يقول تركي علي الربيعو، في كتابه "المحاكمة والإرهاب: عقلية التخوين في الخطاب العربي المعاصر" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2001)، الاختلاف مطلوب، هو إغناء للواقع نريده هكذا. أما القراءة التي تعود إلى الخلاف، وتؤول إلى أحضان العقلية التآمرية مستمدة وجودها من إرادة نفي تتحكم فيها فهي بدورها تدمير واقع وطموح. إنها أحادية وحدّية تقطع بسيفها كل أشكال التباين والاختلاف" (ص46-47). يتحدث الربيعو هنا عن جانب واحد من معضلة مستعصية في الخطاب العربي، سواء الثقافي منه أو السياسي، والمعاصر أو التقليدي، وهو ما يمكن أن نسميه معضلة "التكفير والتخوين"، العائق أمام تلاقح الأفكار أو تلاقحها تلاقحاً سليماً، من أجل الخروج من عنق زجاجة التخلف بكل أشكاله عبر الزمن. عندما تطرأ قضية جديدة على الساحة الفكرية أو السياسية يبدأ السجال العربي، ولا أقول الحوار، فالأخير يهدف في النهاية إلى الوصول إلى قناعة مشتركة تثري الفكرة المطروحة، وتسهم في إيجاد حلّ متفقٍ عليه بين الفرقاء، أما السجال فمجرد تقاذف بالتهم كلٌ ينفي الآخر وإزاحته وإقصاؤة، ليس أكثر. هذا النفي أو الإقصاء، يتخذ صوراً عديدة كلها على مرّ التاريخ العربي قديمه وحديثه، ينضوي تحت راية التكفير والتخوين السوداء، التي يزينها شعار القراصنة العتيد: عظمتان وجمجمة.
خطاب الإقصاء
في الماضي، كان خطاب "التكفير"، إن كان له أن يسمى خطاباً، هو الأشد فعالية والأقدر، على ممارسة النفي والإقصاء للآخر المختلف، بخاصة إذا علمنا، ونحن نعلم، أن الخطاب الثقافي والسياسي العربي أحادي المسار، بمعنى أن القابض على السلطة السياسية هو من يحدّد طبيعة الخطاب وبنيته وشكله وإشكالياته، ومن يخرج عنها هو خارجي أو كافر في النهاية، إذ حتى "الكفر" عبارة عن مفهوم سياسي وإن غلّف بورق براق من عقيدة ونحوها. الحاكم من يحدّد ويقرر ويوجه، ليس في أمور السياسة وحسب، بل حتى في أمور العقيدة وما تختلج به النفس. والأمثلة كثيرة في هذا المجال سواء بالنسبة إلى مُتبوِّئ كرسي السلطة والخطاب المهيمن، أو إلى أولئك الخارجين عليه وعلى نمط الخطاب المهيمن، الذين يستخدمون سلاح التكفير نفسه ومزج الديني بالسياسيّ لنفي السلطة القائمة بكل أشكالها السياسية والثقافية والاجتماعية.
بين الديني والسياسي
إن البذور الأولية للتداخل الوظيفي بين الديني والسياسي وبداية نشوء خطاب التكفير في الحياة العربية الإسلامية، نجدها، بُعيد وفاة رسول الله مباشرة، تحديداً في سقيفة بني ساعدة، حيث بدأ السجال حول من الأحقّ بالخلافة، وتطور مع أبي بكر الصديق في "حروب الردّة"، التي لم تكن ردة بالمعنى العقيدي بقدر ما كانت تمرداً سياسياً من بعض القبائل تجاه السلطة السياسية المركزية في المدينة بخاصة في ما يتعلق بمسألة الزكاة. مع الخليفة عثمان بن عفان، بدأ التكفير كسلاح سياسي ينضج أكثر بل لنقل امتزاج الديني بالسياسي حين رفض الخليفة التنازل عن الحكم وذلك بقوله: "والله لا أخلع قميصاً قمصنيه الله"، أو بصرخة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر: "أقتلوا نثعلاً فقد كفر"، ثم مطالبتها بعد قتله بأخذ القصاص له كذريعة لرفض خلافة علي بن أبي طالب. وفي معركة صفين (شهر صفر 37 هجرية) اكتمل هذا الخطاب "التكفير" بعد حكاية التحكيم، إذ انفصل جزء من جيش علي وهم القراء، وكفّروا علياً لقبوله التحكيم. من بعد ذلك أصبح "رفع المصاحف على أسنة الرماح"، ديدن السياسة العربية الإسلامية وأصبح التكفير سلاحاً دينياً يُشهر في وجه السلطان والخارجين على السلطان سواء بسواء على أنهم خالفوا الملّة. إن المسألة في البداية والنهاية مسألة سياسية بحتة، سواء كنا نتحدث عن أحداث مثل مطاردة "الزنادقة" أيام الخليفة المهدي، أو مقتل عبد الله بن المقفع أو الجعد بن درهم، أو محنة خلق القرآن، إذ أصبح امتزاج الدين بالسياسة، والتفكير بالتكفير، أحد "ثوابت" السياسة في هذه "الأمة".
