الثقافة هي أول ما ينهار في أزمنة الجوائح والأزمات في المدن العربية. فهذا الكائن الضعيف والهش والمنسوب إلى الكماليات لا يمكنه تحمّل الانهيارات الكبرى، وحين يصبح ما يسدّ رمق الجوع والعيش البسيط هو المطلب الأول لطالبي الثقافة السابقين. هذا طبيعي جداً، فكيف سيتمكّن المهموم بتفاصيل حياته اليومية المعيشية من سماع قصيدة أو زيارة معرض رسم أو مشاهدة فيلم سينما أو زيارة معرض كتاب أو مشاهدة مسرحية؟ وكيف الحال إذا كانت هذه النشاطات والفعاليات الثقافية قد اختفت تماماً؟ أولاً بسبب الحجر الصحي الكوروني، ثم بسبب الضائقة المالية الحادة، ثم بسبب الاختلالات الأمنية العظيمة التي أصابت واحدة تلو الأخرى، مدينة بيروت؟.
ماكينة ثقافية ميتة
هذا باختصار حال الثقافة والمثقفين في العاصمة اللبنانية الثكلى والجريحة التي تنازع كي تبقى على قيد الحياة لا أكثر. إنها تبدو كصحراء قاحلة على صعد كثيرة وعلى رأسها الصعيد الثقافي. فبيروت قبل جوائحها المتتالية التي تصلها تباعاً، كانت تحافظ على هوية ثقافية تتميّز بها بين العواصم العربية، هوية لا تصنعها المؤسسات الرسمية والحكومية، بل المبادرات الفردية من المثقفين والشعراء وأصحاب صالات العروض والجمعيات الثقافية الكثيرة التي نشأت وتنامت خلال العقد الأول من هذا القرن، وأسهمت المنافسة في ما بينها على تقديم الأفضل في العروض الحديثة والمعاصرة وما بعد المعاصرة (post modern)، وعلى رفع قيمة المادة الثقافية التي تقدّمها والتي لطالما جذبت إليها جمهوراً كبيراً من اللبنانيين المهتمين ومن الفنانين والمثقفين العرب والأجانب الذين تتم دعوتهم إلى بيروت للمشاركة في هذه الفعاليات. فازدهرت عروض التجهيز والتركيب والفيديو في جمعيات كـ"أشكال ألوان" و"بيروت دي سي" و"بيروت آرت سنتر" و"دار النمر" وغيرها. هذه الجمعيات لم تعد تجد جدوى بإقامة هذه العروض في مدينة مكلومة وعلى حافة التلاشي والموت. قد يقول قائل إن المآسي تنتج فنوناً أيضاً. بالطبع ولكن مآسي بيروت تنتج غضباً وثورة وربما أحلاماً بالهجرة والهروب، وكذلك فنوناً غاضبة وثورية كالرسم على الحيطان في وسط بيروت أو أغاني وقصائد تكتبها وتغنيها فرق من الشباب، ولكن هذه المنتجات الثقافية تبقى في "الأندرغراوند" ولم تصبح جزءًا من الماكينة الثقافية قبل أن تنطفئ محرّكاتها.
معارض، رسم، شعر
قبل سنتين من الآن، كان بإمكان زائر بيروت أو المقيم فيها أن يختار من بين مروحة واسعة من النشاطات الثقافية اليومية التي تقام في العاصمة اللبنانية. على سبيل المثال، معارض الرسم التي ازدهرت في غاليريهات الجميزة ومار مخايل القريبة من مرفأ بيروت، حين تلقّفت الصالات المنتقلة من شوارع بيروتية شهيرة كالحمراء وسط المدينة والأشرفية إلى هذين الشارعين، الرسامين السوريين الهاربين من المأساة السورية المديدة، في غاليري "أجيال" و"كاف" ومتحف سرسق ومعرض "بيروت آرت فير" وصالة "جانين ربيز" "وآرت أون 56" وغيرها. وهذه كلها إما تدمرت بسبب انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب)، أو تضرّرت ضرراً كبيراً. وقد تعرضت لوحات كثيرة كانت محفوظة في أقبية هذه الصالات للتلف، وجرح عدد من العاملين فيها، وتوفي جراء الانفجار أحد الناشطين في مجال العروض الصديق فراس الدحويش، الجندي المجهول الذي وقف وراء المعارض التي أقامتها "غاليري أجيال" ثم "غاليري صالح بركات"، على مدى عشرين عاماً.
