كانوا في تلك الأمسية أكثر من خمسمئة ضيف تجمعوا في صالة بارامونت الضخمة وسط عاصمة السينما الأميركية ليشاهدوا واحداً من أضخم الأفلام التاريخية التي أنتجت حتى ذلك الحين. في الحقيقة إن مخرج الفيلم لم يكن مطمئناً على الرغم من ثقته بنفسه، فهو في مراجعة أخيرة للفيلم قبل يوم من ذلك العرض الأول الذي كان عليه أن يحدد مستقبل الفيلم، اكتشف بعض الهنات التي راح يصلي كي لا يتنبه إليها أحد. لكنهم تنبهوا في الحقيقة، لكن أياً منهم لم يبال. فالتصفيق الذي خصوا به الفيلم ما إن انتهى العرض كان نادراً في تاريخ ذلك النوع من العروض. وصيحات الإعجاب تعالت من كل مكان. فاسترخى المخرج في مقعده قبل أن ينتصب واقفاً ليحيي الجمهور محركاً ساعديه ومنحنياً على الطريقة الإيطالية، دون أن يسمع بطلة فيلمه تهمس لمن حولها: الحمد لله لم تبد ملابسي ثقيلة الوطأة إلى الحد الذي كان يمكنني تخيله، ودون أن يسمع كاتبي السيناريو يتندران بكيف تمكنا من كتابة سيناريو مقنع دون الاستعانة ولو لمرة في هذا النوع من السينما بنص شكسبير الشهير حول أنطونيو وكليوباترا. إزاء ذلك الاستقبال الذي لم يكن متوقعاً، أحس سيسيل ب. دي ميللي أنه كسب رهانه... مرة أخرى، للاحتفاظ بمكانته كواحد من أعظم السينمائيين في تاريخ السينما الهوليوودية.
شكراً كليوباترا! قال متمتماً قبل أن ينتظر أسبوعاً آخر ليجد عروض الفيلم تجتذب في أيام قليلة أكثر من مئة وعشرة آلاف متفرج. وقبل أن ينتظر نهاية ذلك العام 1934 ليجد نفس الفيلم يحتل المكانة الأولى بين أكثر الأفلام تحقيقاً للمداخيل. بعد ذلك هل كان مهماً أن ينسف النقاد الفيلم على طريقتهم؟
حكاية متشعبة
سيسيل ب. دي ميللي هو مخرج الفيلم طبعاً. وهو حين أقدم على ذلك العمل لم يكن واثقاً من النجاح، خاصة أن أفلاماً عديدة أخرى عن كليوباترا كانت حققت من قبل فيلمه فلم تلق نجاحاً، وهو لم يكن يعرف في ذلك الحين طبعاً أن أفلاماً أخرى كثيرة سوف تحقق عن تلك الملكة المصرية نفسها، منها واحد عام 1963 سيكون الأشهر بالتأكيد، من بطولة إليزابيث تايلور وريتشارد بورتون، يعتمد معظمها على مسرحية شكسبير، ستفشل بدورها، بل إن هذا الفيلم الأخير سيكون كارثياً، ويعتبر من أكثر الأفلام إخفاقاً في تاريخ السينما، ويرمي بمخرجه الكبير جوزف مانكفيتش إلى هامش الهامش.
فما الحكاية؟ يصعب الإتيان بجواب قاطع. المهم أن دي ميللي حقق معجزته الصغيرة وجعل لحكاية كليوباترا المتأرجحة بين عدة غراميات مع قادة الرومان، والضالعة في مؤامراتهم والتآمر ضدهم، والمتحركة بين الإسكندرية وروما، والمتنقلة من حال إلى حال ومن ضياع صحراوي إلى سؤدد في القصور، ومن عبودية ظالمة في سجادة، لفت فيها، إلى سجاد أحمر يفرش لها، جعل لتلك الحكاية فيلمها الذي كان سره الخفي على أي حال كونه جعل كليوباترا امرأة، أكثر منها ملكة. جعلها من ناحية رمزاً لكيد النساء، ومن ناحية ثانية رمزاً للجمال العابر القارات والأزمنة. فهل يمكننا القول إن السر إنما يكمن هنا؟
وأسس هوليوود بالصدفة
ربما... ولكن يبقى أن سيسيل ب. دي ميللي لم يكن مجرد عابر بالصدفة في مملكة السينما الهوليوودية، بل كان ويبقى الأشهر بين كبار صانعي أفلامها، هو الذي اشتهر بما أكده فيلم "كليوباترا" هذا، أي إبداعه في صنع الأفلام التاريخية إلى درجة أن فن السينما التاريخية نفسه قد ارتبط باسمه، حتى وإن كان النقاد والمؤرخون يرون أنه لئن كان الأشهر، فإنه أبداً لم يكن الأفضل في ذلك المجال. فهو، إذ أسهم في صنع مدرسة سينمائية تاريخية شهيرة، لم يكن على أي حال مبدعها الأكبر.
ولد سيسيل ب. دي ميللي عام 1881 في ولاية ماساتشوستس الأميركية، لأبوين من أصل إيطالي كانا يعملان في التمثيل المسرحي، فكان من الطبيعي له وهو الذي ربي منذ سنوات طفولته الأولى في الأجواء الفنية أن يكون اتجاهه فنياً بدوره؛ فتلقى دراساته العليا في الأكاديمية المسرحية في نيويورك وبدأ حياته العملية ممثلاً، ثم تحول إلى الإخراج المسرحي حين تولى إخراج أحد عروض مسرحية «هاملت» لشكسبير، ثم كتب العديد من المسرحيات. ومن المسرح انتقل إلى السينما في عام 1912 حين أسس مع جيمس لاسكي وصامويل غولدوين شركة إنتاج سينمائي هي نفسها التي تحولت بعد ذلك لتحمل اسم «بارامونت». بعد تأسيس الشركة انتقل سيسيل دي ميللي إلى كاليفورنيا حيث سيصور فيلمه الأول، وهناك راح يبحث عن أماكن للتصوير، فأعجبه المكان الذي تقوم عليه مزرعة بالقرب من لوس أنجليس، فاستأجر المزرعة... وكانت هي التي تحولت منذ ذلك الحين لتصبح عاصمة السينما الأميركية: هوليوود.
وهكذا كانت بداية دي ميللي هي هي بداية «بارامونت» وبداية هوليوود. وهذا ما جعل هذا الفنان يعتبر على الدوام حاذقاً ومنظماً أكثر منه مبدعاً. وهو سيؤكد ذلك في العديد من المشاريع التي سوف يخوضها، ولن تكون كلها مشاريع سينمائية فقط، بل إنه خاض العديد منها خارج إطار السينما، ومن ذلك أنه أسس ذات عام شركة طيران تولى رئاستها بين 1918 و1924، وكانت كبيرة النجاح في عهده. بيد أن هذه الجوانب لا تهمنا كثيراً في حياة صاحب «ملك الملوك» وغيره من الأفلام التاريخية. ما يهمنا من هذه الحياة، هنا، هو جانبها المتعلق بالسمعة التي اكتسبها دي ميللي بوصفه سيد السينما التاريخية الأميركية دون منازع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الهزل الغرائبي إلى التاريخ
في البداية اتجه دي ميللي إلى تحقيق سلسلة من الأفلام الهزلية الغرائبية التي كان يولي بطولة معظمها إلى الممثلة غلوريا سوانسون. غير أنه سرعان ما اكتشف ولع الجمهور العريض بسينما «الغرب الأميركي» والمغامرة والحركة، كما اكتشف ولع ذلك الجمهور بالسينما التاريخية، ولا سيما بفيلم «تعصب» الذي حققه غريفيت، فصاغ على مثاله فيلم «الوصايا العشر» الذي كان طريقه إلى الشهرة وأول محاولة منه لسلوك ذلك الدرب الذي أوصله، بعد سنوات، ليصبح صانع الأفلام التاريخية الأكبر في هوليوود. وتتالت أفلامه الكبرى «جان دارك» (1917) و«بحارة الغولف» (1924) و«ملك الملوك» (1927) الذي صور معظم مشاهده في مدينة القدس، وبعد خمسة أعوام منه حقق «علامة الصليب»، ثم «كليوباترا» الذي سيعتبر من أكثر أفلامه نجاحاً حتى ذلك الحين، وبعده كان «الصليبيون» (1935)، ثم «شمشوم ودليلة» (1948)، ثم «الوصايا العشر» في طبعة جديدة (حققه بين 1955 و1956)، وهذه الأفلام وغيرها اعتبرت، دائماً، مدرسة سينمائية قائمة في حد ذاتها، وكانت هي ما أتاح لسيسيل دي ميللي أن يعتبر عموداً من أعمدة هوليوود، وجعل المؤرخين والنقاد يغفرون له حتى سقطاته السياسية هو الذي اعتبر على الدوام رجعياً، وتجلت رجعيته بشكل خاص أيام الماكارثية، حيث كان من القسوة في وشايته على زملائه اليساريين المدانين، بحيث اضطر مخرج مثل جون فورد لأن يجابهه بعنف واحتقار، في حكاية مشهورة.
نظرة مثالية إلى التاريخ
تميزت أفلام دي ميللي بفخامتها الإنتاجية، وكانت تخفي نظرة مثالية للتاريخ، كما تميزت بحسن إدارة هذا المخرج لعدد من كبار الممثلين الهوليووديين، ولا سيما في الأفلام التي كان يبعد فيها عن التاريخ بعض الشيء، ومنها مثلاً فيلمه الأجمل والأفضل «تحت أكبر قبة في العالم» (1952)، وهو فيلم حققه عن عالم السيرك ولا يزال الأفضل من نوعه حتى الآن. إزاء إنتاجه الضخم والناجح كان من الطبيعي لسيسيل دي ميللي أن ينال العديد من الجوائز وضروب التكريم، كما أنه ظهر في فيلم «سانست بوليفار» لبيلي وايلدر في شخصيته الخاصة، هو الذي عشق هوليوود على الدوام، وكان من أكثر أساطينها إيماناً بالقيم والأساطير الأميركية رغم أصوله الإيطالية المتواضعة.