مع دخول الأزمنة الحديثة" وخطابها لعالم العرب، والإيديولوجيات المعاصرة من قومية واشتراكية وغيرهما، ثم انتشارها ووصول بعضها إلى قمة السلطة بمختلف الوسائل وأهمها الانقلابات العسكرية، بدأ خطاب آخر في الدخول إلى الساحة كسلاح لنفي الآخر المحلي وإقصائه عن المشهدين السياسي والثقافي، نقصد بذلك خطاب "التخوين"، بخاصة بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948. لم يختفِ خطاب التكفير، إذ بقي ملازماً للخطابات الدينية التي حاول بعضها الدخول إلى المعاصرة بعمليات توفيق وتلفيق مع الإيديولوجيات الوافدة ومكتسبات العصر، لكن خطاب التخوين الجديد منحه زخماً جديداً كسلاح للإقصاء والنفي. ويمكن إيجاز خطاب التخوين بالقول إنه يعتمد على مقولة "إن لم تكن معي، فأنت ضدي"، وإن كنت ضدي فأنت "خائن"، فالخطاب السياسي والثقافي سواء التقليدي والحديث، هو نفي وإقصاء في نهاية المطاف، وخطاب التكفير التقليدي، يحتكر فهم الدين، الممتزج بكل ما هو غير ديني بالضرورة، فيُنفى بالإخراج من الملة، ويحتكر فهم الوطنية والقومية و"مصلحة الأمة" فتخوّن كل إيديولوجيا من لا يتفق مع منطلقاتها سواء كانت قابضة على تلابيب السلطة، أو كانت خارجها. أحياناً يندمج خطاب التكفير والتخوين في خطاب واحد، كما في حالة الإخوان المسلمين والتنظيمات المنبثقة من عباءتهم، فيصبحان وجهين للعملة ذاتها فلا يعود هنالك "خمر ولا قدح، ولا قدح ولا خمر"، على رأي خالد الذكر أبي نواس الذي يقول: "رقّ الزجاج وراقت الخمر، فتشابها وتشاكل الأمر. فكأنما خمر ولا قدح، وكأنما قدح ولا خمر".
الشعارات
أنظر إلى أيّ سجال سياسي أو ثقافي عربي، سواء بين "النخب" العامة وستجد أن تهم "العمالة"، "الإمبريالية"، "التصهين"، هي السائدة فيه، ولا أقول الحوار على حساب الموضوع ذاته، الذي لا يعود مهماً بقدر ما المهم أن الطرف الآخر المختلف، ليس مخطئاً فحسب، بل خائن لكك ما هو ثابت ومقدس وبالطبع من دون تحديد واضح لهما في تاريخ "أمة" لم تحدد معالمها أو تعريفها على أية حال، و"هوية" زئبقية يستمر السجال حولها. اليوم مثلاً، لن تجد تنظيماً أو سلطة أو إيديولوجيا عربية إلا وترفع شعار "الديمقراطية" التي من أبسط مبادئها حرية التعبير والتسامح وتقبّل الآخر ونسبية الحقيقة وضرورة تداول السلطة. هل تجد شيئاً من هذه التفاصيل في حياتنا السياسية والثقافية العربية؟ حتى لو بحثت بمنظار مكبر سواء على مستوى السلطة أو "المعارضة"، التي لا تعني في الحالة العربية، إلا رفضاً للسلطة أصابت أم أخطأت. وهي في النهاية عميلة بهذا الشكل أو ذاك ولن يغير من هذه "الحقيقة" المطلقة شيء وأبرز مثال في هذه اللحظة قضية التعامل مع إسرائيل. العلاقة مع إسرائيل اليوم، قضية سياسية بحتة، تحكمها الظروف والمصالح والمعطيات المستجدة، دولياً أم إقليمياً، ولكن البعض يضع المسألة برمتها ضمن التقسيم العربي المعتاد، حيث "فسطاط" الكفر أو الإيمان، أو معسكر "العمالة" و "الوطنية" أو "القومية"، وثوابتهما المفترضة. في هذه "الثوابت" المفترضة، ضاعت الديمقراطية ولم يبقَ إلا خطاب عربي متصل تكفيرياً وتخوينياً، تعدّدت الأسباب والموت واحد.
الخلاصة، أنه طالما بقي هذا الخطاب "التكفير والتخوين" قابعاً في أذهاننا، فسنبقى أسرى قمقم سليمان حيث المردة على الرغم من قوتها، مجرد دخان في زجاجة.