"لا يصلح العطار ما أفسده الدهر" هذه المقولة القديمة قد لا تصلح بعد أن أصبح "العطار" يصلح كل شيء، فمع تقدم وتنوع التقنيات التجميلية طبياً ومستحضرات التجميل، بات من الصعب أحياناً تحديد أعمار الناس، وصبغ الشعر ليس أمراً حديثاً، فكان قد انتشر في مصر القديمة قبل أكثر من 3000 سنة، حيث صبغت النساء شعورهن بألوان مختلفة من الأحمر والأصفر والأزرق والأخضر.
واستخدم الذهب والليمون الحامض والحناء والرماد والنباتات المحروقة والعلق، وكانت بعض الخلطات تحوي مواد سامة وخطرة في الحضارات القديمة لتغيير لون الشعر الأصلي أو لتغطية الشيب، وعلى الرغم من المحاولات عبر العصور لابتكار صبغة مناسبة، فإن عام 1907 كان نقطة مفصلية بعد أن صنع الكيميائي الفرنسي يوجين شويلز أول صبغة تجارية.
وفي حين كان الهدف تغطية الشعر الأبيض إلا أن عام 1931 كان مفاجئاً في التوصل إلى صبغة الشعر باللون البلاتيني الأبيض، والذي أصبح رائجاً في ما بعد خصوصاً بعد أن استخدمته أيقونة الإثارة مارلين مونرو، وأصبح مرغوباً جداً، ومنذ سنوات، عاد إلى واجهة الموضة بألوان البلاتين والرمادي بمشتقاته والفضي ليغزو الرؤوس الشابة.
الأبيض لعمر الشباب
ويرى مصفف الشعر اللبناني راني المصري أنه في عمر الشباب تلجأ السيدات لتفتيح الشعر إلى درجة البلاتين الأبيض أو الفضي، خصوصاً أولئك اللواتي يعملن على تسمير بشراتهن في الصيف أو من خلال الـ"سولاريوم"، فيعطيهن هذا اللون إشراقاً وجاذبية، أما مع تقدم العمر وعندما يصبح الشعر الأبيض أمراً واقعاً، تحرص السيدات على إيجاد الحلول بالتخلص منه إما بتلوينه كاملاً أو من خلال إضافة الخصلات البلاتينية لأنه مؤشر إلى التقدم في العمر، ويقول إنه في عمر الشباب، وليكون الشيب جميلاً، يجب أن يغطي من 40 إلى 50 في المئة من الشعر، وهكذا يلجأ البعض لخصل البلاتين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي السياق ذاته، يعتبر المصفف والمزين طوني الأسمر أن بعض السيدات يقبلن الشيب في فترة الحجر المنزلي، وأن منهن من تركنه حتى يغزو الشعر في هذه الفترة، وأبقين عليه بقصه وترتيبه لاحقاً، ومع هذا لا يظن أبداً أنها قد تصبح موضة، إذ برأيه لا يوجد أكثر من 20 في المئة من الناس قد يتقبلونه لا سيما مع التقدم بالعمر، في حين تتقبله الصبايا أكثر.
لون الشعر أثناء الحجر
ولكن ماذا حصل لمن يصبغن شعرهن دائماً عندما أقفلت صالونات التجميل؟
يذكر طوني الأسمر أنه في فترة الحجر كان يخلط الصبغة لبعض الزبونات اللواتي يأتين ويأخذنها ويصبغن في المنزل، وأخريات يأخذن أنابيب الصبغة من عنده، وغيرهن يسألنه عن بدائل من ماركات أخرى وبأي درجة أو رقم، ويخبر أن بعضهن أحببن الشيب لكنهن لم يستطعن الانتظار ليطول الشعر ويقصنه ليصبح كله أبيض أو موشحاً بالبياض، والبعض منهن يطلبن أن يكون "البالياج" (الخصل الفاتحة) بلون بلاتيني قوي جداً حتى يستطعن تركه ولكنهن قليلات، ويشير إلى أن الشيب أو اللون الأبيض والبلاتين يحتاج للتصفيف دائماً حتى يبدو مرتباً وإلا بدت السيدة كبيرة في السن.
ويخبر راني المصري أنه منذ سنوات عدة بدأت موضة الشعر الرمادي والألوان القريبة من الأبيض مثل الزيتي والفضي، ويشير إلى أنه منذ نحو سنتين أو أكثر أصبح الناس يتقبلون الشعر الأبيض، ويتوقع أن نصل إلى مرحلة تطلب فيها السيدات الشعر الأبيض الفضي، ومع الخريف يبدأ تغميق لون الشعر درجتين أو ثلاثة، والرائج لهذا العام هو الألوان الدافئة من البيج إلى الشوكولاته، مع تقنية الأومبريه ( (ombreأو (تدرج الألوان) فيبقى أساس الشعر كما هو، ويخصل ويفتح اللون بحسب لون البشرة والعيون، وهكذا تستطيع السيدة أن تبقى لمدة ثلاثة إلى خمسة أشهر من دون صبغ، وهو عملي أكثر للصبية واستهلاك أقل لصحة الشعر ويعطي مظهراً حيوياً، ويحتاج إلى تصفيف وحمامات زيت.
واشتاقت الصبايا للذهاب إلى صالونات التزيين بعد أن عمد بعضهن إلى الصبغة في المنزل "وصار علينا إصلاح ما أفسدنه في أول فترة بعد الحجر".
زاد اهتمامي
وتقول ربى جرادي إن الأزمات المتتالية التي طرأت على البلد والبقاء في المنزل جعلاها تفكر في إنجاز ما هو عالق بشكل عام، كما أبقت على الاهتمام اليومي ببشرتها وشعرها ولم تتوقف عن الرياضة، وتقول إنه لم يحدث أن تركت الشيب يوماً، بل على العكس، حتى أنها أنجزت حمامات الزيت والاهتمام بالبشرة بشكل أكبر كأنها ستخرج كل يوم.
