تكمن المشكلة الحقيقية في تردي الأوضاع التعليمية والثقافية والصحية، بل وتدني الخدمات وانكماش حجم السياحة الأجنبية، وكلها ترجع في مجملها إلى غياب التكامل العربي، فلو أننا وضعنا تصوراً قومياً شاملاً يقوم على رؤية علمية ومستقبلية لتغير حالنا كثيراً، والأمثلة عديدة نكررها دائماً، حتى أصبح الحديث عنها مثل، مواويل الحزن على الأطلال أو البكاء على اللبن المسكوب، ذلك أن الفرص الضائعة في حياة العرب خلال القرن الأخير على الأقل لا تبدو سياسية فقط، ولكنها تتجاوز ذلك إلى جوانب التحديث في مرافق الحياة والخدمات العامة، وفي مقدمتها الصحة والتعليم، فلو أن الوزراء العرب والعلماء من أقطارهم المختلفة احتشدوا في إحدى العواصم العربية لبحث أطر ثابتة تقوم على رؤية شاملة يتمخض عنها مشروع قومي للتأمين الصحي باتفاق طوعي بين الدول العربية، بحيث يمكن تخصيص الأموال العربية لإنشاء مستشفيات كبرى ومصحات شاملة موزعة على مدن العالم العربي في ظل نهضة طبية شاملة، خصوصاً وأن لدينا كوادر من الأطباء يعيش عليها غيرنا وتستعين بها الدول الغربية المتقدمة، وتستفيد بها مستشفيات أجنبية على امتداد العالم كله، وكثيراً ما التقيت شخصياً أطباء عرباً لامعين في دور العلاج الأجنبية، وكأنما هو "حرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس"، فلقد نزح من بلادنا عشرات الآلاف من أفضل الأطباء وأعلى الخبرات في المجال الصحي وأصبحوا نجوماً لامعة في أنحاء العالم، وقد ابتعد معظمهم عن أوطانهم الأم، باستثناء حالات متميزة مثل مجدي يعقوب جراح القلوب العالمي وأيقونة عصره في خدمة الفقراء المصريين والعرب والأفارقة بمشروعات واعية لو بكرنا بها عشرات السنين لتغير الحال والمآل، هل كان صعباً أن نقيم في القاهرة مجمعاً طبياً لعلاج الأمراض المستعصية وعلاج الأورام ومكافحة السرطانات؟! هل كان صعباً أن ينشأ مجمع طبي كبير في عمان الأردن لجراحة القلب المفتوح؟! هل كان صعباً أن نشيد في الخرطوم أكبر مستشفى في أفريقيا لعلاج الأمراض المتوطنة عن طب التخصص في المناطق الحارة؟ هل كان عصياً علينا أن نقيم في الجزائر أكبر مركز طبي عالمي لعلاج الكسور وأمراض العظام؟! وقس على ذلك ميزات نسبية لكل دولة عربية في هذا المجال، وأنا لا أنكر أن بعض دول الخليج قد تكفلت بإنشاء مستشفيات متقدمة، ولكنها تظل حبيسة الأعداد القليلة وفرص العلاج المحدودة التي تأتي بقرار كريم من ملك أو أمير، ولكنها ليست واسعة الانتشار لتصل إلى العشوائيات في مدن العرب وقراهم، لذلك فإنني أرى أن المشروعات القومية في مجال الصحة والتعليم بل والثقافة والسياحة كان يمكن أن تكون حائط صد أمام التراجع المشهود على ساحة عالمنا العربي، ولعلي أطرح هنا الملاحظات الآتية:
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أولاً: إن ما طرحناه في موضوع الصحة والعلاج ينسحب على التعليم والتدريب أيضاً، فقد كان ممكناً أن نوزع الجامعات ومراكز البحث العلمي في التخصصات المختلفة على خريطة الوطن العربي بامتدادها شرقاً وغرباً في ظل تنسيق يستخدم الميزة النسبية لكل قطر فيما يجب تدريسه، وفقاً للاستعداد العام داخل كل قطر لتخصص علمي محدد تستكمله المراكز النظيرة والجامعات المماثلة في الدول العربية المختلفة، ولكننا لم نفعل ذلك واستسهلنا إيفاد البعثات إلى الخارج، وكأننا لم نبرح عصر محمد علي باشا بعد، وما زلنا على نفس النمط من الابتعاث التقليدي الذي عرفناه منذ مطلع القرن التاسع عشر.
