كانت ذات حقبة مرشحة بشكل جدي لتكون أكثر منافسات أغاثا كريستي قوة. ولم يكن ينقصها شيء لتتسلم الخلافة. لكنها لم تتمكن من ذلك لسبب بسيط وهو أن أغاثا لا يمكن لأحد خلافتها. هي مثل أم كلثوم في الغناء العربي ليس لها خليفة. واليوم ها هي دوروثي صايرز تبدو منسية، وهي التي لم تنس في سنواتها الأخيرة أن تقول إنها على أي حال تعتبر ترجمتها للكوميديا الإلهية لدانتي أعظم ما حققته في حياتها. لكن السيئ هنا أنها لم تتمكن حتى من إنجاز هذا العمل فهي رحلت قبل أن تنجز الجزء الثالث "الجحيم". ومن هنا ما يقال إن الكاتبة التي أودت بالكثير من شخصيات رواياتها ومسرحياتها إلى الجحيم، قضى عليها جحيمها الخاص.
طبعاً لن نتوقف هنا عند أسباب ذلك الإخفاق، لكننا سنؤكد أن دوروثي صايرز كانت كاتبة كبيرة. وحسبنا أن نقرأ اليوم واحدة من قصصها الباقية في الذاكرة، "شهر عسل سائق الباص" حتى نتيقن من ذلك. وهذه القصة عُرفت على أي حال كقصة ومسرحية، ثم فيلم سينمائي، فتمثيلية إذاعية. وبالتالي تبقى الأشهر بين كتابات صايرز، رغم مضي أكثر من ثلاثة أرباع القرن على ظهورها. ولعل الفضل في بقائها متداوَلة حتى اليوم يكمن في الفكرة الطريفة التي انطلقت منها الكاتبة، فكرة أن تزوج بطل اللورد بيتر ويمزي، تحريّها الخاص وبطل 11 رواية سابقة من رواياتها، من هارييت فين التي كانت أسندت إليها بطولة أربع روايات سابقة. كانت كمن يزوج هركيول بوارو من مسز ماربل (تحري أغاثا كريستي). ولئن كانت حبكة القصة تدور حول انطلاق العروسين في رحلة شهر عسلهما، فإن واجبهما كتحريّين، أو بالأحرى واجبه هو كتحري وواجب العروس ككاتبة تضع أنفها في كل شيء، قطعاً "شهر العسل"، ومن هنا عنوان القصة التي يشير إلى استحالة أن يتمتع سائق الباص بأي شهر عسل.
الفرحة التي لم تتم
تنطلق القصة إذاً من حفل عرس البطلين اللذين يهربان من زحام المدعوين ليقيما في ذلك البيت الريفي الذي اشتراه ويمزي لعروسه، في قرية اسمها "تالبويز" في مسقط رأسها هيرتفوردشير، هدية زواج لها. لكنهما إذ يصلان إلى المنزل الريفي ليلاً يفاجآن بالبيت مغلقاً، ولا يبدو معدّاً لاستقبالهما. مع ذلك يتمكنان من الدخول ويمضيان ليلة عسلهما الأولى بكل هدوء كأسعد عروسين في الكون. وكان يمكن لذلك أن يستمرّ أياماً، لولا أنهما يكتشفان في اليوم التالي جثة صاحب البيت السابق مرمية في العلية مع جروح قاتلة تملأ رأسه. وهكذا يشمّر البطلان عن ساعديهما ويجنّد هو كل استنباطاته وملاحظاته، بينما تمسك هي بأقلامها وأوراقها ويبدآن التنقيب للوصول إلى القاتل.
بالطبع، لن نواصل الحكاية هنا، فربما سيشاء أحد من قرائنا البحث عن القصة للاستمتاع بقراءتها بنفسه، أو العثور على الفيلم المقتبس عنها أو ما شابه ذلك. فقط سوف نتوقف هنا عند البعد الاجتماعي للحياة الإنجليزية الذي يبدو من الواضح، وليس في هذه القصة فقط، أن دوروثي صايرز كانت متفوقة في رسمه على غريمتها، التي نادراً ما كان الجانب الطبقي أو الاجتماعي يثير اهتمامها.
دوروثي صايرز كانت غير ذلك، هي التي كانت تفتقر إلى حسّ المرح الذي ميّز دائماً رسم أغاثا لشخصياتها، حتى ولو كان اللورد ويمزي لا يخلو من ظرف، لكنه ظرف يبدو واضحاً دخيلاً على شخصيته الثقيلة. وإذا كانت صايرز أرادت أن تعادل به التحري البلجيكي الذي عهدت إليه أغاثا كريستي بتحقيقاتها فإنها أخفقت في ذلك. لكنها عرفت في المقابل كيف تصوّر الأجواء الاجتماعية ولا سيما لدى الطبقات المتوسطة البريطانية. وما "شهر عسل سائق الباص" سوى البرهان على ذلك. فهذه القصة إن كانت تُقرأ لما فيها من تشويق ومرح "ثقيل" فإنها تُقرأ أكثر من ذلك لنظرتها الناقدة بقوة إلى أخلاقيات إنجليزية معينة منظور إليها من علياء قلم مثقف نخبوي. فهل يكمن هنا سر عجز دوروثي صايرز عن منافسة أغاثا كريستي جدياً؟
في الأحوال كافة، من الواضح أنه كان لبعض الشخصيات الفنية والأدبية الكبيرة في القرن العشرين، الحضور الذي ألقى بظله الكثيف على شخصيات أخرى لم تقل عنها أهمية، من الناحية الإبداعية، لكنها لم تعرف أبداً كيف تحول قيمتها الإبداعية إلى حضور كثيف. ينطبق هذا على بيكاسو كما ينطبق على تشارلي شابلن وعلى عشرات غيرهما.
