هي من دون ريب واحدة من أقل مسرحيات سيّد الخشبة الإنجليزية شهرة. وهي لئن كانت تصنف في بعض الأحيان كواحدة من مسرحياته الرومانية إلى جانب "يوليوس قيصر" و"أنطونيو وكليوباترا" وغيرهما من الأعمال التي استقاها شكسبير من التاريخ الروماني، فإن كثراً من الباحثين والمفكرين يفضلون لها أن تُصنّف كواحدة من المسرحيات الفجائعية إلى جانب هاملت وماكبث، على اعتبار أن أحداثها مختلقة ولا سند تاريخياً لها. فشخصية تيتوس لم توجد أصلاً في التاريخ والأحداث التي ترويها المسرحية لم تحدث. بل إن الحقبة التي يموضع فيها الكاتب تلك الأحداث الفجائعية التي يملأ بها مسرحيته، كانت في الحقيقة واحدة من أكثر الحقب هدوءاً في التاريخ الروماني كما سوف نرى، ما يفرض علينا النظر إليها على أنها عمل متخيَّل ربما أراد منه شكسبير أن يرمز إلى أحداث أخرى أكثر ارتباطاً بزمنه، حتى وإن كان الباحثون قد عجزوا عن ربط الأحداث التي ترويها المسرحية بأية أحداث قد يكون شكسبير استوحاها.
ما يطلبه المتفرجون؟
بالتالي يرى خبراء في الفن الشكسبيري أن الكاتب قد يكون استجاب بها "إلى ما يطلبه المتفرجون" في مرحلة كان هؤلاء يُقبلون على المسرحيات التي تكثر فيها الجرائم وأعمال العنف وضروب الغدر والخبطات المسرحية. ومن الواضح أن شكسبير قد أوصل هذا كله إلى مستوى لا يُضاهى في مسرحية ربما تجد جذورها على أية حال في تلك الكتب التي كانت تصدر حاملة حكايات وأساطير مختلقة همّها الترفيه عن القراء، كما لدى بوكاشيو أو تشوسّر.
مهما يكن من أمر فإن الحقبة الزمنية التي يفترض شكسبير أن أحداث "تيتوس أندرونيكوس" قد حدثت فيها هي حقبة روما ما بعد بروتوس ويوليوس قيصر وأوفيد وذلك بالتحديد لأن الحاكم يلقب هنا بـ"قيصر" وهو لقب لم يكن له وجود قبل أولئك الثلاثة. ولقد كتب شكسبير المسرحية، بمساعدة جورج بيل على الأرجح، على مرحلتين فأنجزها مرة أولى عام 1584 ليعيد إنجازها بشكل معدّل في عام 1593. ولقد حققت المسرحية في التقديمين نجاحاً جماهيرياً كبيراً، لكن النقاد لم يحبّوها بخاصة لامتلائها بأحداث تكفي، كما قال واحد منهم، لعشر مسرحيات أقل طولاً منها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أحداث غير مفهومة
والحقيقة أن مصادر تلك المرحلة تفيدنا بأن المتفرجين أحبوا ما في المسرحية من عنف وجرائم تدور أمام أعينهم على الخشبة إنما من دون أن يتمكنوا من أن يستوعبوا بوضوح ما يجري أمامهم. فامتلاء المسرحية بالشخصيات الرئيسية والصراعات والقادة والأبناء والمطالبين بالعرش والزاهدين فيه والساعين إلى الانتقام والمنصرفين عنه، والفيسغوث مهزومين حيناً ومنتصرين حيناً، والرومان تائهين يبحثون عمن يحكمهم بين الحين والآخر، ناهيك بصراعات بين الإخوة والأبناء والآباء وكيد النساء، وحكايات الحب والخيانات الزوجية، وكلها تيمات نجدها تمتد على طول الفصول الخمسة الطويلة جداً التي تنقسم إليها المسرحية، كل هذا، إذ يدور منذ البداية من حول شخصية تيتوس آندرونيكوس القائد العسكري المحبوب إلى درجة أنه حين يعود من معركة ظافرة ضد الفيسغوث يجد نفسه مرشحاً ليكون قيصر الرومان، لكنه هو لا يريد ذلك المنصب بل يفضل أن يسنده إلى ساتورنينوس الابن الأكبر للقيصر السابق والذي كان تيتوس وعده بيد ابنته لافينيا.
