كان ممكناً وصف زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للسيدة فيروز ليل أمس ب"السرية" لو لم تخرج اليوم صور من قلب بيتها تكشف وقائع اللقاء الذي تخلله تقليدها وسام جوقة الشرف والعشاء الذي كان المدعوون إليه قلة، ومن بينهم السفير الفرنسي في بيروت. استقبلت فيروز الرئيس واضعة على وجهها كمامة بلاستيكية تقيها وباء كورونا. وظهورها هذا بعد احتجاب، كان بمثابة رد على كل الإشاعات المغرضة التي راجت حول وضعها الصحي، فإذا هي في كامل عافيتها وألقها على رغم تخطيها الثمانين. وبدءا من السادسة مساء أمس كانت تظاهرة كبيرة تتشكل أمام بيت فيروز، تضم جمعاً من أهل الثورة والناشطين المعترضين والمحتجين، عطفا على فريق من الإعلاميين والصحافيين والمصورين، ربضوا هناك من أجل تغطية الحدث ولو من خارج، بعدما تم الإعلان بأن اللقاء سيكون بعيداً عن الكاميرات التلفزيونية والصحافية. وعندما وصل الرئيس ماكرون ارتفعت الهتافات والأصوات المحتجة لا سيما على تكليف الرئيس مصطفى أديب، لكن ماكرون حياهم من وراء السور الأمني الذي أقامه عناصر الجيش والأمن. لكن الرئيس حين خروجه من بيت فيروز بعد اللقاء، شاء الاقتراب من المتظاهرين والإعلاميين الذين انتظروا نحو ساعتين في الخارج ليرفعوا أصواتهم مجدداً معترضين، ولو من بعيد، أجاب ماكرون لكن صوته لم يكن واضحاً نتيجة التدافع والصراخ والضجيج. كرم ماكرون المطربة الكبيرة فيروز ورحب اللبنانيون بهذا التكريم، فهم بحاجة، إلى بارقة أمل أياً تكن، كي يجددوا إيمانهم بوطنهم الذي بلغ دركاً من الانحطاط لم يبلغه يوماً حتى عندما قسّمته الحرب الأهلية وحكمته الأحزاب المتقاتلة. زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليلة أمس للمطربة فيروز في دارتها غداة وصوله إلى بيروت، وجد فيها اللبنانيون على اختلاف مواقعهم ما خلا جماعة "الصمود والتصدي"، بارقة أمل ولو أنهم سيكتشفون لاحقاً أن الأمل في مثل هذا الوطن ليس سوى ضرب من الوهم، ما دامت أزماتهم ستبقى بل ستزداد تفاقماً. لكن زيارة ماكرون للسيدة – الرمز تظل بارقة فرح في جو متشح باليأس والأسى، لا سيما بعد الكارثة الرهيبة التي ضربت بيروت. الرئيس الفرنسي هو من زار السيدة في عقر دارتها وقلدها أرقى وسام فرنسي، وسام جوقة الشرف الذي أنشأه نابليون بونابرت عام 1802، والذي نادراً ما تمنحه الدولة الفرنسية. وحل الرئيس ضيفاً على مائدة العشاء لدى فيروز، في جلسة بعيدة من كاميرات الإعلام والصحافة، ما خلا مصور الرئيس وكاميرات المكتب الإعلامي لفيروز، ابنة المطربة، التي تولت التصوير ومدّت اليوم الإعلام باللقطات والصور. أما الذريعة التي تحججت بها ريما الرحباني، المشرفة على شؤون والدتها كافة، لإبعاد الإعلام عن اللقاء، فهي مرض كورونا وتحاشي إدخال الوباء إلى المنزل، لا سيما أن الصحافيين والمصورين سيكونون كثراً إذا تمت دعوة الإعلام.
ماكرون يكسر عزلة فيروز
قد تكون هذه الحجة مقنعة جداً وشرعية لكنها ليست وحيدة، فالمطربة فيروز التي تعيش حالاً من العزلة الشديدة والتي لا تظهر في وسائل الإعلام ولا تستقبل سوى أصدقاء قلة، ما كانت لتوافق على أن يملأ الصحافيون والمصورون بيتها واكتفت بخطة ريما الإعلامية. وقد كسرت فيروز هذه العزلة مستقبلة الرئيس الفرنسي لساعتين جميلتين. ولعل عزلة فيروز وحفاظها على حياتها الحميمة وابتعادها عن الإعلام في زمن الضجيج والفوضى والابتذال الإعلامي، تعبر عن موقف شخصي ووجودي وثقافي، فالمطربة الكبيرة قررت أن لا تطل سوى عندما يكون لديها أغنية أو مشروع. فهي تكره الاستعراض والظهور المفتعل والنجومية التي فرغت من معناها. وقد أطلت قبل فترة في صلاة رفعتها من أجل إنقاذ العالم من مرض كورونا. ربما لم يكن ماكرون راضياً كثيراً عن هذا التدبير، فهو يهمه أن يظهر مع فيروز أمام الإعلام بصفته رئيساً مثقفاً يحب الفن وأن يقلد المطربة الوسام علانية وفي نقل مباشر، خصوصاً أنه يعتبر أن هذا الوسام يعلق على صدور اللبنانيين كافة والذين تمثلهم فيروز خير تمثيل.
كيف كانت هذه الزيارة التي استغرقت نحو ساعتين والتي استهل بها ماكرون برنامجه السياسي؟ الصور لم ترو إلا القليل والضروري بحسب خطة ريما. قلدها ماكرون الوسام وألقى كلمة مختصرة، مادحاً فيها المطربة الكبيرة التي وصفها برمز لبنان الواحد وبالأيقونة التي تمثل الوجه الحقيقي للبنان، لبنان الإبداع والجمال والحرية والسلام، لبنان التعدد الثقافي والحضاري والديني. أما فيروز التي لا تميل إلى الإفاضة في الكلام، لا سيما في لقاءات رسمية مثل هذا اللقاء، فردت بلطف شاكرة للرئيس مباردرته الكريمة هذه، وتمنت أن يستعيد لبنان عافيته وينهض من كبوته بعد انفجار المرفأ. هل حضر زياد الحفلة هو الذي بات يقيم بضعة أيام في الأسبوع في بيت والدته؟ لم يظهر في الصور ما يدل على وجود زياد. وهذا طبيعي ومألوف، نظراً إلى شخصيته الفريدة وغير الإجتماعية. ماكرون واحد من الفرنسيين الذين يحبون فيروز ويجدون في أغانيها صورة للبنان الذي كان. وفي فرنسا تحتل فيروز موقعاً مميزاً في وجدان الفرنسيين خصوصاً الذين يعرفون لبنان، من قرب ومن بعد. وهي ليست غريبة عن الجمهورالفرنسي، ففي عام 1975 ظهرت للمرة الأولى منفردة على شاشة التلفزيون الفرنسي ضمن برنامج "سبيسيال ماتيو" الشعبي الذي كانت تقدمه صديقتها الفنانة الفرنسية ميراي ماتيو وغنت "حبيتك بالصيف". وأطلت في برامج فرنسية كثيرة وأنجز الإعلامي فريدريك ميتران الذي أصبح من بعد وزيراً للثقافة، حلقة تلفزيونية مهمة عن فيروز وحاورها فيها.
وفي عام 1979 أقامت فيروز حفلة ضخمة في "الأولمبيا" باريس وغنت فيها "باريس يا زهرة الحرية". ويقول المقطع الأخير منها: "يا فرنسا شو بقلن لأهلك عن وطني الجريح/ عن وطني اللي متوج بالخطر وبالريح/ قصتنا من أول الزمان/ بيتجرح لبنان بيتهدم لبنان/ بيقولوا مات وما بيموت/ وبيرجع من حجارو يعلي بيوت/ وتتزين صور وصيدا وبيروت". وفي عام 1988 أحيت حفلة ضخمة في "بيرسي" رافقها فيها زياد الرحباني وحققت نجاحاً كبيراً. وقدم لها في المناسبة الرئيس فرانسوا ميتران وسام "قائد الفنون والآداب" تقديراً لها واحتفاء بها. أما الرئيس جاك شيراك فقدم لها وسام "فارس جوقة الشرف" عام 1998.