بدأت الدول التي تريد أن تضطلع بدور فاعل في التوتر المتزايد بين اليونان وتركيا شرق البحر الأبيض المتوسط تنزل من المسرح بخطوات هادئة، بالطبع، كان حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا هو من أشعل فتيل هذه الأزمة.
بدأت أُولى بوادر الأزمة بتوقيع الرئيس رجب طيب أردوغان العام الماضي "مذكرة التفاهم بشأن الاختصاصات البحرية" و"اتفاقية التعاون الأمني والعسكري" مع حكومة الوفاق الوطني الليبية، ثم قام بتصعيد الأزمة عندما انتهك القوانين الدولية، بخاصة في مجال التنقيب عن الغاز بالبحر المتوسط. وأخيراً كان تهريب الأسلحة والذخيرة العسكرية من تركيا إلى ليبيا هو القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير.
أزعجت هذه الخطواتُ المستفزة من تركيا ليس اليونان فقط، بل أثارت حفيظة دول الاتحاد الأوروبي بأكملها، وعلى وجه الخصوص، أبدى حلف الناتو قلقه وشعر بضرورة تحذير تركيا عندما لاحظ أن الأخير يتخذ موقفاً موالياً لروسيا. وبالنسبة للاتحاد الأوروبي فإنه يخطط لعقد قمة نهاية سبتمبر (أيلول) الحالي، بسبب التوتر المتزايد بين تركيا واليونان حول التنقيب عن الغاز الطبيعي شرق البحر الأبيض المتوسط. وبدأ مسؤولو الاتحاد الأوروبي يلوحون باحتمال فرض عقوبات على تركيا إذا لم تغير مواقفها التي يعتبرونها "عدوانية".
وكان الرئيس أردوغان وقف في خط موازٍ لإيران، على حساب المخاطرة بعلاقاته مع العديد من الدول العربية، بخاصة السعودية ومصر، وها هو أيضاً خلال الأزمة اليونانية يخاطر هذه المرة بعلاقاته مع الاتحاد الأوروبي من خلال تبني الخطاب الروسي، وفي النتيجة دخلنا، نحن الأتراك، في صراع مع كثير من جيراننا في الوقت الحالي.
وإذا لم يتخل أردوغان عن هذا الأسلوب العدواني والخطاب الشعبوي "القومي" والأنشطة البحرية غير القانونية والتهديد بالحرب، ولم يجلس على طاولة المفاوضات، فإن خسائرنا في شرق البحر المتوسط ستكون أضعاف ما نكسبه بهذه الطريقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعندما قلت في مقال لي بداية الأزمة، "إن أردوغان يريد أزمة لا حرباً"، كان بعض أصدقائي الكُتَّاب يعارضونني في ذلك ويقولون، "لقد أعلن أردوغان الحرب بالفعل على اليونان"، فلم يمض أسبوعان فقط حتى أمر أردوغان بعودة سفينة "أُوروجْ رئيس"، التي أرسلها لإجراء أبحاث زلزالية شرق البحر المتوسط، في إطار هراء "الوطن الأزرق".
إذن ماذا كسبت تركيا من هذه الأزمة؟
سنرى الإجابة عن هذا السؤال نهاية الشهر الحالي أثناء الاجتماع الذي سيعقد بمبادرة حلف الناتو، وبالطبع، سيكون لقرار سحب السفينة انعكاس إيجابي على المفاوضات، ولكن السؤال المثير هو؛ هل تركيا فقط هي التي تثير التوتر في شرق المتوسط؟ بالطبع لا، فقد دخلت فرنسا أيضاً على الخط وبقوة.
