أقيمت مستشفيات العزل، وطُبقت إجراءات التباعد، وسُنت سياسات الدعم التمويني ومعاشات التسريح، وتقننت الكمامات وتساقطت أهمية القفازات، وأُعِدت بروتوكولات العلاج التي من شأنها تخفيف الأعراض، ودُشِنت خطوط الهواتف الساخنة لتقديم النصح والإرشاد حول العناية بالمرضى والبحث عن إسعاف، وتفتقت الأذهان عن أنظمة تعليم هجين وعمل بيتي عبر تطبيقات وشبكات. حتى المناطق والتجمعات الأكثر هشاشة والأصعب أحوالاً، جرى تدبير ما تيسر من سبل رعاية ومحاولات وقاية، لعل كورونا يترفق بمن لم تترفق بهم رياح التغيير والصراعات والحروب والاقتتالات.
صحة نفسية غائبة
لكن بقيت الصحة النفسية للشعوب العربية غائبة عن الحسابات، ومصنفة تحت بند الرفاهيات، التي لا تسمح بها الأحوال الاقتصادية والسياسية والأمنية. فهل تجاهل العرب البعد النفسي للوباء؟ وهل عودة الحياة إلى طبيعتها الجديدة؛ حيث فتح أماكن العمل والترفيه بدرجات متفاوتة، واستعادة الزحام وتكدس المواطنين، بل ومعاودة الشد والجذب السياسي في دول، والمناوشات العسكرية في دول أخرى، أمور تعني أن صحة العرب النفسية والعقلية بخير؟!
خير الكلام ما قل ودل. وحين قال الكاتب الأميركي الساخر مارك تواين، "من بين كل الأشياء التي فقدتها، يظل فقدان عقلي الأسوأ"، لم يكن هناك وباء يزلزل أرجاء الكوكب أو توقعات بأن يبقى مع سكان الأرض لحين إشعار آخر أو يكبد اقتصاد العالم ما يزيد على ثمانية تريليونات دولار، أو يصيب 25 مليون إنسان أو يفتك بـ843 ألفاً. بل تلخصت مشكلات الكوكب في اعتياداتها من فقر أو ظلم أو كوارث بيئية أو حروب.
حرب مزدوجة
الحرب التي يخوضها العرب حالياً ضد كورونا الذي قرر أن يلازمنا لحين إشعار آخر لا تقتصر على الوقاية والعلاج بالعقاقير والحصول على اللقاح، فكل ما سبق معلن ومعروف، ويتوقف أداء كل دولة فيها بحسب قدراتها الاقتصادية وإرادتها السياسية. أما الحرب غير المعلنة لكن تدور رحاها دون أن يتلفت أحد هي صحة العرب النفسية والعقلية في كنف الوباء.
توتر، وخوف، وقلق، واكتئاب، ووسواس قهري، وحزن، وفقدان، وهلع، وكوابيس، وقلة تركيز، واضطرابات نوم، والقائمة طويلة لكن أغلب التعامل معها عربياً يبقى قيد التنظير أو التحذير أو التوعية الشفهية وكأنها سد خانة.
خانات الذعر الناجم عن الوباء كثيرة. مصاب بكورونا هرب من مستشفى عزل في القاهرة، ثم ظهر في فيديو على مواقع التوصل الاجتماعي وهو يسجد شكراً لله على نجاح عملية الهروب. بعدها بقليل تمت إعادته للمستشفى لاستكمال العزل والعلاج.
وقبل أيام، وفي مدينة الإسكندرية انتحر مريض كورونا في مستشفى عزل أيضاً بإلقاء نفسه من النافذة. خطوط الدعم النفسي التي وفرتها عيادات نفسية كبديل لطلب العلاج في العيادة تتلقى آلاف الاتصالات من أشخاص تعكس شكاواهم صحة نفسية معتلة أو في طريقها إلى الاعتلال. حوادث العنف المنزلي زادت بشكل ملحوظ نتيجة الضغوط الإضافية التي فرضها الوباء، بالإضافة إلى الطبيعة الثقافة التي لا تعتبر العنف المنزلي عنفاً من الأصل. مخيمات للاجئين والنازحين تشهد مؤشرات تنبئ بأن قدرة هؤلاء المنكوبين على المقاومة وتحدي الكوارث بدأت تخور مع الوباء.
صحة الكوكب النفسية
وما يجري عربياً ليس فريداً. فدراسة صينية عن الآثار النفسية للوباء أشارت إلى أن 35 في المئة ممن شملتهم الدراسة مروا بدرجات مختلفة من الضعط النفسي. وفي إيران، أشارت دراسة مشابهة إلى أن نحو 60 في المئة واقعون تحت ضغط نفسي. وفي الولايات المتحدة الأميركية، قال 50 في المئة من المشاركين في بحث استقصائي عن أثر الوباء النفسي أن صحتهم العقلية تأثرت سلباً بسبب القلق والضغط.
وأشارت دراسة شملت أهالي أطفال في كل من إسبانيا وإيطاليا أن نحو 86 في المئة من الأهل لاحظوا تغيرات في الحالة النفسية والسلوكية لصغارهم. وقالوا إن أكثر ما لاحظوه هو ضعف التركيز وسرعة الانفعال والاضطراب والشعور بالوحدة. كما أشارت دراسة أجريت في الصين إلى وجود علاقة وثيقة بين كثرة التعرض لمواقع التواصل الاجتماعي والشعور بالقلق والاكتئاب والضغط.
كل ما سبق من دراسات أشار إليه المستشار الإقليمي للصحة النفسية بمكتب شرق المتوسط في منظمة الصحة العالمية خالد سعيد، الذي أكد لـ"اندبندنت عربية" أن العبء النفسي للوباء ليس حكراً على المنطقة العربية. ويشير أيضاً إلى أن الصحة النفسية ظلت عقوداً طويلة بعيدة عن الأولويات السياسية تعاني نقص موارد مزمناً، على الرغم من أن الأمراض والاعتلالات النفسية تشكل 13 في المئة من حجم الأمراض في العالم. كما أنها تشكل 25 في المئة من معدلات الإعاقة بالعالم.
يضيف سعيد، أن انتهاكات حقوق الإنسان بمجال الصحة النفسية والوصمة المتعلقة بأمراضها، لا سيما في الدول متوسطة ومنخفضة الدخل، مسألة بالغة الخطورة على مر العقود، ومتفاقمة في زمن كورونا.
علاج غائب في زمن كورونا
"منال م"، تبلغ من العمر 54 عاماً، موظفة، كانت تتلقى جلسات وعلاجات نفسية بعد إصابتها باكتئاب شديد قبل نحو سبع سنوات. اضطرت إلى توقيف الجلسات وتقليل الأدوية التي تتناولها دون استشارة طبيبها المعالج بعدما فقدت عملها بسبب الوباء. تقول، "أحاول أحياناً تلقي الدعم أو المشورة النفسية عبر خطوط هواتف خصصتها الكنيسة التي أتبعها للمساعدة، لكنها ليست كافية. أحياناً أشعر برغبة في الانتحار. وفي أحيان أخرى يدق جرس الباب أو الهاتف ولا أفتح أو أرد لأنني أشعر أنني لا أملك القوة أو الرغبة في التواصل مع أحد".
يقول استشاري الطب النفسي محمد المهدي، إن الاكتئاب دائماً يقبع وراء حالات الانتحار. وبين المصابين بكورونا ممن يحاولون الانتحار كانوا مصابين باكتئاب قبل الوباء. وهنا ينبغي الإشارة إلى أن الاكتئاب يصحبه ضعف في جهاز المناعة، ما يعني أن المكتئبين يكونون أكثر عرضة لالتقاط عدوى كورونا، وفي حال التقاطها تكون الأعراض أكثر شراسة. ولذلك ينبغي التنبه إلى ذلك".
أثر مضاعف
التنبه إلى الأشخاص الذين كانوا يعانون أمراضاً أو اعتلالات نفسية قبل كورونا يجب أن يكون مضاعفاً في زمن كورونا. يقول الطبيب خالد سعيد، إن الوباء من شأنه أن يضاعف من وطأة أعراض المرض النفسي وتعرض البعض لانتكاسة، لا سيما أن "كوفيد-19" يأتي حاملاً آثاره النفسية التي تضاف إلى الموجود على الساحة.
وبالطبع فإن الدراسات والأبحاث التي تجرى على مرضى الأمراض النفسية تعاني شحاً عربياً. وتحديث هذه الدراسات ومقارنتها بما طرأ في كنف كورونا يظل أيضاً أمراً بعيداً عن الساحة العربية، لكن سعيد يشير إلى دراسات أجريت في بريطانيا وجنوب أفريقيا على أشخاص يعانون أمراضاً نفسية قبل كورونا أشارت إلى أن الوباء كثف من الأعراض ودهور بعض الحالات.
وأشارت الدراسات أن ارتفاعاً طرأ في الرغبة بالانتحار، والخوف المتزايد من العدوى، وصعوبة مضاعفة في التوقف عن تعاطي المواد المخدرة. كما أشارت دراسات في أسترالي وبلجيكا وكندا وفرنسا والنرويج وسنغافورة إلى أن نصف الوفيات التي تحدث بسبب كورونا تحدث في وحدات الرعاية الصحية النفسية طويلة الأمد.
الصحة النفسية ونظام التأمين
وإذا كانت منال مريضة اكتئاب قبل اجتياح الوباء، فإن أجواء الوباء وآثاره الاقتصادية والنفسية ضاعفت من حجم المرض، لا سيما أن العلاج النفسي ليس مدرجاً في التأمين الصحي، وحتى لو كان مدرجاً كما هو الحال في بعض الدول مرتفعة الدخول، فإن أولوية القطاع الصحي حالياً هي مواجهة الوباء. لكن الوباء لا يهاجم فقط الرئة أو العظام أو الجهاز المناعي، لكن العزل الاجتماعي والحظر وإغلاق العديد من مجالات الحياة العملية والعلمية والترفيهية "جعل طعم الحياة مراً لدى كثيرين".
يشير المهدي إلى الأعراض الجانبية للوباء، التي ألقت بظلال وخيمة على الاقتصاد، ففقد كثيرون أعمالهم ومصدر رزقهم، وبات شعورهم بالتهديد بالفقر والعوز واحتمالات فقدان الاحتياجات الأساسية لهم ولأبنائهم مصدراً إضافياً للاعتلال النفسي.
مجدي محمد، صحافي شاب، يعمل في إعداد الفقرات الاقتصادية بعدد من البرامج التلفزيونية. يقول إنه شخصياً بدأت تنتابه موجات من القلق الشديد والاضطراب لدرجة تعرق اليدين والوجه وسرعة ضربات القلب لكثرة قراءته وإعداده للأخبار والتقارير الاقتصادية من شتى دول العالم التي لا تخرج عن إطار "انهيار شركات عملاقة" و"خسارة بورصات عالمية" و"تسريح ملايين الموظفين" و"خسائر بتريليونات الدولارات"، و"انهيار قطاع السياحة" وغيرها من الأخبار التي لم يكن ينقصها إلا خبر "دك أرجاء الكوكب وفناء البشرية". يقول ضاحكاً: "نصحني الطبيب بالعمل في قسم آخر لفترة، فانتقلت إلى القسم الفني. وبدلاً من نقل أخبار الفنانة فلانة تزوجت فلان، والفيلم الجديد لنجم الشاشة، وقصة الحب السرية بين هذا وتلك، وجدت نفسي غارقاً في أخبار عن خسائر بالملايين لصناعة السينما، وتوقف تصوير الأفلام بسبب نقص التمويل، وابتعاد الفنانة المشهورة عن الساحة خوفاً من كورونا".
صحة شرق المتوسط النفسية
يقول خالد سعيد إن الصحة النفسية تعاني الأمرّين بإقليم شرق المتوسط (الذي يحوي أغلب الدول العربية) من قبل اجتياح كوفيد-19. فمتوسط إنفاق هذه الدول على الصحة النفسية لا يتعدى اثنين في المئة من الميزانية المخصصة للصحة، أغلبها يوجه لمؤسسات العلاج النفسي الكبيرة. كما أن نسبة العاملين بالقطاع الصحي المتخصصين في الصحة النفسية تبلغ 7.9 عامل صحي لكل 100 ألف نسمة في المنطقة.
ويشير إلى أنه قبل الوباء، قدّرت منظمة الصحة العالمية، أن واحداً بين كل خمسة أشخاص بمنطقة شرق المتوسط ممن يعيشون في مناطق الصراع يعاني أعراض اعتلال نفسي، وهي المعدلات التي زادت دون شك بسبب الوباء.
صحة السوريين النفسية
المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين حذّرت قبل أسابيع من أن العواقب التي يخلفها فيروس كورونا تلحق خسائر فادحة بالصحة النفسية للاجئين والنازحين وعديمي الجنسية.
وحذر المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي من أن فيروس كورونا ليس مجرد أزمة صحية بدنية، ولكنه أيضاً أزمة صحة نفسية. وقال إنه رغم تمتع العديد من اللاجئين والنازحين داخلياً بعزيمة ملحوظة وقدرة على المضي قدماً رغم التعرض للعنف والاضطهاد بشكل مباشر، "إلا أن قدراتهم على التأقلم وصلت في ظل الوباء إلى أقصى حدودها".