أما في مجال الرواية البوليسية الإنجليزية، وهي الأشهر بين الروايات البوليسية في العالم، فإنه ينطبق خاصة على أغاثا كريستي، «سيدة الجريمة» التي كان حضورها من الطغيان بحيث لم يلتفت كثيرون إلى واقع أن فن الرواية البوليسية هو فن إنجليزي لم تختص به أغاثا كريستي متفردة، بل شاركها الكثيرون.
ولئن كانت الحياة الأدبية قد انتظرت رحيل هذه الكاتبة لكي تطلق عشرات الكاتبات، النساء خاصة، فإن دوروثي صايرز، رحلت عام 1957 دون أن يتنبه إليها كثيرون لأن الزمن كان- بالتحديد- زمن أغاثا كريستي.
ثقافة نخبوية
مهما يكن، لعل المشكلة الأولى مع صايرز تكمن في كونها وزعت موهبتها وأيامها بين نوعين أتقنتهما من أنواع الكتابة الروائية والأدبية: الرواية البوليسية، والشعر الكلاسيكي، بل إنها كانت أيضاً رئيسة لتحرير مجلة «الشعر» التي كانت تصدرها جامعة أوكسفورد. وهي حين كانت في أوج ازدهارها ككاتبة بوليسية لم تتردد دون إصدار رواية فاوستية كاثوليكية بعنوان «الشيطان الذي يوقع...". ناهيك عن أن إنجازها الأكبر خلال حياتها كان اشتغالها على ترجمة «الكوميديا الإلهية» لدانتي إلى اللغة الإنجليزية.
غير أن هذا كله لم يمنع دوروثي صايرز من تكريس معظم سنوات حياتها للروايات البوليسية وهي الحائزة أصلاً على دبلوم دراسات أدب القرون الوسطى. ولدت دوروثي عام 1893 في بريطانيا. أما عملها البوليسي فقد ولد في 1923 حين ابتكرت بطلها التحري الخاص اللورد بيتر ويمزي، عبر رواية «لورد بيتر والمجهول». ومنذ تلك الرواية شاءت دوروثي أن تجعل من بطلها «شرلوك هولمز أحياء الأغنياء» في لندن. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يكون لورد بيتر من عشاق أدب دانتي والموسيقى (باخ وسكارلاتي اللذين يعزفهما جيداً على البيانو وهو يفكر في حل الألغاز البوليسية التي تنطرح عليه).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مذاق العيش المخمليّ
معظم روايات دوروثي صايرز البوليسية تدور في لندن الصمت والليل والضباب، وتتحلى بمذاق العيش المخملي ناهيك عن أن شخصياتها الأساسية شخصيات مثقفة تستشهد بأشعار القرون الوسطى، ولا تكف عن ذكر أفلاطون ووليام بليك، وكأن السيدة، التي كانت واحدة من أولى النساء اللواتي تخرجن في جامعة أوكسفورد، شاءت أن تثبت دائماً أنها سيدة ثقافة رفيعة حتى ولو كتبت روايات بوليسية ستباع بأثمان زهيدة.
طوال أكثر من خمس عشرة سنة، أصدرت دوروثي صايرز نحو ثلاثين رواية بوليسية، وحُوّلت بعض رواياتها إلى أفلام سينمائية حققت شهرة لا بأس بها، خاصة وأن هذه الكاتبة المثقفة كانت تتوقف طويلاً عند التحولات السيكولوجية لشخصياتها، مما أضفى على عملها مسحة أنيقة وأدبية لا لبس فيها. وفي بعض رواياتها غاب لورد بيتر إذ كانت في بعض الأحيان تعلن سأمها منه ومن تصرفاته، ليحل محله تحرٍ آخر ويحمل اسم مونتاغ إيغ، لكنه لم يحقق من النجاح ذلك القدر الذي كان لورد بيتر قد حققه.
وخلال العقدين الأخيرين من حياتها، كفت دوروثي صايرز عن كتابة الروايات البوليسية لتنصرف إلى كتابة مسرحيات دينية انطبعت بطابع كاثوليكي واضح، وكان ذلك في الوقت الذي انكبت فيه على ترجمة «الكوميديا الإلهية» التي أصدرت منها خلال حياتها جزأين «الجحيم» و«المطهر» وكانت بصدد الانتهاء من ترجمة الجزء الثالث «الفردوس» حين رحلت عن عالمنا.