ترك يورغن شادبرع إرثاً بصرياً مهماً خلفه. هذا المصوّر الفوتوغرافي الألماني الكبير الذي توفي قبل أيام عن عمر 89 عاماً في اسبانيا، جمع طوال مسيرته الفنية التي تمتد على ستة عقود قرابة الـ200 ألف نيغاتيف، بعضها لشخصيات ولأحداث طبعت القرن العشرين، وقد نال في العام 2014 جائزة تكريمية عن مجمل أعماله.
حتى الذين لا يعرفون شادبرغ لا بد انهم شاهدوا الصورة الشهيرة التي التقطها لنلسون مانديلا وهو قابع في سجنه (كايب تاون) متأملاً الخارج من خلف القضبان. صورة أصبحت أيقونة نضال لقدرتها على اختزال عناد رجال استمر 27 سنة. إلا أن هذه الصورة مجرد نقطة في بحر هذا الفنّان الملتزم الذي وثّق حياة الناس في جنوب أفريقيا في الخمسينات بصور أسود أبيض تُعَّد اليوم مرجعاً بصرياً مهماً لفهم تلك المرحلة والغوص في تفاصيلها. نتحدّث طبعاً عن زمن الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
فهذه الصورة لمانديلا التي التقطها في العام 1994 لم تكن يتيمة، بل هو صوَّر المناضل الكبير منذ العام 1952 عندما كان محامياً في جوهانسبرغ. في إحدى المرات طلب منه دقيقة، فالتقط له صورة جميلة نراه فيها يتأبط ملفات وأوراقاً بيد ويمسك نظاراتيه بأخرى، مع تلك النظرة الصافية التي كانت تميز الرجل. كان شادبرغ يومها في العشرينات من عمره.
شادبرغ المولود مع بزوغ فجر الثلاثينيات في ألمانيا النازية، عاش وهو طفل تفاصيل فجيعة هذه المرحلة وكان شاهداً على مآسي الحرب العالمية الثانية. لهذا السبب ربما كان واعياً منذ مقتبل تجربته المهنية على توثيق الظلم والمهانة. سنوات الحرب تلك وصفها شادبرغ بـ"النزول البطيء إلى الجحيم". واحدة من أولى صوره في العام 1942، هي لمجموعة ألمان يتحلّقون حول لاعب أكورديون، ناس وجدوا في ملجأ تحت الأرض ملاذاً آمناً من قصف الطائرات. التأثير اللاواعي للتعبيرية الألمانية في الصورة كبير.
من النازية إلى العنصرية
في مذكّراته، كتب أن النازية كانت تتحكّم بكلّ مفاصل حياة الفرد. هو عرف كيف يهرب منها حين كان مراهقاً. كان شادبرغ ابن ممثّلة ألمانية مغمورة تزوجت لاحقاً بجندي بريطاني، ثم عندما انتهت الحرب غادرا معاً إلى جنوب أفريقيا وتركت الأم ابنها يتدبّر أمره بنفسه، فما كان منه إلا أن تخصص في التصوير. عمل لفترة في وكالة الأنباء الألمانية في هامبورغ. في إحدى صوره الشهيرة التي تعود إلى تلك الفترة، نرى رجلاً يقوم بحركة بهلوانية في أعلى مبنى يطل على مدينة هامبورغ المغطاة جزئياً بالضباب. الصورة كانت تجسّد الأمل العائد إلى ألمانيا بعد ثلاث سنوات من نهاية الحرب. بعد سنتين، حزم شادبرغ أمتعته وتوجّه إلى جنوب أفريقيا حيث بدأ يمارس التصوير باحترافية. عالم جديد انفتح أمامه.
عندما وصل إلى هناك، وجد مجتمعين يتطوران من دون أي تواصل بينهما. كان هناك جدار فاصل بين عالمين. جدار غير مرئي. الجانب الذي يعيش فيه السود كان ازداد نشاطاً على المستويين الثقافي والسياسي، في حين اختار البيض العزلة والكولونيالية وصرف النظر عن كلّ ما يتعلّق بحياة السود. ولكونه أبيض، كان يسهل عليه التنقّل من جانب إلى جانب بسهولة.
إلا أن صوره، خصوصاً واحدة معينة كانت تكشف المخاطر الصحية والظروف القاسية التي يعمل ضمنها عمّال المناجم السود، رفضها عدد كبير من الناشرين. كانوا ينصحونه بالابتعاد عن المناجم وعدم الحديث عنها مع أي أحد. حتى قيل له أن هؤلاء الذين في الصورة "هم مجرد سود لا قيمة لحياتهم". هذا كله جعل شادبرغ يشعر بالكثير من الإحباط. في النهاية، بدأ ينشر صوره في مجلة "درام" الشهرية المقاومة التي كانت تتوجّه إلى جمهور السود المضطهدين، علماً أن التعامل معها كان يضع مستقبله آنذاك على المحك. كانت "درام" مجلة أيقونية تنشر الكثير من التحقيقات المهمة والتقارير المثيرة والآراء الجريئة، فلم يخف شادبرغ، لا بل استغل احتكاكه بالقائمين عليها ليتسلل إلى داخل المجتمع الأسود.
ذاع صيت المجلة بسبب نشرها تحقيقات مصوّرة عن اللحظة التاريخية التي عاشتها دولة جنوب أفريقيا وقتذاك، فنقلت من بين ما نقلته التهجير القصري الذي استهدف السود من المدينة المختلطة عرقياً التي تُدعى كوفيفي. وكانت كوفيفي (أو مدينة صوفيا) تحتضن أيامذاك الحياة الثقافية للسود، مليئة بالبارات والحانات ومركزاً لموسيقى الجاز.
الصحافي هنري نكسومالو ساعده في تصوير موسيقيين ومغنيين من مثل ميريام ماكيبا وهيو ماسيكيلا. ولكن هذا الرجل الذي مد له يد العون قُتل لاحقاً في العام 1057، وهو يجري تحقيقاً استقصائياً عن طبيب أبيض كان أجرى عدداً كبيراً من عمليات الاجهاض. مقتله ترك آثاراً بالغة في نفس المصوّر، خصوصاً انه كان يعتبره صديقه الوحيد.
أجواء الأبارتايد
منتصف الخمسينيات، أي الفترة التي برز خلالها في مجلة "درام"، كانت شاهدة على غليان كبير: عصيان مدني ساد في كلّ أرجاء جنوب أفريقيا، ثم انطلقت محاكمة مانديلا و١٥٥ شخصاً غيره من أعداء الأبارتايد. محكمة استغرقت خمس سنوات.
هكذا تحوّل شادبرع موثّقاً لجريمة الأبارتايد في جنوب أفريقيا لعقدين من الزمن. هاله التمييز العنصري داخل المجتمع فباتت صوره تحمل صرخته. ولكونه يأتي من خارج هذه البيئة، فنظرته إليها كانت مختلفة. ولعل أهم ما في شغله هو أنه استخرج الجمال والأمل من داخل المأساة والظلم. عمل نحو ٨ سنوات في "درام"، ثم غادرها في العام 1959 بعد خلاف مع الناشر (الذي كتب في ما بعد سيرة مانديلا)، ليلتحق بـ"صانداي تايمز"، أكبر جريدة كانت تُنشر يوم الأحد، وشغل فيها منصب رئيس قسم التصوير.
بعد خروجه من "درام"، ظلّ يوثّق الواقع المأسوي، فالتقط في العام 1960 صوراً لمجزرة شاربفيل التي قضى فيها 69 متظاهراً أسود. صورة جنازة الضحايا شهيرة وتُعد درساً في رسم المأساة بالضوء والظلّ. يقال أنه استأجر طائرة صغيرة لالتقاط الصورة الاسطورية حيث نرى التوابيت جنباً إلى جنب.
بصرياً، شكّل عمله قطيعة واضحة مع الأصول المعمول بها في مجال التصوير، وكان يستخدم كاميرا "لايكا" صغيرة قياس 35 ملم، بدلاً من المعدات الثقيلة المعتمدة في الصحافة الجنوب أفريقية التي كانت تحت سيطرة البيض. صحيح ان صور الفصل العنصري هي أكثر ما تخصص فيه، ولكن مع ذلك لا يمكن حصره في موضوع واحد ووحيد، فشادبرغ صوّر أيضاً الكثير من الناس الذين ينتمون إلى الحياة اليومية حيث لا حدث؛ ناس عاديون كانت وجوههم ستُطوى لولاه. اعتبر الصورة الفوتوغرافية "كبسة pause على الحياة". لحظة تتطاير ومن المستحيل إعادة انتاجها. في العام 1973 ، قام برحلة تمتد على أكثر من عشرة آلاف كيلومتر عبر دول أفريقية عدّة، لتوثيق حياة البسطاء. له صور مهمّة أيضاً عن الانقسام الناتج من الحرب الباردة منذ الستينيات حتى مطلع الثمانينيات في مسقطه برلين.