تبدأ رواية "أبو دياب يتكلم في الأفراح" (دار نون) للكاتب السوري خطيب بدلة بنصيحة مروّسة بـ "مهم... مهم جداً"، تخاطب القراء بالقول: "من كان مهذباً وخجولاً فليمتنع عن قراءة هذه الرواية". ويخص الكاتب من يحبهم ويتمنى الخير لهم بالنصيحة نفسها. ويلي النصيحة توضيح يتعلق بلغة الرواية الحائرة بين لغة الأدب ولغة الأزقة. ويلي التوضيح تحديد فضاء الرواية في محافظة إدلب التي تجري فيها، كما في كل ما تحتله تركيا من سوريا، محاولة التتريك. أما التوضيح الأخير فيتعلق بأسماء الأمكنة والشخصيات، فمنها ما هو حقيقي، ومنها ما هو منحوت، ولكن له معادل حقيقي.
تؤشر هذه العتبات إلى ما لعله الأهم في الرواية، دون أن تستوفيه. ولتكن البداية مثلاً بلغة الحوار والمونولوغات، حيث تفردت العامية، واضطر الكاتب أحياناً إلى شرح مفردات. وقد كان نصيب الحوار والمونولوغات من الرواية، بالتالي نصيب العامية، راجحاً، بل إن الفصحى هي لغة السارد فقط. وإذا كان ذلك قد وفّر للرواية درجةً أو أكبر من امتياز التهجين اللغوي، والرطانات والتنبيرات – بالإذن من باختين – فلعل ما هو أهم من ذلك، قد كان في العبارات الاستعارية.
تبدو هذه الرواية أشبه بموسوعة شعبية من الحكايات والبذاءات والعادات والأمثال. ولكن هذا الإنجاز الهام لا يلغي السؤال عما خسرت الرواية بكل هذا الإيثار للعامية. ولعل من الأهم أيضاً في الرواية شخصياتها التي جرى تقديمها غالباً بالطريقة الكلاسيكية، لكنّ أهمها وأغلبها كانت له حياته الروائية الخصيبة، ابتداءً بالمعلمة المتقاعدة (الست فدوى) التي يعيش معها بكرها الفنان نذير الذي لقبته بأبو دياب، فصار عندما يكلمها بالموبايل يقول ما عَنْوَن الرواية: "مرحبا ست أم نذير، أبو دياب يتكلم في الأفراح".
سخرية مريرة
بين إبراهيم البربريسي الذي تربطه علاقة حميمة بالست فدوى، وابنها عمار المتعامل مع الأمن، وابنتها يارا وزوجها الذي يعمل في الأمن، وسواهم من الشخصيات، يتواتر ما عاشته إدلب حتى شباط سنة 2012، موسوماً بالسخرية المريرة، ومثقلاً أحياناً بالنزوع إلى التأرخة وإلى الخطابة أو الاستطراد، كما في حديث أبو دياب لرفاقه عن أصحاب المناصب. أو في حديثه للسائق مازن عن الصراع الذي عاشته سوريا عام 1980، أو في شرحه في السجن لمن عُذِّبوا ولمن لم يُعَّذبوا ذات ليلة، في خطاب طويل يفتقر إلى الحيل السردية، يتدفق في أربع صفحات دفعة واحدة، فنقرأ مثلاً قوله: "لسّه فيه شغلة حاببْ اشرح لكم إياها" فيأتي التشجيع: "اشرحْ خيّو".