وترد تقارير إلى المفوضية ترصد ارتفاعاً ملحوظاً في مشكلات الصحة النفسية والاحتياجات بين أولئك المهجرين، بالإضافة إلى شيوع الخوف من العدوى وتدابير الحجز والعزل والوصم والتمييز وفقدان سبل العيش وعدم اليقين في شأن المستقبل. كما أن حالات عدة تم توثيقها لمهاجرين ولاجئين أقبلوا على إلحاق الأذى بالنفس بسبب ضغوط الوباء.
وبحسب مسح أجرته المفوضية بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" وبرنامج الغذاء العالمي، فإن أعداد المكالمات التي يتلقاها الخط الساخن الذي خصصته المفوضية لتلقي اتصالات تطلب الدعم في حالات العنف الأسري للاجئين السوريين في دول الجوار قد انخفضت، إلا أن المفوضية ترجح أن تكون حالات العنف الأسري قد زادت، لكن ظروف الإغلاق والتحركات المحدودة تجعل الأسر مقيمة مع بعضها البعض لفترات أطول، وهو ما يقلص من فرص الضحية للاتصال والتحدث والتعبير عما تعرضت له من عنف. كما تم رصد زيادة تقدر بنحو 50 في المئة من الاستشارات الطالبة لشكل من أشكال دعم الصحة النفسية.
استشارات عن بعد في اليمن
مؤسسة الاستشارات الأسرية والتنمية في اليمن؛ منظمة يمنية غير حكومية، تقدم خدمات استشارات نفسية واجتماعية عن بعد من خلال خط هاتفي يعمل لمدة 12 ساعة خلال ستة أيام بالأسبوع. لكن منظمة "انقذوا الأطفال" البريطانية حين أجرت دراسة في مارس (آذار) الماضي على الصحة النفسية للأطفال باليمن وجدت أن ما يزيد على نصف الأطفال يعانون من مشاعر حزن واكتئاب بين الحين والآخر، وأن أكثر من واحد بين كل عشرة أطفال يقول إن هذه المشاعر مستمرة لا تنقطع. الصراع في اليمن الذي دفع مليوني طفل إلى ترك بيوتهم والتوقف عن الذهاب إلى المدرسة، بالإضافة إلى قتل وإعاقة نحو 7522 طفلاً، يتضافر معه اليوم الوباء ليحكما قبضتهما على البلد المصنف باعتباره "أكبر أزمة إنسانية في العالم" بدون كورونا.
وكان المسؤول الفني بإدارة الصحة النفسية واستخدام المواد في منظمة الصحة العالمية فهمي حنا قد حذر خلال مايو (أيار) الماضي في اجتماع للأمم المتحدة حول كوفيد-19 والحاجة إلى حماية الأشخاص الأكثر ضعفاً من اعتلالات الصحة العقلية خلال وبعد الوباء إلى أن "واحداً من كل خمسة أشخاص يحتاج في هذه الظروف إلى خدمات الصحة العقلية والدعم النفسي والاجتماعي لأنهم يعانون حالة نفسية"، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن "اليمن ليست أكبر أزمة إنسانية في العالم فحسب، بل هي أيضاً واحدة من أكبر أزمات الصحة العقلية بالعالم إذ يحتاج أكثر من سبعة ملايين شخص إلى دعم لصحتهم العقلية".
لبنان وحمل لا يحتمل
ومن اليمن إلى لبنان، حيث الأوضاع المعيشية تختلف شكلاً لكن الآثار النفسية تتطابق مضموناً. فوطأة الأزمة السياسية التي أسهمت في تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، ثم جاءت كورونا لتضيف حملاً ثقيلاً فوق أحمال. وتكلل المشهد بانفجار مرفأ بيروت الذي قضى على أخضر صحة اللبنانيين النفسية ويابسها. ورغم المبادرات الأهلية الكثيرة لتقديم الدعم النفسي للمتضررين وغيرهم، فإن الحمل بالغ الثقل.
قبل أيام، ذكرت المتحدثة باسم "يونيسف" في جنيف ماريكسي ميركادو أن 50 في المئة من الأطفال في بيروت تظهر عليهم علامات الاحتياج إلى الدعم النفسي جراء الانفجار الضخم. تحدثت ماريكسي عن تأكيد الأهل حدوث تغيرات في تصرفات وسلوك الصغار بعد الانفجار، بالإضافة إلى أمارات للصدمة النفسية والقلق البالغ. وقد طالت هذه الأعراض وغيرها من اضطرابات النوم والعزلة والتصرفات العدوانية ثلث الكبار أيضاً.
