بعد أربع ساعات انتظار عند دوار تشيزيك Chiswick غرب لندن، شعرت أن خطتي الهادفة إلى تجربة التنقل بواسطة الـ"أوتوستوب" في زمن الجائحة قد فشلت قبل بدايتها. وكنت قرأت عن هذه النقطة، الواقعة عند دوار تشيزيك، على موقع إلكتروني اسمه "إيتشويكي" Hitchwiki، وهو يمثل مصدراً للمعلومات القيمة بالنسبة إلى رواد الـ"أوتوستوب" والتنقل المجاني الحر، خصوصاً عندما ينطلق هؤلاء من مدن رئيسة كبرى. ويسهم أفراد من مختلف أنحاء العالم بمد الموقع المذكور بالمعلومات، مثل أوقات الانتظار في مواضع معينة، ونصائح وتعليمات حول الأمان وأسلوب الإشارات المعتمدة للفت انتباه السائقين، وغيرها من التوجيهات العامة التي تساعد المتنقلين في الحصول على رحلة "أوتوستوب".
بيد أن ما حصل خلال وقوفي في الموضع الذي قررت انتظار سيارتي الأولى فيه، تمثل بتعطل شاحنة صغيرة ووقوفها في المكان. فكان علي حينئذ الانتقال إلى نقطة توقف الحافلات. وما تلقيته من السائقين العابرين بسياراتهم وأنا واقف أنتظر، كان شتائم أكثر منه ابتسامات. ثم عند الساعة الثالثة بدأ هطول المطر.
لم تكن البداية موفقة. إلا أنني عندما عدت إلى هناك في صباح اليوم التالي، حظيت بالـ"أوتوستوب" الأول مع – جوناثان – بعد انتظار ساعة واحدة فقط. كان جوناثان ذاهباً للمشاركة في مراسيم دفن بمدينة بريستول، وهو لم يشأ الإفصاح عن اسمه الكامل، كونه كان قد عاد للتو من فرنسا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قال لي بالخصوص، "من المفترض أن أكون الآن في الحجر المنزلي (الصحي)، لكن أخي توفي، وأنت تعرف هذا الظرف".
أجل أعرف. فأنا أفهم كم يغدو الحجر الذاتي صعباً على الناس حين يُعاينون أعداد الأشخاص المستخفين بتدابير المباعدة الاجتماعية في الحانات والمحلات التجارية، وفي وسائل النقل المشترك، والتظاهرات.
وكان الـ"أوتوستوب" وتقاسم الرحلات بين الأشخاص داخل نفس السيارة قد تم حظره مؤقتاً في المملكة المتحدة بسبب الجائحة، بيد أن قيود الحظر خُففت منذ ذلك الوقت.
ومازالت الحكومة البريطانية توجه نصائحها إلى المواطنين، فتدعوهم إلى "عدم الصعود في سيارة واحدة مع أشخاص لا يشاركونهم السكن، أو أشخاص خارج محيط الجيران". إلا أن الحكومة تقترح على الناس أيضاً بعض السبل التي تجعل من ذلك الأمر أكثر أماناً إن اضطروا إلى اللجوء إليه، كإبقاء نوافذ السيارة مفتوحة للحفاظ على التهوئة، وارتداء كمامات الوجه، وحصر التنقل مع نفس مجموعة الأشخاص في كل رحلة بالسيارة. في الواقع، ما عدا هذه النصيحة الأخيرة، فإن التدابير المقترحة هنا تشبه إلى حد كبير ما يُقترح التزامه في سيارات التاكسي.
وأنا شخصياً لم أكن خائفاً من التقاط الفيروس، لكني كنت أرتدي كمامة، واستخدمت معقم اليدين للحيلولة دون نشر الفيروس من دون قصد. وفي حالة عدم وجود ركاب آخرين، كنت أجلس في المقعد الأمامي، حيث أن المسافة الفاصلة بين المقاعد في معظم السيارات تبلغ قرابة المتر. وخلال عملية "أوتوستوب"، كنت أسحب الكمامة عن وجهي كي أُظهر ابتسامتي. على أنني أقر هنا أنه، ومع جميع السائقين الذين صعدت في سياراتهم، كان ثمة شيء من الخوف، فقد نسيت لمرتين أو ثلاث إعادة الكمامة إلى وجهي عند صعود السيارة، غير أنني سرعان ما كنت أتدارك الأمر وأصححه.
أنزلني جوناثان في طريق متفرع يؤدي إلى الطريق السريع M5، وهناك بعد انتظار لم يتجاوز عشر دقائق، استقبلني كارل ميد في شاحنته الكبيرة المخصصة لنقل البضائع. في العادة، سائقو تلك الشاحنات لا يتوقفون لأي أحد، لأن شركات النقل التي توظفهم وشركات التأمين لا تسمح بهكذا أمور. لكن كارل قال إن شركته لا تمانع، "باستثناء عندما ينقل بضائع نفيسة". وأضاف قائلاً" ما أتممت نقله كان حمولة مشروب البرتقال والفواكه لا شيء مهم. والشاحنة الآن فارغة على كل حال".
