تعد قصائد الحب والحرب من أكثر القصائد انتشاراً في الشعر العربي على مدار عصوره المختلفة، من دون أن يمنع ذلك هيمنة قصيدة المدح. لكن اجتماع الحب والحرب يعد إحدى الثنائيات الدرامية بامتياز، حيث يحتفي طرفها الأول بالحياة، بينما يستحضر الطرف الثاني صور الموت والدمار. من هنا يأخذ ديوان "ألوان السيدة المتغيرة" (سلسلة إبداعات عربية - الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة) للشاعر العراقي فاضل السلطاني أهميته الشعرية؛ بخاصة أن المرأة تأخذ عنده بعداً رمزياً يتجاوز دورها الفردي ويتماهى مع القصيدة. وتصبح هذه المرأة؛ بلغة العِرفانيين، السالك والطريق معاً. واللافت أن الشاعر يعنون القصيدة التى تعبر عن هذه الدلالات بـ "عابرة في شارع دمشقي"، حيث توحي صيغة التنكير في "عابرة" و"شارع" بالعمومية وافتقاد الخصوصية. وهو ما يصنع مفارقة بين هذا العنوان ومتن القصيدة الذي يقدم امرأة ذات قدرات غير اعتيادية. يقول: "أظنني رأيتُك في الجامع الأموي/ كنتِ تخطين شيئاً فوق الجدران/ لم يقرأه أحد ولا حتى أنا/ ورأيتُك تصعدين حتى المئذنة الكبرى/ ثم قلتِ شيئاً لم يسمعه أحد ولا حتى أنا/ ثم رأيتُك تهبطين فرعاء/ فوق كتفيك القصائد/ وفي يديك صورة لوجهي". والمكان فى الشعر، كما في السرد، ليس مجرد خلفية محايدة، فهناك قصدية في اختيار الأماكن الدالة على هوية محددة يحاول الشاعر استعادتها بدءاً من "دمشق" عاصمة الخلافة الأموية في زمن المجد العربي، ومروراً بالجامع الأموي بمئذنته الكبرى، و"الحمراء"، وهو شارع رئيسي في دمشق يقود إلى شارع "شيخ محيي الدين"، حين يقول: " كنتُ أتبعك من الحمراء حتى المنعطف الواصل لابن عربي/ لأسرق شيئاً من الثوب/ لأحمل فوق كتفي/ شهوة الحب لا الحب".
بين الأزرق والأبيض
من هذه السطور تأخذ هذه المرأة بعدها الرمزي ودخولها في فضاء المتصوف الكبير. وهكذا يصبح المكان دائرياً؛ يعود إلى البدء ويتماهى مع الذات. يقول الشاعر مصوراً هذه الحالة: "وأنتِ تحثين الخطى/ مِن ذلك الزقاق الدمشقي/ إلى الطريق التي لن تعود سوى إليكِ".
وفي قصيدة "ألوان السيدة المتغيرة"، تتحد المرأة مع الطبيعة وتأخذ ألوانها حين نقرأ: "زرقاءَ كنتِ تحت ذراعي/ وكان الثلجُ الأزرق يمطر/ زرقاءَ أنتِ كأن السماء قبعتك/ وكان الليل الأزرق يمطر". واللون الأزرق دال على الصفاء والسمو والرحابة فهو لون السماء والبحر؛ لهذا يخلعه الشاعر على كل ما حوله: "الثلج الأبيض" و"الليل المظلم"، كأننا أمام ساحرة تضفي زُرقتها على كل شىء ومع الفجر يبدأ ظهور اللون الأبيض الذي يجاور الأزرق في البداية حتى ينفرد بالمشهد. يقول الشاعر: "العشب الناهض يرقب أن ندخله/ والفجر الأبيض ينتظر أن نبلغه/ نحن في المنتصف الآن/ وأنتِ تكبرين تحت ذراعي/ مع الليل والعشب". إن فكرة "المنتصف" توحي بالانتقال إلى حالة مغايرة أشبه بالحالة الحرجة التي يريد فيها الشاعر أن يرى عيني هذه المرأة "بين الأزرق والأبيض"، لكنه بدلاً من هذه الأمنية يرى دمعتين في عينيه فيتذكر – كأنه يستدعي شبيهه – "شاعراً وحيداً أحبَّ فقتلته الموسيقى". ويتحول الثلج الأزرق إلى حالته الأولى ويصبح "الأبيض" هو المهيمن: "راحتاي بيضاوان والشارع أبيض/ كيف سفحت كل هذا البياض في لحظتين". والأبيض لون مزدوج الدلالة، فهو لون الفرح كما أنه لون الحزن عند بعض الشعوب وهو لون فقدان البصر حين تبيض العينان من الحزن وهو لون الزفاف ولون الكفن. وتعبير الشاعر دقيق حين يجعل سفح البياض شبيهاً بسفح الدم.