ثانياً: إن التكامل العربي الحقيقي يستند إلى فهم ووعي للإمكانات المتاحة مع رؤية بعيدة للمستقبل تضع في اعتبارها التغيرات العالمية والتحولات الكونية التي جعلت أموراً مثل تغير المناخ وندرة الطاقة وشح المياه وتلوث التربة مصادر للقلق الإنساني التي تستدعي التفكير القومي في كل اتجاه، لقد اكتفينا بتصدير علمائنا في هذه التخصصات دون أن نقيم مراكز بحثية متقدمة في هذه القضايا الحيوية المتعلقة بالإنسان ومستقبله، وكم من مرة سمعنا عن خبراء في هذه المجالات يخدمون دولاً أخرى ولا تراهم بلادهم إلا في مناسبات نادرة؟!
ثالثاً: ما زلت أتذكر أن القنصل العام لكوريا الجنوبية في القاهرة قد زارني في مؤسسة الرئاسة المصرية عام 1986- حيث كنت أعمل - وقدم عرضاً بإنشاء مركز حرفي مشترك على مساحة واسعة من الأرض الصحراوية يتم فيه تعليم أكثر من خمسين حرفة على أحدث المستويات بدءاً من التمريض والعلاج الطبيعي، وصولاً إلى أعمال الكهرباء والسباكة والبناء والتشييد، وكان طلبهم متواضعاً في ذلك الوقت في مقابل ذلك وهو رفع مستوى التمثيل بين مصر وكوريا الجنوبية إلى مستوى السفراء، ولكننا لم نأخذ الأمر بالجدية المطلوبة وضاعت فرصة كان يمكن أن تؤدي إلى استيعاب البطالة وامتصاص العمالة ورفع مستوى الكفاءة في مصر والدول العربية، وقس على ذلك عشرات الأمثلة والنماذج لمبادرات أخرى انتهت بإلقائها في سلة الفرص الضائعة.
رابعاً: لا يقف الأمر عند الأمثلة التي أشرنا إليها، بل إن مجالات أخرى يمكن اقتحامها، بل ويجب اقتحامها وفي مقدمتها الدراسات المستقبلية المتصلة بعلوم الروبوت والذكاء الاصطناعي، خصوصاً وأننا أمام مرحلة فاصلة من التحول الشامل في مراحل التكنولوجيا الحديثة وأوضاعها المختلفة، فنحن في فترة تحول مشهودة ينتقل فيها العالم إلى موجة جديدة من البحث العلمي والتقدم التقني، فهو عصر الرقمنة وتحويل العبارات إلى أرقام والأفكار إلى معادلات رياضية وهي أمور غير مسبوقة بهذا الحجم في تاريخنا الطويل، ولعلي أتساءل هنا ألم يكن من الأجدر بنا نحن الدول العربية المختلفة أن نتبنى التدريب الشامل على دور الوسيط الإلكتروني في وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات كما فعل الهنود وغيرهم من الشعوب الأكثر وعياً وجدية؟! وأنا أتذكر أنني استمعت مباشرة إلى الرئيس بيل كلينتون في زيارة للقاهرة بعد أن ترك موقعه وأصبح رئيساً أسبق للولايات المتحدة الأميركية عندما قال في محاضرته الشيقة أمام عدد من المفكرين والمتخصصين، إنه "لا يتحدث أميركيان عبر أدوات التواصل الاجتماعي إلا وبينهما وسيط هندي"، وقال يومها إن "الإحصاءات تشير إلى أن الهند تحقق ستة مليارات دولار سنوياً من تجارة التواصل الإلكتروني". وكان ذلك منذ ما يقرب من عشرين سنة، فأنا أظن أنهم يحققون الآن ما يربو على المئة مليار دولار في ذلك الميدان.
خامساً: إن الذين لا يدركون أن السباق مع الزمن وحشي بطبيعته شرس بظروفه، وأن المنافسة شديدة، وأن الحياة العصرية لا تسمح بالاعتماد المطلق على الآخرين، ولن نعيش أسرى التهديد الشهير لهنري كيسنجر داهية الدبلوماسية عندما قال مخاطباً العرب عام 1973 إن "الطعام لكم في مقابل النفط لنا"! وإذا كانت فرص قد ضاعت ومبادرات قد أفلتت إلا أنه لا يزال أمامنا قدر لا بأس به من المساحة المشتركة لفعل شيء جماعي عربي ينقلنا مما نحن فيه إلى عالم أفضل ورؤية أشمل والتحول إلى أمة فاعلة ذات مصداقية في كافة الاتجاهات.
كانت هذه هي الدوافع لكي نكتب عن المشاريع القومية الكبرى بدءاً من الصحة والعلاج والتعليم والتدريب وتعبيد الطرق وحفر الأنفاق، وصولاً إلى كافة نواحي الحياة العصرية بكل ما فيها من تحديات وأزمات ومشكلات، فهل آن الأوان لكي نستيقظ بعد طول سبات؟!