لم تكن الطفلة الأردنية سيرين ابنة السبع سنوات، آخر ضحايا الأخطاء الطبية في الأردن، التي تُسجَل يومياً تحت عناوين ومبررات عدة، أبرزها عبارة "لا يوجد لدينا سرير"، التي أصبحت لازمة "تتسلح" بها مستشفيات القطاع العام ويختبئ خلفها الأطباء، لتبرير الترهل الإداري الذي أصاب أحد أهم القطاعات الحيوية في الأردن والذي كان الأردنيون إلى عهد قريب يفاخرون به.
لم تكن سيرين وحدها محط اهتمام الأردنيين خلال الأيام الماضية، إذ شاركها وزير الصحة سعد جابر الاهتمام ذاته، لكن بغضب واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، سرعان ما تحول إلى دعوات للمطالبة بإقالته وتحميله المسؤولية الأخلاقية عما حدث. وللمفارقة، فإن الوزير ذاته كان تحول إلى أيقونة شعبية قبل أشهر، ووُصف سابقاً بـ"بطل كورونا" لجهوده في محاربة الجائحة العالمية، قبل أن يتحول مزاج الأردنيين إلى السخط والتبرم من كل القرارات والإجراءات الحكومية الأخيرة.
كورونا متهمة
حُول ملف التحقيق بوفاة الطفلة سيرين إلى المدعي العام، وأحيل 12 شخصاً من الكوادر الطبية إلى القضاء للتحقيق معهم، إذ إن حالة الوفاة حصلت بعد مراجعتها مستشفى البشير، أكبر وأقدم المستشفيات الحكومية في الأردن، على إثر معاناتها من الزائدة الدودية، ومن ثم مفارقتها الحياة بسبب نقص الأسرة.
لكن هذه الإجراءات لم تكن كافية بالنسبة إلى والدها المكلوم خالد عناية، الذي يعتبر أن طفلته ذهبت ضحية خطأ طبي، وتأخُر في إجراء العملية الجراحية لها، وأن محاولاته المستميتة للحصول على سرير لها فشلت، بينما سيرين تصارع الموت في قسم الطوارئ.
ويتهم أردنيون الحكومة بتحويل كل جهودها الطبية لمحاربة فيروس كورونا والمصابين به، على حساب المرضى الآخرين الذين كانت تكتظ بهم جنبات المستشفيات الحكومية قبل الجائحة. ويدللون على ذلك بتحويل ثاني أكبر المستشفيات الحكومية وهو مستشفى الأمير حمزة والذي يضم 700 سرير، لاستقبال مرضى فيروس كورونا.
أخطاء طبية أم قضاء وقدر؟
وتحفل المستشفيات الأردنية بقصص عدة للأخطاء الطبية المؤلمة، بعضها أودى بحياة الضحايا، وأخرى تركت خلفها ندوباً وعاهات لا يمحوها الزمن، لكن الحكومة ترد بأن هذه الأخطاء موجودة حتى في الدول المتقدمة طبياً، مثل كندا والولايات المتحدة، إذ تشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من مليوني شخص حول العالم يموتون سنوياً بسبب أخطاء طبية.
ويرفض نقيب الأطباء الأردنيين السابق هاشم أبو حسان التعميم، ويطالب "بالتفريق بين الخطأ الطبي والمضاعفات التي يتعرض لها المرضى، والتي لا يتحمل مسؤوليتها الأطباء أو الطاقم التمريضي". ويكشف أبو حسان عن تلقي النقابة في السنوات السابقة نحو 300 شكوى قُبِل منها 150 فقط، بينما تشير إحصاءات غير رسمية إلى وجود نحو 10 آلاف شكوى.
وتقر وزارة الصحة بعدم وجود إحصائية لديها عن الأخطاء الطبية في مستشفيات الأردن، وفقاً لتصريحات صحفية منسوبة إلى حاتم الأزرعي الناطق الإعلامي باسم وزارة الصحة، وذلك على الرغم من ورود نحو 30 شكوى يومياً وتوقيف 15 طبيباً خلال السنوات الماضية عن ممارسة المهنة.
ودفعت كثرة الأخطاء الطبية المواطن مصطفى مناصرة إلى تشكيل الجمعية الأردنية للحماية من الأخطاء الطبية، بعد ما تعرض هو شخصياً إلى خطأ طبي أفقده البصر في عينه اليمنى. ويطالب مناصرة المواطنين الأردنيين بعدم التقصير في التبليغ عن هذه الأخطاء وعدم الرضوخ لتبرير "قضاء وقدر" أو كِبر سن بعض المرضى.
