعلق بالدور الذي يمكن بعد للمثقف أن يلعبه في الأزمنة الحديثة. ومن هنا حضور المثقف الذي لا يني يعلق على الأحداث ويضافر بينها كما بين الأزمان ليعلن في النهاية، هزيمة الفكر أمام الأهوال. «تريدون أن تعرفوا، في نهاية الأمر، ما أسلوبي في الكتابة المسرحية؟ حسناً، إنه بريخت ناقص الشيوعية». على هذا النحو كان فريش، على أية حال، يعرف توجهه في الكتابة، هو الذي ينظر إليه كثيرون، بعد كل شيء، على أنه الوريث الحقيقي الوحيد لبرتولد بريخت في الكتابة المسرحية. والحال أن فريش منذ تعرف على صاحب «دائرة الطباشير القوقازية» لم يكف لحظة عن الإعجاب به وبكتابته المسرحية، وإن كان أخذ عليه دائماً «حماسته الثورية» و«نظرته الطفولية إلى دور المثقف في المجتمع» هما عنصرا هذه المسرحية الأساسيان. إذاً فما الذي كان يجمعه ببريخت؟ بكل بساطة، نقده الحاد للشروط الاجتماعية القائمة، إنما من دون أن يؤمن بإمكان حدوث أو نجاح أية ثورة. في مقابل تفاؤلية بريخت، إذاً، لدينا تشاؤمية ماكس فريش. والحال أن ماكس فريش، حين رحل عن عالمنا عام 1991، وهو في الـ80 من عمره، كان في وسعه أن يلاحظ كيف أنه كان على حق بصدد نظرته إلى مستقبل العمل الثوري، بينما كان أستاذه الكبير على خطأ. وماكس فريش الذي رافق القرن الـ20 طولاً وعرضاً، كان إلى جانب فردريك دورنمات، واحداً من كاتبين عرفا كيف يعيدان لسويسرا اعتبارها كأمة يمكنها أن تنتج مبدعين، وذلك بالتناقض مع ما كان يقوله عنها غراهام غرين من أن 300 سنة من الديموقراطية لم تنتج فيها سوى «ساعة الكوكو»! ومهما يكن فإن ماكس فريش ولد ابناً لمهندس من أصل نمسوي ولأم سويسرية رسامة، وكان في الـ16 من عمره حين حاول كتابة المسرحية للمرة الأولى، فكتب مسرحية «فولاذ» التي بعث بها إلى ماكس رينهاردت فرفضها، لكن ذلك لم يردع كاتبنا الشاب، إذ سرعان ما عكف على قراءة إبسن ثم كتب مسرحية فكاهية عن الزواج. وفي الوقت نفسه تابع دراسته الجامعية، فنال أولاً شهادة التخرج في الأدب الألماني، لكنه انصرف بعد ذلك إلى الصحافة، وبدأ يكتب القصص القصيرة التي عاد وجمعها تحت اسم «أحب ما يحرقني» (1943)، ثم تحت اسم «جواب نابع من الصمت». لكنه بعد ذلك عاد ليدرس الهندسة المعمارية التي جعل منها مهنته حتى عام 1955. وبالنسبة إلى المسرح ظل ما يكتبه ماكس فريش بدائياً وتجريبياً، ويشكل نشاطاً ثانوياً بالنسبة إليه، حتى كان لقاؤه ببرتولد بريخت فنمت صداقة بين الرجلين، أنتجت لدى فريش رغبة في الكتابة للمسرح، ولكن للإذاعة أيضاً. وهكذا راحت تتتالى مسرحياته التي ترجمت وراحت تقدم على خشبات عدد من البلدان، مما ساعد فريش في تحقيق هوايته بالسفر والتجوال الدائمين، وهو كتب أكثر من 12 تمثيلية للمسرح والإذاعة، بالتواكب مع كتابته المقالات واليوميات والروايات والقصص.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على خطى المعلم

أول مسرحية كبيرة كتبها فريش إذاً، كانت «سور الصين» التي سار فيها شكلياً، على خطى مسرح بريخت الملحمي، مقدماً شخصيات تاريخية تستخدم الأقنعة والأقوال المأثورة للتعليق على أحداث العالم التاريخية، وفي المقابل وضع فريش شخصية المثقف المعاصر، الذي يعلق على ما تقوله الشخصيات ذات الأقنعة، ويحاول - عبثاً - أن يبدل مجرى التاريخ. هذه العبثية المرتبطة بالدور البلاجدوى الذي يلعبه المثقف كانت على أية حال الهاجس الرئيس الذي طبع مواضيع كتابة فريش، إذا استثنينا مسرحيته الواقعية «فيما انتهت الحرب» (1948) التي تدور أحداثها في برلين إثر انفضاض الحرب العالمية الثانية. أما الأشهر بين أعمال فريش فكانت مسرحيات «بيدرمان» (1958) و«باندورا» (1961)، وبخاصة «دون جوان أو عاشق الهندسة» (1953) التي يقدم لنا فيها دون جوان كعالم رياضيات لا وقت لديه يضيعه مع النساء، لذلك يحاول أن يهرب من الدور التاريخي المناط به، لكن النساء يطاردنه مع ذلك، فيجد في نهاية الأمر أن الزواج هو الطريقة الأفضل التي تمكنه من الهرب. أما آخر مسرحية كتبها فريش فكانت «سيرة» (1968) التي وصل فيها إلى ذروة تعبيره عن عجز الإنسان عن تغيير مسار حياته، بعد أن كان وصف في مسرحيات سابقة عجز ذلك الإنسان، ولا سيما المثقف، عن تبديل مجرى التاريخ. وعندما رحل ماكس فريش عن عالمنا، كان يعتبر واحداً من كبار كتاب المسرح الأحياء، على رغم قلة إنتاجه، وكان كثيرون يتنبأون بأن تكون جائزة نوبل الأدبية من نصيبه ذات عام.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة