وثائقي جديد عن ميريل ستريب بعنوان "غموض وتحولات"، لشارل أنطوان دو روفر، عرضته شاشة "آرتي" الفرنسية - الألمانية قبل أيام، يعيد الاعتبار للنجمة الأميركية الكبيرة التي بلغت هذا العام الـ 71 من العمر. مخرج الفيلم يكشف تفاصيل عدة لا نعرفها عن الحياة الشخصية لهذه الممثلة، وكذلك عن مسيرتها التي بدأت أواخر سبعينيات القرن الماضي.
مغامرة ستريب بدأت في ضاحية نيوجرسي، ونعلم على سبيل المثال أنها كانت تطمح إلى الغناء الأوبرالي في بداية وعيها على الفن، لكن هذا لم يمنعها من أن تغيّر لون شعرها للانضمام إلى فرقة "بوم بوم" للفتيات، وهي الفرقة التي انتخبت "ملكة" لها خلال حفلة نهاية العام الدراسي.
وذات يوم اكتشفت كلاسيكيات المسرح، فحسمت قرارها بالاتجاه إلى التمثيل. كانت هذه بداية "انحرافها عن الخط" إذا صح التعبير، فبعد تخرجها في مدرسة التمثيل في يال، حطت مباشرة على خشبة مسارح نيويورك. أحياناً، كانت الخشبة هي "برودواي"، وحيناً آخر مسارح ذات صيت متواضع، فالمهم هو الوقوف أمام جمهور وتأدية دور، والتحول الراديكالي من شخصية إلى أخرى، هو ما شد الانتباه اليها. وظلّ هذا التحول أهم ميزاتها في السنوات اللاحقة، إذ إنها برعت في الأدوار المركبة، ويتردد أنه خلال سنوات عملها في المسرح، كانت تبهر الجمهور باستخدامها عدة لهجات للغة الانجليزية، وهي الموهبة التي نقلتها معها إلى السينما، فالمخرج آلان ج. باكولا مثلاً، الذي أدارها في "خيار صوفي"، يتذكر كيف أن لهجتها البولونية أقنعت يومها المخرج البولوني أندره فايدا.
لم تقف ستريب قبالة الكاميرا إلا بعد سنوات عدة من مسيرتها في المسرح. ففي العام 1978، وهي في الـ 29، شرّعت السينما لها أبوابها أخيراً، بالرغم من أن المنتج الإيطالي الكبير دينو دو لورنتيس كان وصفها بأحط النعوت في مقتبل تجربتها، ولم يعطها أية فرصة.
ليندا في "صائد الغزلان"
كانت الانطلاقة السينمائية في فيلم "صائد الغزلان"، رائعة مايكل تشيمينو التي تروي كيف أن مجموعة أصدقاء يزجون في حرب فيتنام. ثلاثة عمّال يلتحقون بالجيش الأميركي في فيتنام، ويعودون بندوب نفسية وجسدية لا تُمحى، ومن هؤلاء الثلاثة مايك (روبرت دو نيرو)، الذي يحب ليندا (ستريب) بالسر. يفتتح الفيلم بمشهد عرس طويل، يمهّد لما نحن مقبلون عليه من عنف وخيبة في بقية الفيلم. كانت ستريب يومها مغرمة بالممثل جون كازال الذي رحل باكراً وهو في الـ 43 بعد إصابته بالسرطان، وهو كان يجسد إحدى الشخصيات في الفيلم. وافقت ستريب على الدور كي تبقى بالقرب من حبيبها جون المحتضر. أحدث الفيلم صدمة آنذاك في أمة كانت خرجت لتوها من أشنع حروبها، وشرع باباً لممثلتنا التي انطلقت مسيرتها قبل عام مع "جوليا" لفرد زينيمان. هكذا تتذكر عملها على "صائد الغزلان" فتقول "عندما وصلت إلى الكاستينغ كان السيناريو خالياً من أيّ حوار، فقال لي مايكل قولي ما تريدين، فاعتقدت أنه هكذا تكون صناعة الأفلام. ثم عملتُ مع هارولد بينتر (كتب سيناريو زوجة الضابط الفرنسي لكاريل رايتز)، فاكتشفت أن صناعة الأفلام ليست هكذا البتة".
لستريب الفائزة بثلاث جوائز "أوسكار" سجل سينمائي يعد درساً في التنوع، ويكفي أن نلقي نظرة خاطفة على الأفلام التي مثلت فيها لنلحظ الفروق، فشتان بين أفلامها الكبيرة من مثل "خيار صوفي" و"خارج أفريقيا" و"جسر على مقاطعة ماديسون" من جهة، وأعمال ترفيهية تحمل طابعاً تجارياً مثل "الشيطان يلبس البرادا" و"ماما ميا" من جهة أخرى، وكلاهما كانا ضروريان لصنع مجدها على مدى السنوات.