قانون المسؤولية الطبية
ويرى مراقبون أن الحكومات الأردنية حابت العاملين في القطاع الطبي بتأخيرها إقرار قانون المسؤولية الطبية حتى عام 2018.
ومر قانون المسؤولية الطبية بمد وجزر وجدل على مدار 16 سنة، وحاولت قوى كثيرة ومتضررون من هذا القانون تعطيله مراراً، حيث رفضته نقابة الأطباء منذ عام 2009، وأُدخلت عليه تعديلات كثيرة لأكثر من ثماني مرات، من بينها عدم جواز توقيف مقدم الخدمة، أو المشتكى ضده المتسبِب بالأذى أو الوفاة خلال النظر بالشكوى.
ويعرف القانون الخطأ الطبي بأنه "أي فعل أو ترك أو إهمال يرتكبه مقدم الخدمة، ولا يتفق مع القواعد المهنية السائدة ضمن بيئة العمل المتاحة وينجم عنه ضرر".
وأصرت نقابة الأطباء في معرض رفضها للقانون على أن التشريعات الحالية كافية لمعالجة الأخطاء الطبية، ولا حاجة لقانون خاص، لأن القانون سيرتب على مقدمي الخدمات الصحية أعباءً مالية جديدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جهته، رأى وزير التربية الأردني السابق وليد المعاني أن تسمية القانون بـ"قانون المسؤولية الطبية والصحية"، "أمر خطأ وبعيد كل البعد عن الهدف المرجو، إذ إن المسؤولية الطبية والمساءلة الطبية شيئان مختلفان لا يجب الخلط بينهما". وأضاف المعاني أن "ثمة أموراً ليست في صلب المساءلة أُدخِلت في القانون الذي حشوه ببنود لا علاقة لها بالمساءلة الطبية". وينتقد الوزير السابق "إعاقة بعض الجهات للقانون" بحجج من بينها أنه "سيفتح الباب أمام شركات التأمين لنهب الأطباء".
وينص المشروع أيضاً على إنشاء صندوق تكافلي للتأمين ضد الأخطاء الطبية، وإنشاء سجل رسمي للأخطاء الطبية التي صدرت فيها أحكام قضائية قطعية. كما يتضمن نصوصاً تمنع إجراء عمليات الاستنساخ، وتغيير الجنس، وزرع جنين في رحم المرأة من غير زوجها.
في هذا السياق، أشار المحامي هاني زاهدة، إلى "ازدحام القوانين التي تعنى بصحة المواطن والأخطاء الطبية"، معتبراً أنها "كافية، لا سيما قانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية والقانون المدني، فضلاً عن قانون الصحة العامة، والقانون الخاص بنقابة الأطباء".
ضغط ورواتب متدنية
ويشكو العاملون في القطاع الطبي وتحديداً الأطباء من رواتبهم المتدنية، فيما لا يتقاضى كثير من الأطباء المقيمين رواتب شهرية مقابل الحصول على الامتياز، كما يعاني هؤلاء من ضغط شديد خلال ساعات العمل الطويلة بسبب أعداد المراجعين الكبيرة خاصة في أقسام الطوارئ.
وفتحت الحادثة الأخيرة الباب واسعاً أمام الحديث عن نقص في جاهزية المستشفيات الحكومية ومدى الضغط الذي تتعرض له جراء تضاعف أعداد الأردنيين عدا عن الوافدين إليها خلال السنوات الأخيرة.
وتفيد أحدث إحصاءات وزارة الصحة بأن عدد الأسرة في المستشفيات الحكومية لا يزيد على خمسة آلاف سرير، بحيث يكون نصيب كل 10 آلاف مواطن 18 سريراً فقط.
ويُعتبر مستشفى البشير أكبر المستشفيات الحكومية في الأردن وأقدمها، بطاقة استيعابية تبلغ 1100 سرير، لكنه يتعرض لضغط شديد من قبل المراجعين، حيث يتوافد عليه نحو 560 ألف شخص سنوياً يُسجَلون في قسم الطوارئ. وتضم العاصمة عمان التي يقطنها نحو 5 ملايين نسمة، ثلاثة مستشفيات حكومية فقط.