القراءات الشعرية في الحانات والمقاهي توقفت نهائياً بدورها. كانت هذه القراءات مكاناً لتقديم الشعراء الشباب بهواجسهم الجديدة وصورهم الشعرية المعاصرة، ومنزلاً لشعراء لبنانيين وعرب من الأجيال المختلفة رجوعاً إلى جيل الرواد. وكانت بديلاً عن تعطيل معرض الكتاب الدولي، هذا التعطيل الذي أوقف صدور عدد كبير من المجموعات الشعرية التي كانت قيد النشر. وانشغل معظم الشعراء بالمشاركة في الثورة أو بالاستنكاف والانعزال أو باللجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي كوسائل أخيرة للتعبير والتنفيس عما يختلج في نفوسهم، خصوصاً في غياب الملاحق الثقافية عن الصحف اللبنانية التي كانت تزيّنها قبل أزمة الصحافة الورقية المندثرة والمتراجعة تراجعاً مهيباً يشبه تراجع دور بيروت الثقافي عموماً، وهذا التراجع كان سابقاً على الجوائح الأخيرة.
الأمر ذاته ينطبق على المسارح التي كادت تعود إلى الحياة قبل ظهور فيروس كورونا الذي أعادها إلى سباتها العميق ومنها مسرح المدينة ومسرح بيروت ومسرح دوار الشمس ومسرح مونو وغيرها. أما في ما يتعلق بعروض السينما، فهذه سقطت بالضربة القاتلة، أولاً بسبب إقفال بعضها نهائياً مع خروج المستثمرين العرب من السوق اللبنانية كما هي حال صالات فوكس لصاحبها رجل الأعمال الإماراتي ماجد الفطيم، أو بسبب حظر التجمعات بسبب كورونا ثم الضائقة المالية التي جعلت من زيارة صالات السينما إسرافاً.
فنون الثورة المجهضة
في هذه العتمة الصمّاء كانت فنون "ثورة 17 تشرين" تضيء شمعة. فمن الحشود خلال الأشهر الأولى للحراك، انطلقت الشعارات المغناة. ومن تلك الشعارات، ظهرت قبضة الثورة التي ارتفعت في الحدّ الفاصل بين بيروت الشرقية والغربية، وفي ساحات طرابلس وصيدا وبعلبك وصور والنبطية وقب الياس وغيرها من المناطق المحتجة. لكن قبضة الثورة البيروتية تم تدعيمها بمجسّم لطائر الفينيق شكّلته الفنانة والرسامة حياة ناظر، من أعمدة الخيم التي دمرت على أيدي المعتدين من قبل. ورفع مجسّم في مدينة النبطية مصنوع أيضاً من الحطام والركام، ومجسّما صور وبعلبك، وجميع هذه المجسّمات صنعت على أيدي فنانين محليين، منهم النحاتون والرسامون والعاملون في "التجهيز".
ورسم "الغرافيتي" كان له مجده "الثوري"، حين وجد فنانو الغرافيتي اللبنانيون متنفساً لهم في جدران الثورة بعدما كان ممنوعاً عليهم الرسم على أي جدار من دون الحصول على إذن من البلدية المعنية أو من القوى الأمنية.
انطلق الشباب برسم الغرافيتي من دون تردّد وكأنهم انفلتوا من أصفاد كانت تقيّدهم، وغطّت رسوم الغرافيتي ما اتفق على تسميته "حائط الثورة"، وهو جدار ضخم يحمي مقر الإسكوا التابع للأمم المتحدة. ولم تقتصر رسوم الغرافيتي على وسط بيروت، ففي مدينة طرابلس التي لم يتوقف أهلها عن التظاهر يومياً، تحوّل مبنى من طبقات عدة يشرف على ساحة النور، ساحة التظاهر المركزية، إلى لوحة عملاقة في الهواء الطلق. وعلى واجهة خلفية للمبنى، رسم الفنان الفلسطيني السوري غياث الروبي صورة كبيرة لشهيد الثورة علاء أبو فخر. ومن خلال حملات تبرعات متدرّجة أطلقها الفنان محمد الأبرش من حسابه في "فيسبوك"، رسم على الحائط ذاته بورتريه للشهيد حسين العطار، أضاء خلفيته السوداء بهالة فوسفورية.
لكن "الثورة" أُجهضت أيضاً، وتراجع فنانوها كل إلى عزلته أو هجرته أو في البحث عن عمل يدرّ بعض المال. وبقي نتاجهم وحيداً على الجدران يتأمل المدينة الغارقة في أحزانها، التي تناثر رماد "فينيقها الطائر" مع رماد شوارعها وأحيائها وبيوتها التراثية وحاناتها وصالاتها ومقاهيها ونفوس ناسها الملتهبة غضباً وأملاً خائباً، فما عاد بإمكانه القيامة من رماده وانطفأ ضوء منارتها بعدما كان نوره يصل إلى شواطىء حوض المتوسط شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً.