"التدفّق الهادئ لنهر أونا" (الدار العربية للعلوم - ناشرون) رواية بوسنية للروائي فاروق شهيتش يرصد فيها الحرب في يوغوسلافيا، في التسعينيات من القرن الماضي، التي تمخّض عنها تفكيك الدولة اليوغوسلافية إلى خمس دول على أساس عرقي، ولم تفلح اتفاقيات السلام المعقودة بينها في تصفية ذيول الحرب والخروج من متاهتها، على المستوى العام. فهل تنجح الرواية في ذلك، على المستوى الخاص؟
في روايته، يقول شهيتش على لسان الراوي: "هنالك طريق واحد إلى خارج هذه المتاهة: عبر الذاكرة والحديث" (ص 168). لذلك، يعهد بالراوي إلى درويش يُخضعه لجلسة تنويم مغناطيسي، ساعات عدّة، تجري فيها الذاكرة على رسلها، ودون تخطيطٍ مُسْبَق، في استعادة الأحداث الماضية التي يعيشها الراوي ووصف أماكن حصولها. وبذلك، تُشكّل جلسة التنويم المغناطيسي إطاراً للتذكّر، من جهة، ومحاولة لعلاج الراوي المصاب بانفصام الشخصية، من جهة ثانية. غير أنّ الأحداث المستعادة لا تغطي سوى جزءٍ يسيرٍ من النص بينما تطغى عليه المشاهد والانطباعات والتأمّلات المتعلّقة بالمكان، ما يطرح مدى ملاءمة الإطار للمحتوى، ذلك لأنّ جلسة التنويم المغناطيسي قد تصلح إطاراً لاستعادة الذكريات، لكنّها بالتأكيد لا تصلح لوصف المكان وتحوّلاته.
بالدخول إلى الرواية من عنوانها، نشير إلى وجود تَصادٍ بين العنوان والمتن، على المستويين الدلالي والرمزي؛ فعلى المستوى الأوّل، تتكرّر كلمة "نهر" في سياقات مختلفة، تكتسب في كلٍّ منها مدلولاً معيّناً، فنهر أونا هو ملجأ الراوي/ البطل من الذكريات السيّئة (ص 12)، وهو حصنه النباتي المنيع (ص 36)، وهو النهر الذي أسماه الجنود الرومانيون أونا اندهاشاً بمائه المجهول (ص 58)، وهو مرايا الجنة التي تضاعف جمال الدنيا (ص 103)، وهو الحوض الذي يفصل عن العدو (ص 118)، وهو ذاك السائل الذي يتدفّق في اللانهاية (ص 148)، وهو الذي سيستمرّ في الجريان بعد انتهاء القصص (ص 192). وهكذا، تجتمع في النهر مدلولات اللجوء والمناعة والدهشة والجمال والديمومة. وعلى المستوى الرمزي، تنتمي كلمة "نهر" في العنوان إلى متعلّقات المكان، ويطغى وصف المكان بتمظهراته الكثيرة في المتن على السرد، ما يجعل النص مكانيّاً بامتياز. وبذلك، يتصادى العنوان والمتن، ويشكّل الأوّل خير عتبةٍ للثاني.
تداعيات الحرب
تدور أحداث الرواية في يوغوسلافيا السابقة، وبالتحديد في حوض نهر أونا من البوسنة، في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وتعكس التداعيات التي تتركها الحرب الأهلية على الإنسان والمكان؛ تُحَوّل الأوّل إلى قاتلٍ أو قتيل، في صراع البقاء الذي تطرحه عليه، فلا يتورّع عن قتل جاره أو صديقه لمجرّد اختلافه عنه في العرق أو الدين أو القومية، وتُدخله في متاهةٍ يحاول الخروج منها بما ملكت يده. وتُحوّل الثاني إلى أرضٍ خرابٍ يكون على قاطنيه أن يرحلوا عنه أو يُطمَروا تحت أنقاضه، ويكون عليهم أن يُعيدوا بناءه من جديد، في جدليّة الموت والحياة. وفي هذا السياق، يكتسب المكان قيمة مضافة، ويغلو على أهله، ولعلّ هذا ما يفسّر احتفاء الراوي/ الروائي بالمكان/ النهر، البطل الحقيقي في الرواية. وفي نهاية المطاف، المنتصر والمهزوم في الحرب الأهلية سيّان. كلاهما خاسر.
في جلسة التنويم المغناطيسي الطويلة، يفتح الراوي خزّان ذاكرته، فيتدفّق منه الكلام ذكرياتٍ حَدَثية ومشاهد وصفية، على غير انتظام، ودون مراعاة خطّية الزمن ووحدة المكان. يستأثر المكان الروائي بالحيّز الأكبر من الكلام، ويطغى فيه الوصف على السرد، ما يجعل الوحدة السردية نصاًّ مكانياًّ وصفياًّ تتخلّله فقراتٌ زمانية سردية، ويكون على المتلقّي تجميع الأحداث منها ليبني "الحكاية" المسرودة. فالرواية، بهذا المعنى، نصٌّ بصَريٌّ يخاطب العين أكثر ممّا هي نصٌّ حَدَثيٌّ يراكم الأحداث.