الشيب عنوان المرحلة
في حين تقول نهلا جبيبلي، 44 عاماً، إنها لطالما لونت شعرها بكل الألوان من الأحمر إلى الأشقر والبنفسجي والأخضر والأزرق والأصفر، وتضيف أنها منذ مارس (آذار) لم تزر مصفف الشعر خوفاً من التقاط كورونا، ولم تشعر برغبة في تلوين شعرها ولا إخفاء الشيب هذه المدة، وكانت قد قصته قصيراً قبل الحجر، وتترك نهلا شعرها يتحول إلى رمادي وتستمتع بشيبها كما تقول لأنها تشبه "شيبة" والدها وتقول إن الشيبة هي عنوان هذه المرحلة.
الحمل قام بالواجب
ساشا صافي، 42 عاماً، تقول إنها اضطرت لعدم تلوين شعرها بخصل "الهايلايت" كما اعتادت بسبب حملها وولادتها إذ فضلت عدم استخدام مادة الأمونياك الموجودة في هذه المستحضرات، وتعتبر أن العمل عن بعد جعلها مرتاحة إلى أن تترك شعرها من دون صباغة، لكنها تفكر بعد أن تستريح قليلاً أن تعود للاهتمام به وتلوينه، وشعر ساشا أصبح خصلاً سوداء وشقراء وبيضاء ممزوجة بطريقة جعلت الشيب غير طاغٍ على باقي الشعر فضاع بين الخصل.
الأبيض الجذاب
يجد محمد جابر أن الشيب الطبيعي جذاباً لدى المرأة والرجل، ويدل على نضج وخبرة حياة، وأنه ولو دل على التقدم في السن إلا أن له سحره الخاص، ومحمد ليس ضد صباغة الشعر إن لدى الرجل أو المرأة، ويعتبر أنه قد يحسن من الحالة النفسية عند البعض، لكنه شخصياً يرى الجمال في كل الأعمار كما يقول، ولا يحب الصباغة باللون البلاتيني الأبيض ويجدها مصطنعة جداً، ويقول إنه يطلب من زوجته ترك الشيب في شعرها لكنها لا تحب، فهي تصبغ الجذور كل أسبوعين، وفي فترة الحجر توقفت قليلاً، لكن الأمر أصابها بالاكتئاب، وشعرت أنها تبدو غير مرتبة، خصوصاً أن شعرها أسود حالك كما يوضح.
أسباب اقتصادية
كانت منال، 35 عاماً، تصبغ شعرها مرة كل شهر أو 20 يوماً لدى مصفف الشعر، لأنها غيرت لون شعرها للأحمر، وفي فترة كورونا والحجر بدأت تشتري أنابيب الصبغة بعد أن سألت مصففها عن الأرقام والدرجات، وتقول إن كل مزيني الشعر كانوا متعاونين كما تخبرها صديقاتها، وعلى الرغم من ذلك، لم يبدو الأمر أنيقاً في صبغة المنزل، ثم أصيبت بكآبة بعد أن خسرت عملها، وتوقفت عن تلوين شعرها لأربعة أشهر، وبعدها قصت شعرها قصيراً جداً، وقررت، أخيراً، أنها ستتركه حتى يصل الشيب إلى ما تحت أذنها وتقصه.
تضيف أنها كانت تدفع نحو 50 دولاراً أي 75 ألف ليرة لبنانية لدى المصفف، وأنه أصبح يأخذ الآن 100 ألف ليرة لبنانية، ما يعادل 13 دولاراً بعد ارتفاع سعر الدولار والأزمة الاقتصادية في لبنان، لكنها توقفت عن العمل وتفضل ألا تصرف المال على الصبغة.
الشيب هيبة أم قلق
يقال إنه قبل إعدامها، ابيض شعر ملكة فرنسا ماري أنطوانيت تماماً بليلة واحدة بسبب الخوف والتوتر، وأصبح الأمر يسمى "متلازمة ماري أنطوانيت"، وسببها ارتفاع في الإجهاد العاطفي، فيتراجع الجسم في إنتاج الميلانين المسؤول على لون الشعر لمواجهة الخطر بدفاعاته فتتوقف المادة الصبغية عن العمل، هذا التوتر يجهد الخلايا الجذعية في بصيلات الشعر. والأسباب التي تجعل الشعر يشيب في عمر مبكر تكون بمعظمها جينية، أو لنقص في بعض الفيتامينات، أو التدخين بشدة لأن النيكوتين يفقد الشعر لونه ورونقه.
ولطالما ارتبط الشيب في الأدب العربي بالحكمة والاحترام من جهة وبالشيخوخة وبقرب الأجل من جهة أخرى، ولطالما ألصق الوقار بالشيب كأنه رد تهمة، فقال الخليفة العباسي المستنجد بالله "عيرتني بالشيب وهو وقار، ليتها عيرت بما هو عار"، وغناها الفنان العراقي ناظم الغزالي.
وقال الشاعر العباسي دعبل بن علي الخزاعي "لا تعجبي يا سلم من رجل، ضحك المشيب برأسه فبكى... يا سلم ما بالشيب منقصة، لا سُوقة يبقي ولا ملكاً".
ومثله قال ابن نُباتة الشاعر المصري "وكيف لا يبكي على نفسه، مَن ضحك الشيب على ذقنه".
في حين سخر أبو نواس قائلاً "يقولون في الشيب الوقار لأهله وشيبي بحمد الله غير وقار".