واللافت للأنظار هو تحمس فرنسا البالغ في هذه القضية وتبنيها هذه النبرة الشديدة، بالإضافة إلى أنها لم تقف عند حدود المشادة الكلامية مع أردوغان، بل أجرت تدريبات مشتركة مع إيطاليا واليونان وجنوب قبرص في الأسابيع الماضية، وأرسلت في فترات مختلفة ثلاث فرطاقات، وخمس طائرات مقاتلة، ومروحية إلى جزيرة كريت اليونانية القريبة جداً من الأراضي التركية، وبطبيعة الحال قامت تركيا أيضاً بتحركات مماثلة حيث أجرت تدريبات عسكرية في المنطقة نفسها.
ومن المثير للاهتمام على الرغم من أن طرفي الأزمة هما، أثينا وأنقرة، ولكن باريس تتدخل في القضية بشدة، بل إن هذا الموقف الفرنسي بدأ يضر بدور الوساطة الألمانية، وهذا ما يجعلنا نفكر في أن للقضية أبعاداً أخرى غير المعلنة ويستدعي منا تحليلاً كالآتي:
إن الذي أعتقده هو أن باريس لم تزل راغبة في الحصول على حصة من كعكة "تسعير" الطاقة الصادرة دولياً، في حين أن المستفيد الأكبر من ذلك هي بريطانيا، علما بأن تحديد أسعار النفط يتم في معظمه بأسواق لندن، حيث يتم تسعير خام برنت، المستخرج من بحر الشمال هناك، ويستخدم كمعيار لتسعير النفط العالمي ويؤثر ذلك في العالم كله. وتُعتبر سوق لندن من أهم الأسواق في العالم، للأهمية الاستراتيجية لمعاملاتها في الأسواق المالية.
وهناك ارتباط مباشر بين سعر نفط برنت وسعر الغاز الطبيعي، وطالما استمر تسعير نفط برنت في لندن، فإن المملكة المتحدة ستتحكم في تحديد جزء كبير جداً من سعر الغاز الطبيعي أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، هناك ميزات أخرى لسوق لندن تجعلها سوقاً كبيرة في شتى المجالات.
ويمكن القول إن أي قطرة من النفط، وأيَّ متر مكعب من الغاز الطبيعي، يتم استخراجهما فإنما يتم تحديدها واختيارها ورسملة قيمتها في أسواق المملكة المتحدة، ولا تريد باريس أن يتم تسعير الطاقة التي ستخرج من شرق البحر المتوسط هي أيضاً في أسواق لندن؛ ولذلك تتعمد فرنسا في قولها، "نحن نقف وراء اليونان"، وتدلي بتصريحات لا تقل شدة عن تصريحات أردوغان.
إنها تتعمد في حدة التوتر لتقتطع لنفسها من لندن حصة ثمينة في هذه السوق، وتريد أن تجلس على الطاولة التي تجمع بين تركيا واليونان كممثل عن دولة فرنسا وليس الاتحاد الأوروبي. أما بالنسبة لبريطانيا فإنها لا تزال ملازمة للصمت ولم تعلن بعدُ موقفها ولا قرارها في هذه الأزمة، ولا أستبعدُ أن يوافِق الموقف التركي.
نعم، لقد صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قائلا، "إن مشكلتنا مع أردوغان وحكومته، وليس لدينا مشكلة مع الشعب التركي"، هذا صحيح، ولكن الخطأ هو توظيف هذا المستوى من التوتر في سبيل الحصول على حصة من مكاسب الطاقة.
والخلاصة أن الأزمة بين أنقرة وأثينا ليست عبارة عن مجرد ردة فعل على خرق الحدود، أو نزاع حول السيادة على الجُزر في بحر إيجة، بل إن للقضية بعداً آخر وهي مسألة تقاسم مكاسب الطاقة الدولية وتسعيرها ورسملتها، وسيناقش الناتو يومي 24 و25 سبتمبر مع الأطراف كيفية حل أزمة شرق البحر الأبيض المتوسط، وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن مثل هذه الأزمات المعقدة لن يكون لها جانب واحد فقط، ولن يكون لها حل واحد ومبكر.