"المنطقة الميتة"، هي الرواية السادسة عشرة للروائي الأميركي ستيفن كينغ التي تصدرها الدار العربية للعلوم – ناشرون. والمنطقة الميتة هي بحسب الرواية ضررٌ يصيب جزءاً من دماغ بطل الرواية، يؤدي إلى تعطيل عمله، فيستيقظ جزءٌ آخر فيه يمنحه قدرات خارقة.
تقع الرواية في تمهيد وثلاثة أقسام وثمانية وعشرين فصلاً، وتنتظمها ثلاثة أسلاكٍ سردية متفاوتة الطول والأهمية. يتمحور كلٌ منها حول شخصية معينة، تجسد ظاهرة اجتماعية معينة، غريبة أو واقعية، فيتناول الأول القدرة الخارقة على معرفة الماضي والمستقبل، ويتناول الثاني آليات التسلق السلطوي، ويتناول الثالث ظاهرة القتل المحترف. وتجري الأحداث في العقد السابع من القرن الماضي، في ولاية نيوهامبشاير الأميركية. على أن الأسلاك الثلاثة تختلف في ما بينها في نقاط الابتداء والتقاطع والانتهاء، وتتفق في أن كلاً من الشخوص التي تتمحور حولها يعاني عطباً ما، وتترتب عليه سلوكيات محددة، تُفضي إلى نتائج معينة.
ثلاثة أسلاك
السلك الأول في الرواية هو الأطول، يبدأ بالتمهيد، وينتهي في الفصل الثامن والعشرين والأخير، ويتخلله تغيب طفيف عن بعض الفصول. يتمحور حول شخصية جوني سميث، المولود لأبٍ عقلانيٍ وأمٍ غيبية، في بلدة باونال. يقوم بالتدريس في ثانوية كليفز ميلز حيث يرتبط بعلاقة زمالة مع سارة براكنَل، تتطور إلى علاقة حبٍ تحول تطورات معينة دون أن تؤتي ثمارها المرجوة. وهي شخصية مبدئية، تراعي الأخلاقيات المُتواضَع عليها، وتحرص على الخير العام، ولا تأتي من الأعمال بما لا يتوافق مع المصلحة العامة. وهي، حين تُضطر إلى ذلك، إنما تفعله في سبيل هذه المصلحة.
حادثتان اثنتان تشكلان نقطتي تحول في مسار جوني سميث، وتكون لهما تداعياتهما، المباشرة أو غير المباشرة، على حياته، الأولى تعرضه لسقطةٍ على الرأس، في السادسة من العمر، خلال ممارسته رياضة التزلج على الجليد في العام 1953، ما جعل رائحةً معينة تلازمه، يشمها في لحظات محددة، وتذكره بتلك الحادثة. وهو يستفيد منها بعد عشرين عاماً حين يستشعر الأرقام الرابحة في لعبة حظ، بحضور سارة، ويربح مبلغاً كبيراً من المال مُكبداً صاحب اللعبة المحتال خسارة كبيرة عقاباً له على احتياله. الحادثة الثانية هي نقطة التحول الجذرية في حياة سميث، وتحصل عشية ربحه المذكور، فبعد مغادرته منزل سارة، وقد اعترف كلٍ منهما بحب الآخر، واتفقا على الارتباط، وكادا يمارسان اتحادهما الجسدي الأول لولا وعكة صحية ألمت بالأخيرة، يغادر إلى منزله في سيارة أجرة، ويتعرض لحادث سيرٍ خطير يؤدي إلى موت منطقة في دماغه، ويدخله في غيبوبة لأربع سنواتٍ ونصف، تجري خلالها مياه كثيرة تحت الجسر.
خلال الغيبوبة، وفي ضوء حالته الميؤوس منها، تختلف مواقف الشخصيات المحيطة بسميث، فترتبط سارة برجلٍ آخر كي لا يفوتها قطار الزواج، ويتمنى الأب العقلاني هربرت سميث لابنه الموت ليتخلص من عذابه، ويتحرر هو وزوجته من هم الانتظار الطويل. وحدها فيرا، الأم غير العقلانية المنخرطة في جماعة دينية تزعم التواصل مع الغيب، تؤمن بشفاء ابنها، وبدورٍ معين تدخره له السماء، الأمر الذي يتحقق بالفعل، ويضفي على الرواية بعداً غرائبياً، ويمنح الأحداث دراميةً معينة. وتكون المفاجأة أن ينهض جوني من غيبوبته، وقد امتلك قدرة خارقة على قراءة الماضي والمستقبل، من خلال لمسه الآخر أو ما يتعلق به، تترافق مع ومضات عابرة مقترنة بصداع كبير وتغير في تعابير الوجه، وتتمخض عن كشف الحقائق الغامضة.