الكبار والصغار والمسنون وحتى الرضع الذين خرجوا إلى النور في كنف الوباء موعودون باضطرابات نفسية. وبعيداً عن الفروق الفردية بين الأشخاص، والقدرات المتفاوتة في التعامل مع الضغوط والأزمات النفسية، فإن الاعتلالات النفسية هذه المرة ستطول الجميع بشكل أو بآخر. منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة قالتا إنهما رصدتا انتشاراً كبيراً لأمراض الاضطراب العقلي"، بسبب وباء كورونا، لا سيما بين العاملين في مجال الرعاية الصحية والأطفال.
الرفاهية النفسية
المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غبريسوس قال في بيان صحافي إن "أثر الوباء على الصحة النفسية للناس يثير القلق"، و"العزلة الاجتماعية والخوف من العدوى وفقدان أفراد الأسرة يضاعفها الكرب الناجم عن فقدان الدخل والعمل في كثير من الأحيان".
غبريسوس يسلط الضوء على الحاجة الماسة إلى التعامل مع الصحة العقلية باعتبارها عنصراً أساسياً في الاستجابة للوباء والتعافي منه". وحمّل مدير عام المنظمة مسؤولية صحة الشعوب العقلية في زمن كورونا للحكومات والمجتمع المدني بدعم من منظومة الأمم المتحدة. وحذّر من أن الفشل في "أخذ الصحة النفسية للناس على محمل الجد سيفاقم من الكلفة الاجتماعية والاقتصادية طويلة الأجل".
الملايين في الدول العربية أبعد ما تكون، لا سيما في زمن كورونا، عن التفكير بالكلفة طويلة الأجل. فالكلفة قصيرة الأجل بالغة الثقل. بل إن مجرد الحديث عن الصحة في ظل الوباء يبدو حديثاً سخيفاً ورفاهية لا مجال لمجرد التفكير فيها.
محمد السيد، يبلغ من العمر 49 عاماً، عامل أمن في شركة خاصة. يقول إنه من المحظوظين الذين مازالوا يحصلون على رواتبهم، لكن "الإكراميات" والمساعدات التي كان موظفو الشركة وعملاؤها يغدقون بها عليه قلت جداً في أشهر الوباء. يضيف، "هذه الإكراميات كانت تفوق راتبي الهزيل وتمكنني من الإنفاق على أبنائي في مراحل التعليم. ومنذ بداية أزمة كورونا، وأنا أعاني الأرق وأوجاعاً غريبة في جسمي. وكلما فكرت في مستقبل الأولاد، تتسارع دقات قلبي وأشهر بصعوبة في التنفس فأسارع لأصلي وأستعيذ بالله من الشيطان الرجيم".
الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم لن تصلح حال محمد الذي يعاني اعتلالات نفسية. قد تهدئ من روعه قليلاً، لكنها لم تعالج أعراض الاعتلال النفسي. إلا أن مجرد الإشارة إلى طلب الدعم النفسي من طبيب أو مركز أو خط ساخن متخصص في الاستشارات النفسية تستدعي نظرات استهجان وعبارات تعكس مكانة متدنية لمنظومة الصحة النفسية التي مازالت رفاهية في العرف الشعبي العربي، ومرفوعة من قائمة الأولويات الصحية في العرف الرسمي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الصحة العقلية ليست ترفاً
أما العرف الطبي فيشير إلى أنه من الضروري التعامل مع ضغوط الحياة لتحقيق إمكانات الفرد والمساهمة في المجتمع. يقول خالد سعيد إن تعزيز الصحة العقلية وحمايتها واستعادتها مسألة بالغة الأهمية للأفراد. ويضيف، "في الوقت الذي أقدر القلق الخاص بتوفير الاحتياجات الأساسية في زمن صعب كالذي نعيشه، فإن الحقيقة هي أن الصحة العقلية لا تحتاج إلى اعتبارها ترفاً أو فكرة لاحقة يمكن معالجتها في المستقبل".
ويشير سعيد إلى أن دمج الصحة النفسية والدعم النفسي والاجتماعي لا يجب أن يدرجا فقط ضمن الاحتياجات الأساسية مثل المأوى والغذاء والأمن والمياه والصرف الصحي والتعليم، ولكن اتخاذ إجراءات من شأنها تعزيز الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي سيؤدي إلى ضلوع المستفيدين المحتملين بشكل استباقي في التخطيط والتطوير وهو ما يسهم بشكل فعال في المقاومة والتعافي.
لكن يظل الشد والجذب بين ما ينبغي عمله وما هو معمول بالفعل قائماً عربياً. الوباء قائم ويتوقع أن يصاحب البشرية لأجل لم يتحدد بعد، ومعه الآثار النفسية المؤثرة سلباً على صحة الناس العقلية وقدراتهم على التعايش والتعامل.