يستذكر المرء هنا علّة روايات السجون في شخصية السجين المعلم الذي كان دوماً عاملاً عند حنا مينه، ومثقفاً غالباً عند غيره. وها هو السارد في رواية "أبو دياب يتكلم في الأفراح" يقول: "اكتشف المعتقلون في سجن إدلب المركزي أن التحليلات والشروحات التي يقدمها زميلهم أبو دياب تكون صائبة في أغلب الأحيان". غير أن هذا العَوَر في بناء الشخصية المحورية أبو دياب، يتبدد أمام ما أبدع خطيب بدلة في هذا البناء. فأبو دياب كان همه الأكبر أن يوفر الوقت للنحت، فيشكل إزميله من الحجارة تماثيل صغيرة غريبة جداً. أما النساء اللواتي تجسدهن التماثيل فلا نظير لجمالهن. والفنان أبو دياب، هو شهرزاد الرواية التي تتناسل حكاياتها منادية بناء "ألف ليلة وليلة". وهذه الحكايات تروي حيوات الشخصيات، والأحداث التي عصفت بإدلب منذ 2011، مثل قصة حياة أبو إسماعيل منذ فراره من أبيه إلى دراسته في جامعة حلب وانتسابه إلى حزب البعث، إلى سخريته من "علي كتّاب العرب" أي علي عقلة عرسان الذي ترأس اتحاد الكتاب في سوريا ما بين (1977- 2005)، ولا يني خطيب بدلة يسلقه بالسخرية والتعرية الموجعتين. وإذا كان أبو إسماعيل لم يقف مع الثورة، فهو لم يكن معادياً لها. ومن الطريف أن أبو حمود يحذر أبو إسماعيل من تأجيل شرب العرق، لأن الدقانة – أي أصحاب الذقون/ اللحى – إذا ما انتصروا "راحْ يحلقولك على الزيرو"، ولذا أخذ أبو إسماعيل يتزلف للدقانة ولذوي الشوارب المحفوفة.
في واحدة من السهرات الألف ليلية يخاطب أبو دياب من حوله:"أحكي لكن حكاية أبو عبد الجبار لما أخذوه إلى فرع الأمن العسكري بإدلب سنة 1980. وفي السجن يُطيش أبو دياب النقيب من حكاية إلى حكاية. كما يتدفق بحكايات سجن تدمر الشهير عام 1981، فيصرخ سجين موجوع من التعذيب معلقاً على (حكواتيه) أبو دياب: "عليّ الطلاق بالتلاته هادا بيضلّ يحكي من هلق ليطلع الضوّ. معلاقه بقدّ معلاق الجمل". أما المجند عقبة حاجب المقدم أحمد مصامص فيصف أبو دياب بأنه "معلم بالعلاك" أي بالحكي، ويصف شهرزادية أبو دياب بقوله: "بيدخلْ بقصة، بتفكر إنه نسي الأولانية، ما بتشوف إلا كوّع ورجع لها".
طابع شهرزادي
عندما تتقلقل في السجن شهرزادية أبو دياب بالتفاصيل المملة والاستطراد المرهق، ينشب الشجار بينه وبين أبو عبد الهادي التم، ويحتج أبو عثمان: "سألتك سؤال، ضروري تحكي لنا سيرة حياتك؟"، فرد أبو دياب: "هاي طريقتي في الحكي". وهنا يصح المثل الذي يلتمع في الرواية: "القصة لما بتطوّل بتلمّ غبرا ووسخ". ولغير أبو دياب ملمح شهرزادي ما، هو واحد من سمات شخصية الست فدوى وعاشقها إبراهيم البربريسي، وسواهما من الشخصيات التي عاشت ما نال إدلب من الزلزلة السورية خلال عامي (2011 - 2012). ومن ذلك مداهمة دورية للأمن لبيت الست فدوى بينما كان عندها العاشق، بحثاً عن ابنها أبو دياب بتهمة ترؤسه لتنسيقية حارتي القصور والبيطرة. وتلي ذلك مكالمة هاتفية طويلة إلى درجة الإثقال على الرواية، بين أبو دياب وأخيه عمار.
وقد برئت رواية "أبو دياب يتكلم في الأفراح" مما اعتور روايات كثيرة عن الزلزال أو الثورة، وتمثل في غياب أو ضعف الرؤية النقدية من جهة، والغوص في الأعماق النفسية وما تكتنز من المعاني الإنسانية، وإبدال ذلك على أهميته باللفظية الثورية.