قدرة خارقة
هكذا، تكر سبحة القراءات، وتترتب عليها نتائج تتفاوت في الأهمية والخطورة، وينقسم الناس فيه بين مصدقٍ ومكذب، ويدفع هو أثماناً باهظة لهذه القدرة الخارقة المستجدة، تتراوح بين الشعور بالذنب، والابتعاد عن الناس، والضيق بالمراجعين، والهرب من الصحافة، والطرد من الوظيفة، وتجنب الآخرين مصافحته والاقتراب منه. وهو، على ما يحققه من إنجازات كبيرة خلال استخدام قدرته الخارقة، تتمثل في، إنقاذ الآخرين، وكشف المجرمين، والتنبيه من المخاطر، وتَوَقع شفاء المرضى، والعثور على الأشياء الضائعة، وغيرها، يتمنى العودة إلى حياته الطبيعية بخاصة عندما لا يأخذ الآخرون بتحذيراته، وتترتب على ذلك نتائج وخيمة، تجعله يغرق في الشعور بالذنب، ويرغب في استعادة ما كان عليه قبل الحادث. غير أن للأقدار كلمة أخرى.
تتمظهر قدرة جوني سميث الخارقة في مجموعة من الوقائع، التي ينقسم الناس بين مشكك فيها ومصدقٍ لها. ومنها، معرفته أن مارك ابن الممرضة ماري، في مستشفى ماين الشرقية، قد تعرض لإصابة بليغة في عينه، بسبب مفرقعات نارية، وأنه سيشفى منها. ومعرفته أن أم الطبيب الذي يعالجه سامويل وايزاك، والذي يظنها قضت في الحرب العالمية الثانية، لا تزال على قيد الحياة وأنها تعيش في كاليفورنيا. ومعرفته أن خاتم زواج حبيبته السابقة سارة موجود في جيب جانبي من حقيبتها. ومعرفته أن شقة المعالجة الفيزيائية آملين ماغاون تتعرض للحريق في اللحظة نفسها واتصاله بمركز الإطفاء لإخماد الحريق. وكشفُه سبب وفاة تيري شقيقة المراسل الصحفي روجر دوسو، الذي تحداه على الهواء ما أدى إلى إحراج الأخير وفضحه. واكتشافُه أن الخانق الزلق الذي يتربص بالبنات في كاسل روك ويقوم باغتصابهن وقتلهن خنقاً هو الضابط فرنك دود. توقُعه أن تضرب صاعقة مطعم الكاثي في سومرزوورث وتودي بعدد من الطلاب الذين يحتفلون بتخرجهم، وتحذيره صاحب المطعم الذي يضرب بالتحذير عُرضَ الحائط ما يؤدي إلى وقوع الكارثة. وهكذا، نرى أن هذه الوقائع تتراوح بين قراءة الماضي، ورؤية الحاضر، ورؤيا المسقبل.
الرؤيا الأهم
غير أن الرؤيا الأهم التي يراها تتعلق بغريغ ستيلسون، الشخصية المحورية في السلك الثاني للرواية، وهي الرؤيا التي يترتب عليها موت الرائي جسدياً وموت المرئي سياسياً. ففي حفل انتخابي ينظمه ستيلسون، في منتزه تريمبول، يقوم سميث بمصافحته، ويحس بهزة قوية تفقده الوعي، ويستيقظ في مركز الشرطة حيث يجري التحقيق معه، ويُنصَح بتجنب حفلات ستيلسون حرصاُ على حياته. وإذ تنجلي الرؤيا عن الخطورة التي يمكن أن يشكلها ستيلسون على العالم في حال وصوله إلى سدة الرئاسة، يقوم سميث باستقصاء المعلومات عنه، وتدوين الملاحظات في عدة مفكرات، ويكتشف صعوده السريع بأساليب ملتوية رغم افتقاره إلى المؤهلات العلمية والاجتماعية، ويرصد تدرجه بين المهن وتنقله بين المدن، من صناعة المطر في أوكلاهوما، إلى طلاء المنازل في نبراسكا، إلى بيع بوالص التأمين في ألبَني، إلى بيع الكتب في نيوهامبشاير، إلى ناشط اجتماعي في ريدجواي، إلى عمدة المدينة، إلى عضو البرلمان. وهي مواقع بلغها بالابتزاز، والفساد، والتهديد والوعيد، والترغيب والترهيب. ويطمح فوق ذلك كله إلى منصب الرئاسة، الأمر الذي يُشكل تهديداً بحرب نووية وفق الرؤيا. لذلك، يتخذ سميث، بعد طول تردد، قراراً بقتله وتخليص العالم من شره، فيغتنم فرصة زيارته بلدة جاكسون ذات نهاية أسبوع، ويُطلق النار عليه ويخطئه، فيقدم مرافقو الأخير على قتل سميث لينتهي جسدياً. وفي مواجهة الخطر الذي يتهدده، يخطف ستيلسون طفلاً صغيراً من أمه للاحتماء به من مطلق النار، فينكشف على حقيقته، ويموت سياسياً ما يخلص العالم من شره. بذلك، يكون جوني سميث قد استخدم وسيلة غير مشروعة لتحقيق غاية مشروعة، على طريقة الغاية تبرر الوسيلة، ويدفع الثمن الأغلى للطاقة الخارقة التي يمتلكها.
السلك الثاني في الرواية يتمحور حول غريغ ستيلسون، ويلي الأول في الطول والأهمية، ويتوازى معه أكثر مما يتقاطع. ويقتصر التقاطع بين السلكين على ثلاثة نقاط، الأولى حين يشاهد سميث ستيلسون في خبر تلفزيوني، والثانية حين يلتقيه في الحفل الانتخابي في منتزه تريمبول، والثالثة والأخيرة حين يقدم على إطلاق النار عليه ويخطئه. وهذا السلك يبدأ في التمهيد، ويستمر حتى الفصل السابع والعشرين، وتتخلله انقطاعات كثيرة. وفي اقتفائه، تطالعنا الوقائع الآتية، ولادته في تولسا لأبٍ قوي البنية يعمل في حقول النفط. وعدم اهتمام الأب به، ومقتل الأب في انفجار نفطي، وانقطاعه عن متابعة الدراسة، وتنقله بين المهن المتواضعة، وصعوده بأساليب ملتوية، وتطلعه إلى مواقع لا يمتلك مؤهلات إشغالها. وبذلك، نكون إزاء شخصية تعاني من أعطاب في نشأتها، ينعكس على سلوكها طموح مَرَض للترقي بطرائق غير مشروعة، فتدفع ثمن هذا الطموح وتلك الطرائق. تُرى هل يُعرض ستيف كينغ، من خلال هذه الشخصية، بالرئيس الحالي للولايات المتحدة الأميركية؟
عقدة نفسية
السلك الثالث والأخير هو الأقصر في الرواية، ويبدأ في الفصل الرابع، ويتوارى عن الظهور بشكل مباشر في الفصول اللاحقة حتى الفصل السادس عشر، حيث يتقاطع مع السلك الأول في بعض النقاط، وينقطع بعدها نهائياً. وهو يتعلق بالخانق الزلق الذي ينتظر ضحيته الأولى في منتزه كاسل روك في 12 نوفمبر (تشرين الثاني) 1970، ويقوم باغتصابها وخنقها، ولعله يفعل ذلك تعبيراً عن عقدة جنسية إزاء الجنس الآخر، يعاني منها منذ الصغر، فيروح عندما يكبر يتربص بالنساء، ويقوم باغتصابهن وخنقهن، ويبلغ عدد ضحاياه الست خلال خمس سنوات. لذلك، يتصل المأمور جورج باترمان بسميث في الفصل السادس عشر طالباً مساعدته في اكتشاف الفاعل، فيرفض المساعدة، في البداية، لأنه يريد الابتعاد عن السمعة التي تطارده، غير أنه عندما يشاهد الخبر التلفزيوني الذي يتناول الحادثة يغير رأيه، يتصل بالمأمور، ويقوم بالإجراءات اللازمة لكشف الفاعل، وحين يكتشف المأمور أن القاتل هو نائبه فرنك دود، يرفض النتيجة رفضاً قاطعاً حتى إذا ما أقنعه سميث بذلك يسقط في يده، يتوجهان معاً لمواجهته بالحقيقة فيجدانه منتحراً بعد افتضاح أمره.
وإذا كان كلٌ من الأسلاك الثلاثة يتمحور حول شخصية معينة يعكس من خلالها ظاهرة اجتماعية، غريبة أو واقعية، فإن كلاً من الشخصيات الثلاث تنخرط في شبكة من العلاقات المختلفة مع شخوص أخرى، يتمخض عن حركاتها النسيج الروائي. وفي هذا السياق، نحن إزاء نسيج روائي متين، تتنوع حركاته وألوانه، ويعكس براعة الكاتب في نسجه، وكفاءته العالية في استدراج القارئ إلى حقلة المغناطيسي، فلا يملك فكاكاً منه إلا بانتهاء عملية القراءة.