عندما يأتي الغرام
لكن لافينيا تحب باسيانوس أخ ساتورنينوس ولا ترضى عنه بديلاً. ومن هنا تنطلق الحكاية التي سيكيد فيها كل واحد للآخرين فيما يقتل تيتوس واحداً من أولاده لوقوفه ضد لافينيا. وفي ذلك الوقت يكون ساتورنينوس قد بدأ يفضّل ملكة الفيسغوث الأسيرة تامورا على لافينيا، فيما راحت تامورا على سبيل الانتقام من تيتوس الذي أسرها، تغذي غيرة ساتورنينوس تجاه تيتوس وحقده الخفي بسبب فقدانه لافينيا. ومن هنا تنطلق سلسلة من المؤامرات والمناورات التي تصل إلى ذروتها في رحلة صيد يتم تنظيمها من قبل تيتوس الذي كان يعتقد أن كل هؤلاء الذين سيرافقونه في الرحلة محبّوه وأصدقاؤه الذين يمكنه بالتالي أن يتقرب منهم ويقربهم إليه كي يتعاون معهم على تنظيم شؤون الحكم. لكن كل واحد منهم في الحقيقة يريد الآن أن يستخدم رحلة الصيد للتخلص من الآخر ويكون هذا مرام تامورا بشكل خاص التي تنتهز فرصة الرحلة للإختلاء بعشيقها الأفريقي هارون الذي لا يعرف أحد أصلاً أنه عشيقها. وحين يكتشف باسيانوس ولافينيا خلال الرحلة علاقتهما تطلب تامورا من ولديها إسكاتهما فيقتل هؤلاء باسيانوس ويرمون جثته في بئر بينما يتمكنان من لافينيا ويقطعان لسانها ويديها.
أطفال يُستبدلون وأيد مقطوعة
كل هذا وما زلنا في منتصف المسرحية!
فالأحداث سوف تتتابع ولكن بوتيرة أكثر قسوة وجرائم أكثر هولاً... وبشكل بالكاد يمكن تصديقه، وصولاً حتى إلى إنجاب تامورا ولداً... أسود اللون من عشيقها هارون، فيما كان ساتورنينوس يعتقد أنها حامل منه. وإمعاناً في التآمر والكيد ترسل تامورا وليدها إلى هارون الذي... يقتل كل الشهود ويبدل الطفل بآخر أبيض يرسله إلى روما بزعم أنه هو الذي أنجبته تامورا. أما بالنسبة إلى تيتوس فإن كشف لافينيا عن اسمي ولدي تامورا اللذين قتلا حبيبها وقطعا يديها ولسانها، يجعله يدعي الجنون – كما سيفعل هاملت في مسرحيته! – لكي يتابع ما الذي يحصل حقاً. وبعد حين إذ تقام مأدبة على شرف مؤتمر صلح تدعو إليه تامورا بغية حل الأمور السياسية وهي واثقة من أن تيتوس مجنون فعلاً ولم يعد يشكل أي خطر سياسي عليها، تفاجأ بتيتوس ينتفض لقتل ولديها وتُصعق إذ تجده يهاجمها ليقتلها كما يقتل لافينيا، لكي يخفف من معاناتها هذه المرة، وهنا يقتل ساتورنينوس تيتوس ثم يهجم لوشيوس، ابن الإمبراطور السابق الذي كان تيتوس قد اختاره حاكماً وعاد منذ حين ليقضي على المتصارعين وينفرد بالسلطة، يهجم على ساتورنينوس ويرديه ثم يخرج إلى الشرفة ليخطب في الجمهور شارحاً ما حدث، في وقت كان قد تم القبض على هارون وحكم عليه بأن يموت جوعاً.
عودة جزئية بعد غياب
تلك هي الأحداث المتداخلة الصاخبة غير المعقولة والمزدحمة بالأشخاص التي صاغ لها شكسبير هذه المسرحية التي لو تفرسنا فيها حقاً لوجدنا في ثناياها تفاصيل كثيرة يمكننا أن نطالعها في العديد من مسرحيات أخرى لشكسبير: نجد فيها أشياء من "هاملت" ونجد "ماكبث" ونجد مشاهد يمكن إعادتها إلى العديد من مسرحيات التاريخ البريطاني المعاصر. وكأن شكسبير أراد هنا، في مرحلة ما من مساره الكتابي، أن يلخص بعض أبرز سمات ذلك المسار باختياره نتفاً من هنا وأخرى من هناك، جمعها وولّف بينها جاعلاً إياها تلخّص، وإن لم يكن بشكل واضح، تصوّره لمفاهيم السلطة والبطولة والعلاقات العائلية والطبيعة البشرية ناهيك عن صراعات الأجيال، والجشع والكراهية والخيانة. كل هذا، وكما قلنا قبل سطور يزحم هذه المسرحية التي بعد أن قُدّمت من قبل شكسبير وفرقته، غابت زمناً طويلاً إذ أعرض عنها المتفرجون والقراء معاً وبخاصة لكثرة ما فيها من ممارسات عنف وضروب انتقام يبدو في معظم الأحيان غير مبرر وغير منطقي.
ولقد غابت المسرحية قروناً عدة بحيث صار يحدث لها أن تُنسى حين مراجعة مسرح شكسبير. ولكن عند منتصف القرن العشرين وجدناها تعود إلى الظهور فجأة ويعود الاهتمام بها، وربما كنوع من الرد المتأخر على تزمت المرحلة الفكتورية التي غيّبتها تماماً في النسيان. ومع ذلك لا بد أن نقول إن تلك العودة لم تكن شاملة إذ ندر أن اهتمت فرقة من الفرق خلال العقود الماضية بالعودة إلى تقديمها. ومن هنا اكتفى الباحثون بدراستها تقنياً بل ربما بالاستناد إليها لدراسة حضور السياسة في المسرح الشكسبيري، في أفضل الأحوال!