نبش المخرج شارل أنطوان دو روفر في الأرشيف والأوراق القديمة الخاصة بستريب ليخرج بصورة شاملة ووافية عنها، والإحاطة بجوانب شخصيتها وموهبتها وحضورها الآسر على الشاشة، ومع ذلك يعتبرها الفيلم غامضة، فلا تسلّم كل أسرارها بسهولة، ولذلك لا يسعه في نهاية الجولة فك كل شيفراتها. يعتمد الفيلم على مقاطع من أفلامها، ومقاطع تفيد للاستدلال وتقديم قراءة نقدية لتجربتها، وهذا كله مخلوط بمقابلات أجرتها ستريب على مدى حياتها، وهي تؤكد كم أنها متكتمة على حياتها العائلية التي يسرب الفيلم بعض المعلومات عنها، كارتباطها بالنحّات دون غامر، إلا أن أكثر ما يغني الفيلم هو مداخلات الصحافية إيزابيل جيوردانو واثنين من كتاب سيرتها وهما إريك كارلسون من مجلة "فرايتي"، ومايكل شولمان من "نيويوركر"، وشهادات أشخاص عدة أتيحت لهم فرصة العمل معها طوال سنوات.
يركز الفيلم كذلك على المصادر التي تستلهم منها ستريب تغذية أدائها، والنحو الذي تلجأ فيه إلى المراقبة الدقيقة لتشكيل ملامح "كاراكتيرها"، مستعينة بالكثير من الذكاء والركون إلى الغريزة، كما أنه يغوص في تفصيل مهم، وهو قدرتها على القفز فوق القيود "الهوليوودية" المعمول بها منذ عقود.
صحيح أن ستريب كانت تستحق عملاً أهم من هذا الذي أنجزه دو روفر، إلا أن الأخير لا يخفي أن الفيلم لا يقارب مسيرة الممثلة مقاربة نقدية، بل هي احتفالية صرفة.
تمكين المرأة
الفيلم يحتفي بستريب ويتوجه إلى جمهورها، ولا يريد أن يقنع من ليس مقتنعاً، فـ"غموض وتحولات" يؤكد أن الأدوار التي اطلعت بها ستريب أسهمت في تمكين المرأة وتعزيز دورها في المجتمع. وهذا ما كان ممكناً من دون سينمائيين رجال في المقام الأول، من أمثال سيدني بولاك وكلينت إيستوود وستيفن سبيلبرغ ومايكل تشيمينو. هذه هي "التحوّلات" التي يقصدها عنوان الفيلم، أما "الغموض" فيحصره الفيلم في حشمتها الأسطورية، وإصرارها الدائم على مواصلة عيشها بعيداً من الإعلام والأضواء.
وستريب طالما كررت أنه يتعذر تمرينها، وأن أحداً لا يستطيع أن يفرض عليها شيئاً، ولكنها تحب كل الذين عملت معهم، فهؤلاء هم الذين أسندوا إليها الأدوار. وتعاملت مع أكثرهم أهمية، من باكولا إلى بولاك... وبعد رحيل بعضهم تشعر أن الكلمة الأخيرة لها، فهي مدينة لهؤلاء السينمائيين بكل شيء.
سبق لي أن التقيت ميريل ستريب في مناسبات سينمائية عدة، إحدى المرات في روما قبل ثلاث سنوات، يوم تم تكريمها في العاصمة الإيطالية. يومها اعتلت المسرح كإمبراطورة، وكانت تصفق للجمهور والجمهور يصفّق لها بلا توقف. عاصفة هبّت على الصالة واستمرت دقائق، وحبّ متبادل كان من الصعب إيقافه. خلال جلسة التكريم استعرضت ٤٠ سنة من الوقوف أمام كاميرا الكبار بخفة دم نادرة، وذكرت أنه لا يزال لديها أمنية سينمائية واحدة وهي العمل مع سكورسيزي.
كان تكريمها في روما من اللحظات التي يتعذر نسيانها، فالمعجبون بها من الأعمار كافة كانوا يركضون خلفها للفوز بأوتوغراف أو صورة سلفي، وبعضهم شوهد وهو ينهار بكاء لأنه فشل في الاقتراب منها. كان وجه ستريب الملائكي في ذلك اليوم يوحي بأن الأقنعة التي وضعتها طوال أربعة عقود حمتها من الزمن وأفعاله المستنكرة، والاختلاف بين الماضي والحاضر كان واضحاً للعين، بين تلك التي تطلّ على الشاشة بكامل طموحها ورغبتها في النجاح من جانب، وتلك التي تجلس أمامنا وقد أصبحت جدّة.
بعد نحو نصف قرن من التمثيل ما عاد لها شيء لإثباته، ومع ذلك فهي مستعدة لخوض أية مغامرة بشغف المبتدئين وفضولهم.