يعرف الناس جميعاً أن "مقدمة" إبن خلدون التي تعتبر الكتاب الأشهر وربما الأكثر حداثة في التراث العربي على الإطلاق، إنما جاءت بعنوانها من كونها مقدمة لكتاب آخر. ويعرف كثر بالطبع أن هذا الكتاب الآخر هو "كتاب العبر..." وأن هذا العنوان إنما هو المختصر العملي للعنوان الكامل الذي يواصل على النحو التالي "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر". والحقيقة أنه إذا كانت سيرة ابن خلدون تقول لنا إنه اعتكف ذات حين في قلعة إبن سلامة بين تونس والجزائر الحاليتين، ليكتب تجاربه في السياسة وفهمه للتاريخ ما أنتج بشكل خاص تلك "المقدمة" التي ستنال شهرة واسعة بعد قرون من ذلك، فإنه كتب كذلك خلال ذلك الاعتكاف جزءاً أساسياً من النص التاريخي الذي لم تكن "المقدمة" سوى مدخله، بينما سيستكمل لاحقاً في المشرق العربي ولا سيما عند إقامته في مصر، أجزاء ذلك الكتاب، متوسعاً في سرد أحداث التاريخ العالمي بعدما كان الهدف أول الأمر، خلال مرحلة القلعة، كتابة تاريخ الشعبين اللذين يتألف منهما سكان المغرب العربي الكبير والأندلس، البربر والعرب. ومن هنا راح تاريخه العالمي يكبر ويتوسع بحيث تجاوز رغبته الأولى في الانطلاق من تجاربه الخاصة.
ناقد قاسٍ للسابقين عليه
لكن الحكاية لا تقتصر على هذا، هي في مكان آخر تماماً. ولنبدأها من مكان محدد. من تلقي القراء لعمل إبن خلدون هذا. وهو تلقٍ يقول لنا على الفور إن عدد قراء "المقدمة" على مر العصور يبلغ عشرات أضعاف عدد قراء الكتاب الذي تقدّم له. بل يمكننا القول ليس فقط إن "المقدمة" قد راحت تستقل بذاتها مع الوقت بحيث تشكل نصاً منهجياً يبحث وربما لمرة نادرة في تاريخ تلك الأزمنة في علم التاريخ وامتداداً في علم العمران بشكل سيكون ثمة دائماً من يقول إن إبن خلدون سبق فيه كونت وماركس وحتى توينبي، بل إن تلك "المقدمة" طلعت من بين يدي كاتبها شيئاً آخر تماماً غير النصّ التاريخي الطويل. بل مناقضة له وتحديداً في مجال تعامل المؤلف مع فهمه الخاص للتاريخ وكيف يُكتب.
الحال أن إبن خلدون، وعلى طريقة كبار العلماء الذين يتطلعون إلى بناء ما هو جديد في العلم الذي يتناولونه، بدأ منذ الصفحات الأولى لـ"المقدمة" يستعرض مناهج وكتابات عدد لا بأس به من المؤرخين الذين سبقوه. وهو لئن كان قد أثنى على بعضهم، من أمثال المسعودي في "مروج الذهب" أو الطبري في "تاريخه"، فإنه أخذ عليهم جميعاً، سواء اعتبرهم من الجيّدين أو الأقل جودة، فهمهم التقليدي للتاريخ واكتفاءهم بسرد أحداثه بحيث أن تواريخهم حتى وإن كانت "أكبر من أن تُنكر"، تكمن المشكلة معهم في أنهم تلقوا "الأخبار بناء على روايات استقرت في تواريخهم ولم تعد في حاجة إلى أن تسندها أسانيد". بمعنى أن السلطة المعنوية لهؤلاء الأئمة باتت كافية في نظرهم لضمان صحة أخبارهم فـ"نُسيت أصول الأخبار ولم تعد هناك حاجة إلى معاودة البحث عنها". وهكذا، كما يرى إبن خلدون "استقر الخطأ ابتداء من أئمة التاريخ أنفسهم وصار يُتناقل عبر أجيال المؤرخين".
