من خيوط سوداء كثيرة، ينسج الكاتب الأردني جلال برجس روايته الأخيرة "دفاتر الورّاق" الصادرة عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، وهي خيوط تطابقتْ في لونها ورائحتها مع سواد أحبار الطباعة في الكُتب وروائع المؤلَّفات التي ابتعلت عُمْر إبراهيم بطل الرواية في قراءتها وهضمها دون طائل في عالم العبث واللاجدوى والانتحار البطيء. فهو الورّاق المثقف في حاضر زائف خانق، صارت الكلماتُ فيه رياءً ونفاقاً واستهلاكاً ودعاية سياسية واتجاراً، وغدت الثقافة والمثقفون في العاصمة الأردنية عمّان ومعظم المدن العربية حطاماً هالكاً يجب التخلص منه لصالح الانتهازيين وأصحاب المحسوبية من المُلّاك الجدد: إزالة كشك الورّاق المليء بكتب الفلسفة والتاريخ والروايات بقرار إداري تعسفي لإقامة معرض هواتف جوّالة مكانه، وتشريد صاحبه في شوارع المدينة بطرده من بيته القديم المهترئ.
رهانات ناجحة
راهنت الرواية جماليّاً واجتماعيّاً وإنسانيّاً على أن تكون القماشة الفنية الغائية التي يتعاطى معها المتلقي "بالتة" ألوان متشابكة وموجات ظلال موحية متداخلة، وذلك على الرغم من صياغتها بالكامل بخيوط السوداوية المفرطة حدّ العدمية. ونجح العمل بقدر كبير في كسب هذا الرهان لأسباب كثيرة، منها أن الأحداث النابضة المشغولة بعناية واصطبار في الأردن وخارجها عبر قرابة مئة عام انتهاء بسنة 2019، قد فرضت حيويتها وتأثيراتها الفائقة بحساسيتها ورهافتها وشاعريتها ومصداقيتها وتعمقها في الطبقات الداخلية للبشر وتجسيد انهياراتهم وصرخاتهم بحرارة من قلب المشهد التفاعلي.
كذلك، استمدت الرواية وهجها من لانمطيتها البنائية وآلياتها الكتابية، بالتنقل بين الماضي والحاضر، وعبر الأمكنة (عمّان، مادبا، موسكو...)، وانتهاج الأسلوب التشويقي البوليسي في حكي الشخصيات عن ذاتها وقطع الحديث المتدفق عادة على حافة مفاجأة ثم الانتقال إلى شخصية أخرى لتسرد، وكسر الحاجز الوهمي بين الحقيقي والأسطوري، والواقعي والتاريخي، والمعيش والحُلمي/الكابوسي، وتوسعة مدى شخوص الرواية إلى احتمالات لانهائية بسبب قدرة بطلها "إبراهيم الورّاق" على تقمص أرواح أبطال الروايات العربية والعالمية التي قرأها طوال حياته والقفز إلى أزمنتهم أو جلبهم إلى زمانه. وكذلك بسبب ما أصابه من مرض فصام الشخصية لرغبته في الانتقام من المجتمع الظالم وتعدد الأصوات المتناقضة داخله وتراوحها بين الخير والشر، والمثالية والجريمة، والجسارة والجبن، والإنسانية والوحشية.
شعاع آخر لامرئي استدعاه الروائي جلال برجس لإضاءة توليفته الفريدة التي أظهرت العالم على أنه "أكثر قسوة من حدود التوقع"، هو ومض البرق الخفيّ الذي قد يداعب الروح على فترات نادرة، مهما ساد الظلامُ الأرجاءَ وعمّت الوَحْشةُ الحواسَّ والخلايا. وقد فطن إبراهيم الورّاق إلى قيمة هذا الشعاع الجوهري ودفئه. ففي البيت المهجور الذي آواه من بردٍ وآمَنَه من خوفٍ بعد طرده من شقته، وتقاسَمَ فيه المحبة واللقمة مع المشرّدين والمهمّشين واللصوص والشحّاذين من خرّيجي الملاجئ ومجهولي الأنساب، فاضت مشاعر الأبوة لديه تجاه الفتاة الصغيرة "ليلى"، التي وجدت فيه بدورها أباً حنوناً عوّضها حرمانها ودناءة أبويها اللذين ألقيا بها وليدة إلى الشارع، وخاطبها الورّاق في أوج المأساة وهما في البيت المتهدّم المليء بالقاذورات: "صحيح أن هذا العالم قاسٍ يا ليلى، لكن كما ترين، ها هو النور يتدفق من فتحة هذا الباب الصدئ؛ إنه الأمل".
ميراث الخسارات
مع تعدد الرواة والمحكيّ عنهم عبر الأجيال الزمنية، ومنهم الورّاق ووالده وأمه وجارته وليلى وصديقاتها من فتيات الملجأ والصحافية وغيرهم، ومع كثرة تقمّصات الورّاق التي استدعت شخصيات الروايات الشهيرة (سعيد مهران بطل "اللص والكلاب"، مصطفى سعيد بطل "موسم الهجرة إلى الشمال"، كوازيمودو بطل "أحدب نوتردام"، الدكتور زيفاكو...)، إلى جانب اليوميات والمذكرات والسرديات الاعترافية، تمكنت رواية "دفاتر الورّاق" من استيعاب جُملة من الوقائع والحكايات الغزيرة التي حملت في طياتها إسقاطات شتى وكوّنت صورة بانورامية لأزمات الواقع الحالي المتجذرة، غير المنفصلة بطبيعة الحال عن إرث الكوارث والانهزامات الماضوية: "عليكَ أن تصحو، أنتَ لستَ فريدرك هنري يتجهز للذهاب إلى الجبهة، أنت إبراهيم الوراق ابن الخسارات المتتالية"، على حدّ ما صاح صوت المجهول أو صوت الضمير مخاطباً الورّاق في الرواية.