في اجتماع حول فكرة توسيع رقعة المظاهرات في إدلب، يعارض أبو ندور دعوة غيره إلى "صوت العقل"، ويهدر: "هاي اسمها ثورة، مو كزدورة، والثورة بدها جنون. واللي بدهم يشغلوا عقولهم يتفضلوا ويقعدوا في بيوتهم ويتركونا نشوف شغلنا". لكن إبراهيم البربريسي يرد: "نحنا ثورتنا سلمية" و"يا جماعة خلّوا ثورتنا على قدنا" ويعارض نزول المتظاهرين في أريحا إلى إدلب. أما أبو ندور، فيشبه ساخراً موقف من يخالفه بموقف تجمع النقابيين والمثقفين.
من هذه المقدمات تمضي الرواية إلى ما عجّل من أمر العسكرة والأسلمة. ففي جلسة لابراهيم البربريسي وأبو دياب وأبو إسماعيل، يؤنسها شرب العرق، يتحدث إبراهيم عمن داهم بيت أبو دياب في غيابه، وهم شباب من المحسوبين على الإخوان المسلمين. لكنهم بعد ما صارت مجموعاتهم قوية وكبيرة انسحبوا من الإخوان، إذ ما عاد فكر هؤلاء يشبع ميلهم إلى العنف والتعدي. وكان إبراهيم البربريسي إبان التسلّح، وهتاف الشباب في مظاهرة تشرين الثاني 2011 "الشعب يريد تسليح الثورة"، قد أدهشه أن المسلحين يسلكون سلوكاً يشبه سلوك "شبيحة النظام" والثورة لا تعني لأولاء شيئاً، وهم الذين كانوا قبلها يسكرون فصاروا متطرفين.
في بداية المظاهرات والمواجهات يرسل عبد اللطيف وزوجته فوزية أولادهما إلى أعمامهم في قرية البلاطة. لكن الأعمام أرسلوا ولداً إلى دورة شرعية، والعم الكبير مروان "بدّه يعمل جماعة خاصة مسلحة وينادونه الأمير". وحين يمضي عبد اللطيف خلف أبنائه، يرفض أخوه مروان السلام عليه، أما الأبناء فهم "ملك الأمة".
يرسم إبراهيم البربريسي المآلات الموئسية لكل ذلك بينما يدبر أمر ترحيل الست فدوى إلى الحدود التركية، فيقول: "إذا رجع النظام بناكلها، وإذا ما رجع ما راح نسلم من السلفيين". وفي ختام الرواية، أثناء الاحتفال بعودة فوزية من خاطفيها، يخبر أبو دياب المحتفلين: "مات الأستاذ خطيب بدلة مؤلف الرواية... أبشروا... صار بإمكان كل واحد منكم يتصرف في حياته على كيفه". فهل يعني ذلك أن أبو دياب، وقبله وبعده: خطيب بدلة، مدركان أن شخصيات الرواية لم تكن حرة، وأن الكاتب قيدها؟ فإن صح ذلك فما جدوى تحررها منه بعد فوات الأوان؟
لكن ذلك ليس صحيحاً إلا بمقدار ما جرت الإشارة فيما تقدم إلى مواطنه وأشكاله، ليبقى لهذه الرواية زهوها في ما تحقق لها من السعي إلى أن تكون، كما يليق بالفن الروائي، لسان العوام الذي لا يتحدد فقط بأن تكون الشخصيات من العامة – وأغلب شخصيات رواية خطيب بدلة هم كذلك – ولا بأن تغلب العامية على اللغة الروائية، وقد كان لهذه الغلبة التي بلغت أحياناً أن تكتب الرواية بالعامية فقط، تحدياتها وإشكالياتها. وتذهب الإشارة هنا إلى الروايات التي كتبت بالعامية مثل "مذكرات طالب بعثة" للويس عوض أو "من حلاوة الروح" لصفاء عبد المنعم أو "المولودة" لفاديا كامل. وبدرجة أدنى كانت مسألة إدارة الحوار بالعامية وحدها، كما في روايات إحسان عبد القدوس.