لكن التاريخ شيء آخر
أما بالنسبة إلى صاحب المقدمة فإن التاريخ شيء آخر، هو علم بالمعنى الكامل للكلمة. واحترامه للمؤرخين الذين سبقوه لم يمنعه من لومهم فيها في معرض مطالبته التاريخ بأن يكون شيئاً آخر. وما المقدمة من ألفها إلى يائها سوى شرح لكيفية أن يكون ذلك الشيء الآخر. وكيف يجب أن يخرج التاريخ من الحلقة المفرغة التي وُضع فيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على هذا الأساس بات يحق للقارئ بطبيعة الحال أن يتوقع من إبن خلدون، حين انطلق من حيّز التقعيد والتنظير إلى حيز الممارسة الفعلية لكتابة التاريخ، أن يلتزم بالقواعد التي وضعها بنفسه. فهل أتى الأمر على ذلك النحو في الأجزاء العديدة التي يتألف منها "كتاب العبر"؟ على الإطلاق. لقد بدا هذا الكتاب منقطعاً تماماً عما مهّد له. بدا شبيهاً تماماً بكتب التاريخ التي لم يتورع المؤلف عن انتقادها. وبدا ملتزماً حرفياً بالمناهج السردية التي أدانها المؤلف في بحثه النظري. فإذا كان مؤرخنا الكبير قد أخذ على سابقيه "عدم التزام الموضوعية" عبثاً سنبحث عنها في "كتاب العبر"، وإذا كان اتهمهم بـ"عدم مراعاة قوانين الطبيعة" عبثاً نبحث لديه عن تلك المراعاة، والشيء نفسه يقال عن مسألة "الجهل بقوانين العمران" و"الذهول عن تحري الأغراض من التاريخ". وإذا كان إبن خلدون يدعو في "المقدمة"، المؤرخ إلى "ألّا ينقل عن المؤرخين الذين سبقوه ما كتبوه حرفاً بحرف فينزع هكذا إلى تقليدهم من دون الانتباه إلى الاهتمامات التي كانت تشغلهم والظروف التي وجهتهم أثناء انتقائهم للأحداث التاريخية... بل عليه أن يراعي أكثر مشاغل عصره هو واهتمامات معاصريه، حتى يقدم لهم عن الماضي ما يروي ظمأهم ويعينهم على فهم الحاضر ومشاكله" بحسب تبسيط محمد عابد الجابري الحاذق، فإنه هو لم يفعل أي شيء من ذلك.
ومع ذلك تبقى لـ"كتاب العبر" قيمته الخاصة، ليس بكونه امتداداً لـ"المقدمة"، بل بوصفه يشكل ذروة ما وصل إليه الفهم العربي لكتابة التاريخ في ذلك الزمن، شرط أن نكون قد وضعنا جانباً لدى قراءته كل تلك الأطروحات الرائعة التي جاء بها مؤلفه تمهيداً له.
"الأتراك مدمّرو العمران"
في نهاية الأمر لدينا هنا كتاب يتألف من سبعة أجزاء إضافة إلى "المقدمة" التي اعتبرت دائماً جزءاً أوّلَ له. أما الجزء السابع فيضم الفهارس. فيما تضم الأجزاء الباقية خليطاً من التواريخ التي يلفت النظر فيها تقسيم إبن خلدون لها إلى أقسام يرتبط بعضها مثلاً بتوليه القضاء في مصر فيما يرتبط جزء آخر بتواريخ مختلف الشعوب التي تجاور الشعوب العربية والبربرية وما إلى ذلك. ومنها الشعوب التركية والفارسية والرومية وغيرها. ولعل من المفيد هنا أن ننظر- على سبيل المثال كنموذج للتناول الخلدوني غير الخلدوني بالطبع إلى التاريخ - وصفه للأتراك. فإذا كان الأتراك هم من بين المسلمين أول من اكتشف الكتابات الخلدونية عند نهايات القرن التاسع عشر، لا شك في أنهم ما كانوا سيرضون عنه لو أنهم قرأوا ماكتبه في الجزء المكرس للترك في "كتاب العبر". فالصورة التي يوردها إبن خلدون للأتراك هي صورة "شعب مدمّر للعمران" ويقول الباحث المغربي د. علي أومليل عن نظرة إبن خلدون هذه: "هذه الخاصية وإن كانت لدى ابن خلدون مشتركة بين شعوب البدو جميعها، فإنه قد أبرزها بالنسبة إلى الترك لأن الأمر يتعلق باجتياح هؤلاء للعالم الإسلامي وتحطيم مركز وحدته بغداد". ويضيف أومليل "أما على المستوى التاريخي فإن قوة الترك لا تعدلها إلا قوة العرب فالأمتان تتقاسمان الهيمنة على العالم: العرب في جنوب الأرض والترك في شمالها، وعنده أن هاتين القوتين تتواجهان عبر التاريخ، وكل واحدة منهما تتداول هيمنتها على العالم على حساب الأخرى، فمرة يدفع العرب فيتراجع الترك نحو الشمال وتارة يزحف الترك لغزو الجنوب".
ونحن لئن كنا قد اخترنا هذا المثال المتعلق بالعلاقة العربية مع الأتراك في الزمن الذي كتب فيه إبن خلدون "كتاب العبر" تالياً على كتابته المقدمة، ثم بالنسبة إلى هذا الجزء، تالياً على وصوله إلى المشرق وربما أيضاً على ذلك اللقاء الشهير الذي كان له مع تيمورلنك انطلاقاً من دمشق، فإنما لكي نؤكد الهوة العميقة التي تفصل عالم الاجتماع العبقري الذي كتب "المقدمة" عن المؤرخ المجتهد بل المؤدلج الذي دبج ألوف الصفحات في كتابة تاريخ لا يمت بصلة إلى إبداعات ذلك العالم.