بفداحة وجرأة ، لمست رواية "دفاتر الورّاق" الجراح الظاهرة والأوجاع الغائرة في جسد المدن العربية المتخاصمة مع معظم سكّانها من الفقراء والبسطاء والمقهورين في اللحظة الراهنة، وتلخصّت في المكان الروائي خرائط الوطن الكبير التي بدت كخرائب ولافتات للغياب وبوصلات للمتاهات. ترصّد جلال برجس؛ صاحب روايات "مقصلة الحالم" و"أفاعي النار" و"سيدات الحواس الخمس" و"حكايات المقهى العتيق" (رواية مشتركة)، في عمله الجديد "دفاتر الورّاق" عبر أقنعة الشخصيات الكثيرة كيف ظلّ تحقيق العدالة أمراً مستحيلاً منذ عهد أرسطو حتى يومنا هذا، وكيف لا يزال الفساد مستشرياً في سائر القطاعات والمجالات، ولا تزال العلاقة سيئة ومضطربة بين الأفراد والمؤسسات، والمصالح طاغية على كل شيء. وقد تحوّلت الأمور كلها إلى الأسوأ؛ فاختفت الثمار من الأشجار، وصار العالم "على مقربة من أن يُرقمن حتى الإنسان، ليضمن عدداً ممن لا نراهم أن يسير الجميع في طريق واحدة اختطّوها لنا".
أبرزت الرواية بحنكة فنية اختزالَ الوجود الضاري في هيئة حلبة مصارعة شرسة، البقاء فيها للأقدر على توجيه الضربات القاضية إلى مَنْ يجاورونه بوصفهم خصوماً بالضرورة. وقد أوصلتْ هذه الميكانيكيةُ الخشنةُ إبراهيم الورّاق إلى الانهيار التام والسقوط النفسي، فبرر لذاته الإجرام تفادياً للموت منسحقاً، وأباح ليده "اللصوصية الشريفة"، على غرار سعيد مهران في "اللص والكلاب"، إحقاقاً للحق وتمرداً على سوء توزيع الثروات في مجتمع يلفظ المتعففين والشرفاء. وقد نالت حماقاته المستحدثة اهتمام الرأي العام بعد أن كان نسياً منسيّاً، وباتت أفعال "اللص المقنّع" حديث المدينة ومحور تعليقات وسائل التواصل الاجتماعي ليل نهار.
الجفاء والجفاف
في هذه الوقائع، وغيرها، لا توضح الرواية ما إذا كانت الأحداث حقيقية أم متخيلة، سواء من خلال حيلة تقمّص الورّاق للشخصيات الروائية الشهيرة، أو حالات الفصام النفسي التي تنتابه، أو شعوره بأن جنيناً ينمو في بطنه ويحرّضه على أن يكون شيطاناً، أو تماهي ما يجري من حوله من أحداث مع تدويناته الكابوسية التي يكتبها في دفتر المذكرات (واقعة موت أبيه مشنوقاً مثلاً، وهل هو الذي تسبب في قتله مثلما رأت جارته أم لا؟). وفي الأحوال كلها فإن حصيلة هذه العلاقات المضطربة المفتوحة التأويلات هي تخليق عالم موجع مضطرب، ينزّ جفاءً وجفافاً، ويدفع المنخرطين فيه إلى خوض الصراع الآدمي كالوحوش الضارية، أو القبول بحياة رخيصة كالموت (احتراف فتيات الملجأ الدعارة مثلاً كحل وحيد متاح للكسب)، أو التماس النجاة بمحاولات الانتحار، مرة تلو الأخرى؛ مثل الورّاق والسيدة النونية الغامضة "ناردا" التي عشقها في ظروف عجائبية، واكتشف لاحقاً أنها طليقة أبيه الراحل، فاكتملت دائرة الجنون.
لم يُجْدِ التحايلُ نفعاً في تغيير ناموس الطبيعة، مثلما أن فتاة الملجأ ليلى لم يُنجها من التحرّش تنكرها في ملابس الذكور، فكشفتها العيونُ النهمةُ المتجبرة، وتحسستها الأيدي الباطشة التي لا تفرّق بين ولد وبنت. إنه العصر الحديث، الذي تنقل ملامحه رواية "دفاتر الورّاق"، وتتفقد مخترعاته وتطبيقاته كالإنترنت وصفحات السوشيال ميديا وغيرها مما يجيد إبراهيم الورّاق التعامل معه. لكن "سيد الحلول المؤقتة" يبقى غريباً منفيّاً في ذاته، يحتمي بأصله الطيني الضائع، وخميرته الشعرية الخصيبة التي لم يبقَ منها لديه سوى تغريدات و"بوستات" ينثرها إلكترونيّاً بين حين وآخر لكي يتنفس: "في البرد تسقط أحلام الوحيد إلا صورة الحضن الدافئ. الحرارة تطرد الماء من الأشياء بحجة التبخر فينتصر الجفاف، والبرد يجلب أمنيات العصافير بمزيد من القش لتحافظ على أعشاشها. ها أنا الآن وجهاً إلى وجه مع سكاكين العراء الحادة، لستُ حزيناً، لستُ خائفاً، لكني أحتاجكِ جدّاً".