في الذكريات المستعادة، يُعاني الراوي/ البطل من الفصام، يعبّر عنه في بداية الرواية بالقول: "أحياناً لا أكون نفسي، بل أكون غارغانو. ذاك الآخر هو الأنا الحقيقي" (ص 9)، فيجمع في شخصه بين مصطفى هوسار، الشاعر والمحارب والناسك الصوفي، من جهة، وبين غارغانو، الحقود والسادي والماكر والمغامر والمجرم، من جهة ثانية. وإذا كان النصف الأوّل منه هو الذي يضيع في متاهة الحرب وينوء بأثقال الذاكرة، ويسعى إلى الخروج من المتاهة والتخفّف من الأثقال بالتذكّر الذي يتيحه التنويم المغناطيسي، فإنّ النصف الثاني منه هو الذي يرتكب الممارسات القاسية التي تتمظهر في التلذّذ بتعذيب الحيوانات في الصغر، وفي المشاركة في أعمال الحرب في الكبر، وهو الذي سيأخذ سرّه معه إلى القبر مؤثراً الكتمان على البوح لأنّ لا ضمير يؤنّبه، ولا ثقل ينوء به. ولعلّ خضوع النصف الأوّل للتنويم المغناطيسي والتذكّر الناجم عنه هو محاولة للتصالح مع النصف الثاني والتصالح معه، فيخرجان معاً من المتاهة، وتستعيد الشخصية وحدتها. وهي محاولة تتوخى سرد الزمان المحتوى الذي يناسب إطار التنويم المغناطيسي، من جهة، وتتوخّى وصف المكان المحتوى الذي يخرج عن صلاحية الإطار، من جهة ثانية.
ذكريات ومراحل
في السرد، تُغطّي الذكريات مراحل الراوي/ البطل العمرية المختلفة، الطفولة والصبا والشباب. وتحدث في غير مكان، وتتوزّع على سنوات معيّنة، وتتناثر على الوحدات السردية. ولا يربط بينها سوى الذاكرة التي تختزنها وتقوم بتفريغها في جلسة التنويم المغناطيسي. غير أنّ الحيّز الذي تشغله في الرواية ضئيل مقارنةً بالحيّز الذي يشغله الوصف، والمتعلّق من الذكريات بالحرب لا يكفي لبناء سردية عنها، الأمر الذي يتضارب مع الهدف الذي حدّده الراوي في بداية الرواية المتمثّل في التحدّث عن الوضع في يوغوسلافيا في بداية الحرب (ص 9).
من ذكريات الطفولة: ارتياده مدرسة ضيّقة قميئة تخنق الأنفاس. النزهة على ضفاف أجاك، أحد روافد نهر أونا، في منتصف الثمانينيات، مع رفيقه الفادي سميث. اصطياده سمكة كراكي مع رفيقه سيد. تطيير الطائرات الورقية ورمي الحجارة في النهر. العلاقة مع "المسخة"، الكائن الأسطوري الذي يُقيم في كهف، ويقوم بحماية النهر من البشر وملوّثاتهم. وغيرها.
من ذكريات الصبا: السباحة مع الأتراب في النهر. زيارة منزل الجدّة أمينة، المسلمة التي تحب تيتو، وتساعد المعارضة. سفره عبر الزمن من خلال دودة وتحوّله إلى حشرة تتوغّل في الأعشاب. زيارة منزل الجدّة ديلفا في ضاحية زيتارينكا التي تهتم بالنبات وترميه بأدعيتها المشاكسة. وغيرها.
من ذكريات الشباب: انضمامه إلى مخيم تدريبي في برية سكولوف تُطبّق فيه سياسة القطيع في العام 1993. مشاركته في الحرب على رأس وحدة من عشرة جنود. معايشة الجرائم المرتكبة على الأفراد والجماعات. التخييم في مخيّم عسكري في استراحة بين معركتين ورصد مشاعر المحاربين المختلفة. مقتل رفيق الطفولة الذي يدين له بحياته الفادي سميث. معاينة الخراب الذي لحق بالبلدة الصغيرة وحوّلها إلى أطلال. زيارة دار الحضانة القديمة التي تغيّرت وظيفتها في الحرب من مكان لرعاية الأطفال إلى مكان للسجن والتعذيب والإعدام. القيام بتحطيم الزجاجات السوداء على جدران الدار في محاولة للانتقام من الوظيفة المستجدة الغريبة عن طبيعتها. وغيرها.
في الوصف، يرى الروائي المكان بعيون الراوي، ويقوم برسمه بتمظهراته المختلفة في حركته وسكونه، ويرصده في تحوّلاته المتعدّدة وخضوعه لتعاقب الفصول، ويصفه بشغفٍ منقطع النظير، ويتناغم معه حتى ليكاد يشكّل جزءاً منه. والوصف في الرواية يستأثر بالحيّز الأكبر منها فتغدو رواية احتفاء بالمكان لا رواية أحداث، رغم أنّها وُضعِت في الأصل لتروي حدثاً كبيراً هو بداية الحرب اليوغوسلافية (ص 9). وفي هذا السياق، يبدو الروائي/ الراوي مفتوناً بالربيع على ضفاف نهر أونا وما يُحدثه في الأشجار والطيور والأسماك والبزّاقات. يواكب النهر في تدفّق الحياة على ضفّتيه، فيرصد حركة الصيادين، وأنواع الأسماك، وألوان الماء. يراقب عناصر الطبيعة وتحوّلاتها. يصف المخيّم بتفاصيله وحركة الكائنات الصغيرة فيه. يقتفي التغيّرات التي تطرأ على البلدة في العام 2007 بعيني النصف الآخر للراوي غارغانو، هذه المرّة، ما يدفع إلى الاستنتاج أن عملية الروي التي تتم في إطار جلسة التنويم المغناطيسي لم تشفِ الراوي من الانفصام الذي يعاني منه. بيدَ أنّ هذا الاحتفاء بالمكان يتلازم مع معلومات علمية عن الأسماك والأنواع الأخرى، وبعض المعارف الفلكية، وشذرات فلسفية، وأساطير قديمة، ما يمنح النصّ الروائي بعداً معرفياًّ، يتضافر مع البعد المكاني الوصفي، والبعد الزماني السردي، في صنع روائية الرواية.