تفكيك الأساطير
وفي قصيدة "سيدتي الجميلة"، تتعدد وجوه هذه المرأة وتجمع بين المتناقضات فهى مفرقة بين الملائكة والشياطين: "فرقتك بين الملائكة والشياطين/ ثم جمعتك ثم هبطت بك مطواعة بين يدي...". وتيمة الهبوط تستدعي أسطورة أورفيوس الذي هبط إلى العالم السفلي لاستعادة حبيبته واشترطت الآلهة الإغريقية ألا ينظر إليها طوال الرحلة حتى يصل إلى عالم الأحياء لكنه لم يستطع الالتزام بهذا فيفقدها للمرة الثانية. لكن الشاعر هنا يقوم برحلة عكسية، فهو الذي يهبط بها كأنه يريد أن يخلصها من عالم المدينة الحديثة – مدينة لندن – "حيث كان شارلي شابلن يرفع قدميه الساخرتين فوق رؤوس العابرين/ حيث كان هنري الثامن يحتفل بزوجاته الميتات/ حيث كان مونتجمري ينزع عن كتفيه النجوم بعدما شبع من الضجر".
وفي قصيدة "عشتار في متحف برلين"، يستدعى عشتار وكلكامش وأوزوريس، ولنلاحظ المفارقة بين كون عشتار إلهة البعث العراقية وكونها أصبحت مجرد تمثال في متحف برلين. والأمر نفسه مع كلكامش الذي كان يمر "وهو يحمل فوق كتفيه تمثاله الزجاجي/ عدته الوحيدة من الخلود". لقد أصبح الخلود الذي غوى به الشيطان آدم والذي كان سر عذاب كلكامش مجرد "تمثال زجاجي" يشاهده الزائرون. إن الشاعر يقوم بتفكيك الأساطير وإعادة تركيبها بما يناقض دلالاتها الأولى.
أما تيمة الحرب فتتجلى في العديد من الصور. يقول – مثلاً – "يعود الجنود من الحرب ويعودون إلى الحرب/ يكبرون في الموت"، حيث توحي هذه السطور باعتيادية الحرب. فالجنود يعودون منها لكي يعودوا إليها كأنها الحياة التي يعيشونها ويكبرون فيها. ولا تحضر الحرب بلفظها فقط بل بما يصاحبها من ظواهر كالاغتراب وانقسام الذات والمعرفة الظنية. يقول في قصيدة "وحشة": "وتزيح الستائر ثم تغلقها/ مايزال الغبار على النافذة/ مايزال الرصيف البعيد بعيداً/ وهم يعبرون/ غير أنك ترقب/ قد يخطئون الطريق إلى الموت/ ينعطفون يساراً إلى البيت". إننا أمام امرأة – برمزيتها العامة – تعاني الوحدة والوحشة ولا تفعل شيئاً سوى إزاحة الستائر وإغلاقها على سبيل الملل؛ أو لرؤية ما تنفتح عليه النافذة، فلا تجد سوى جماعات سائرة إلى الموت لكنها تتمنى لو يخطئون الطريق إليه وينعطفون إلى البيت. غير أن القصيدة تنتهى بما يشبه اليأس فلا يزال الغبار على النافذة بينما ظل هؤلاء البعيدون يعبرون "سرباً من النمل/ يولد ثم ينفق ثم يبعث/ فوق الرصيف".
التشخيص وعدم اليقين
يجيد الشاعر توظيف هذه الدوال الجزئية كالنافذة والغبار والرصيف وهو ما فعله أيضاً مع دال الجدار الذي يصفه بأنه "جدار غريب"، فهو يخلد للنوم – لاحظ ظاهرة التشخيص – "ثم يقوم صباحاً/ مع الشمس أطول من أمس"، حتى يصبح بطول الخليقة كلها، فهل هو رمز لسجن الحياة؟ ربما، بخاصة أن الشاعر يحلم بتحويله إلى قارب حين يقول: "كيف ستفتح أبوابه وتكسر أحجاره/ وتجمع أخشابه/ ثم تصنع منه/ قارباً". كل هذه الآمال البعيدة تجعل المعرفة ظنية وقد تجلى ذلك فى شيوع الأسلوب الاستفهامي. وفي قصيدة "يد" يجمع الشاعر بين الاستفهام وتكرار "لعل" الدال أيضاً على عدم اليقين.
وتستدعي موضوعة الحرب دال الدم الذي يتكرر بدرجة لافتة في قصيدة "بابل بابليون"، ورغم ذلك تظل ثقة الشاعر بالمستقبل واضحة. ففي قصيدة "العودة" تتوالى الجمل الخبرية القاطعة وفي قصيدة "ولادة" يصبح الطفل المنتظر رمزاً لهذا المستقبل الواعد حين نقرأ: "افتحى جسمك الآن هل تسمعين؟ / إنه الزائر المستحيل/ طفلك المنتظر/ ينضج الآن بين يديك".
يبقى أن أشير إلى آلية التناص الشعري المقصود مثل استعارته – في "بابل بابيلون" – قول لوركا: "أحبك حتى لتوجعني القبعة"، واستعارته – بتصرف – لقول إليوت: "النساء يرحن يجئن يذكرن مايكل انجلو"، حين يقول: "النساء يرحن يجئن وهن يتحدثن عنك"، وقول إليوت "اجر يا تيمز بهدوء"، فيجعلها " لا تجر يا تيمز لا تجر يا فرات".