كانت حركة المرور كثيفة وحافلة بالسياح الذاهبين نحو كورنوال لقضاء يومي السبت والأحد ضمن العطلة العامة، غير مبالين بما توقعته الأرصاد الجوية من عواصف وأمطار. نزلت من شاحنة جوناثان عند محطة "سيدغيمور للخدمات" Sedgemoor Services، وبعد عشر دقائق انتظار لا أكثر، حظيت بـ"أوتوستوب" آخر مع سايمون ديكسون، الذي يعمل كهربائياً، وقد انتقل للعيش بمنطقة الجنوب الغربي منذ 15 عاماً. "كورنوال عنوان المساواة"، قال لي ديكسون. "تأتي إلى هنا لقضاء فصل الشتاء، فتتأقلم مع الأجواء. فالعيش هنا منحني القوة". وتلك كانت زيارته الأولى للمنطقة منذ عام، إذ كان يعيش مع عائلته في مدينة إقامته، بيرمينغهام، وحين ظهرت الجائحة، اضطر إلى اعتماد أسلوب عيش جامد غير مريح.
خلال السنوات الماضية كان يقضي الصيف قرب الشاطئ في شاحنته الصغيرة الصفراء من نوع مرسيدس، التي يتناقض تماماً مظهرها الخارجي المغبر مع داخلها الحميم، الحافل بديكورات الخشب المعد خصيصاً للإقامة المتنقلة. وقد زُودت الشاحنة بسرير مزدوج صغير، وفرن للطهو محاط برفوف، وأدراج وصناديق للمدخرات. أما المقعد المحاذي للسائق، الذي جيء به من حافلة قديمة لنقل الركاب، فقد جرى توجيهه نحو مؤخرة الشاحنة. وفي نفس السياق، قال لي مصارحاً، "كنت أفكر بتركيب جهاز للتدفئة هنا، لكن أعتقد أنها السنة الأخيرة لهذه الشاحنة"، . فعداد المسافات المستهلكة في لوحة القيادة يُشير إلى 220 ألف ميل، وفي كل مرة يدير سايمون المحرك كان عليه الكبس برفق على دواسة البنزين. وعند فضاء استراحة للسيارات قرب هايلي، توقفنا لاحتساء الشاي، والتدخين، وتبادل الأغاني، والعزف على الغيتار الإسباني الذي يملكه سايمون. كان قد حصل على غيتاره هذه من الأندلس التي قصدها "لأسبوعين في البداية وانتهى مقيماً فيها لثلاثة أشهر".
مع حلول الليل هطلت نوبات من المطر الغزير الآتي من المحيط الأطلسي. وحين توقف المطر قادني سايمون إلى موضع يمكنني نصب خيمتي فيه، فوق كثبان الرمل المطلة على خليج سينت أيف. جلت سائراً على الأقدام على مدى اليومين التاليين في أجزاء من المسار البحري عند ساحل الجنوب الغربي، متوقفاً بين الفينة والأخرى عند الأطراف الغربية لشبه الجزيرة، ناصباً خيمتي في البراري المحاذية للبحر. وفي اليوم الذي أردته أن يكون يومي الأخير هناك، انطلقت من منطقة لاندز أند. وكنت في الليلة الفائتة شاهدت السماء تنفجر بالألوان خلال أحد أكثر مشاهد غروب الشمس روعة التي شهدتها في حياتي. ومن بلدة سينين Sennen، صعدت "أتوستوب" مع سيسيل براون وكلبيها السيبيريين، جوني وتيلي، وهما من فصيل "كورجي" المتخصص بعمليات الإنقاذ. وأعادتني سيسيل إلى سايمون كي أذهب معه إلى بيرمينغهام. ومع حلول الليل كنت غدوت في محطة الخدمات والاستراحة قرب بريستول.
يغدو الـ"أوتوستوب" أكثر صعوبة بعد حلول الظلام، إذ يصبح الناس متعبين في أواخر رحلاتهم، كما يصبحون أكثر احتراساً. لذا قمت بنصب خيمتي في موضع شجري تتوقف فيه شاحنات النقل للاستراحة. وقد لزمتني في الصباح التالي نقلتا "أوتوستوب" للوصول إلى وجهتي، محطة يوستن Euston، وذلك بعد انتظار دام 30 و15 دقيقة تباعاً.
لم أر في رحلتي تلك، التي بلغت 600 ميل قطعتها في خمسة أيام، أي دليل يشير إلى ازدياد الـ"أوتوستوب" صعوبة مقارنة مع فترة ما قبل الجائحة. بل إن الـ"أوتوستوب" في الحقيقة، في بعض الحالات، يبقى أسرع من النقل العمومي. إذ في كورنوال، حيث تنطلق الحافلات كل ساعتين تقريباً، كنت أنتظر أقل من عشر دقائق للحصول على سيارة تقلني. إضافة إلى ذلك، فمازال الـ"أوتوستوب" وسيلة التنقل والسفر الأقل كلفة والأكثر استدامة، وهو يبقى كذلك الطريقة الأمثل للتعرف إلى أشخاص جدد.
في عصرنا هذا، عصر الانقسام السياسي ووابل الأخبار الذي لا يتوقف، بات الـ"أوتوستوب" أكثر أهمية من أي وقت مضى.
© The Independent