لن تقوم للثقافة والفكر والفن بشكل عام في العالم العربي وفي شمال أفريقيا قائمة ما دامت الترجمة في هذه البلدان إما غائبة أو مقطوعة أو مهزوزة أو ممنوعة أو مهمّشة أو مثيرة للخوف لدى الطبقة الحاكمة، سياسية كانت أو دينية.
لماذا يخاف المجتمع السياسي والديني في البلدان العربية والشمال أفريقية من الترجمة؟
ببساطة، إن الترجمة هي مرآتنا التي لا تكذب لا علينا ولا عنا، هي التي تقدم لنا وجهنا من دون أصباغ ومن دون تضخم للأنا، حين نترجم الآخر، حين نترجم من الآخر بصدق وأمانة، من دون تشويه أو تحوير أو "توطين"، فإننا نفهم أنفسنا ونفهم الآخر، ونؤسس طريقنا للوصول إلى فكرة "العيش معاً" مع هذا الآخر المختلف.
العربي يخاف الترجمة لأن الجسور المتينة الفكرية والفلسفية التي تربطه بالعالم الذي يشترك معه في صناعة الحياة والتاريخ، مقطوعة أو مهزوزة الأساس.
نولد مسلمين، ونصبح مسلمين بالوراثة، ونعيش مسلمين بالعادة. فالدين ليس اختياراً فردياً بل هو إرث مقدر، لذا وحتى يكون الإيمان صادقاً، يجب أن تتوفر للمسلم حياة ثقافية وفلسفية دينية متنوعة، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال ترجمات صادقة ووفية ودقيقة لكتب الديانات الأخرى، الأساسية منها والفرعية.
بمثل ترجمة الكتب التي تنتمي إلى الديانات الأخرى التي تختلف عن الإسلام أو تتقاطع معه أو تتعارض معه، وبترجمة الكتب الفلسفية، نحرر المسلم والإسلام من التطرف والتعصب وندفع به إلى الحياة المشتركة، وبكل ثقة، مع الآخرين الذين يتقاسم معهم هذا التاريخ وهذه الجغرافيا.
كل ديانة منغلقة على نفسها تنتهي بقتل أتباعها، كل متدين لا يقرأ كتب الديانات الأخرى ينتهي ضحية ثقافة الكراهية ضد الآخر المختلف عنه.
كل أمم العالم المتحضر على اختلاف دياناتها ولا ديانتها، تستطيع وبكل حرية وبساطة ومن دون حرج الاطّلاع في لغاتها الوطنية على نصوص الإسلام الأساسية كالقرآن أو الحديث أو الفلسفة الإسلامية وكتب كثيرة أخرى. بغض النظر عن مواقفها الفلسفية من هذا الدين.
في كل أنحاء العالم، في أوروبا وأميركا وآسيا البعيدة، يمكننا العثور على القرآن وببساطة مترجماً إلى جميع اللغات، وبترجمات متعددة، معروضاً في مكتبات البيع وفي المكتبات العمومية وعلى وسائط التواصل الأخرى من دون حساسية.
أما في البلدان العربية وبلدان شمال أفريقيا، يستحيل العثور على الإنجيل أو التوراة في مكتباتنا، لا مكتبات البيع ولا المكتبات العمومية. فهذا يعدّ من باب المحرّم، ويصنف مَن يبيع مثل هذه الكتب في خانة "زمرة التبشير" أو "التهويد" مباشرة.
من هذا الباب، يبدو القارئ العربي والمغاربي غير راشد طوال حياته، يولد غير راشد ثقافياً ودينياً ويموت كذلك، فالأنظمة السياسية والدينية هي من تقرأ بدلاً منه، وتختار في مكانه سلة كتبه.
لن يتغير شيء في الأفق إذا لم نثمن الترجمة ونقدم لمواطنينا الحرية في اختيار ما يقرأون عن الديانات جميعها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما دام المسلم يعتقد بأن الجميع على خطأ وأنه هو وحده على صواب مبين، من دون معرفة بأسس ثقافة هذا الآخر الدينية واللادينية، فلن يتمكن من العيش في وسط يعج بالديانات والثقافات والأفكار والسلوكات التي تختلف عن معتقداته. لذا، سيظل في الهامش يراقب الآخرين ويهدّدهم.
في باب التربية الجنسية والعلاقات الحميمة: لن يستطيع المواطن العربي والمغاربي أن يهزم أمراضه المرتبطة بالعقد الجنسية، إذا لم يحاصر بالكتب العالية الجودة المترجمة إلى لغته الوطنية، التي تتطرق إلى هذا الموضوع من الناحية السيكولوجية والبيولوجية والفلسفية والطبية، بعيداً من التحليل والتحريم.
تؤكد بعض الإحصاءات أن الشعوب العربية والشمال أفريقية، هي أكثر شعوب العالم استهلاكاً للإنتاج الإباحي الثقافي المرئي بشكل خاص، ما يؤكد أن المجتمع الذكوري العربي والمغاربي يعيش حالة من الهوس الجنسي العابر للأجيال، فنظراً إلى الحصار الثقافي والفني والاجتماعي الذي يعيشه الفرد والمفروض من الأنظمة السياسية والدينية والثقافية والفنية التي تتستر بالعفّة الكاذبة، فإن المواطن وفي غياب السلاح الثقافي المعاصر، يصبح فريسة سهلة لمثل هذه الإنتاجات الفنية والثقافية الإباحية الضحلة البعيدة من كل تربية جنسية راقية.
ولأن الترجمة مراقبة وبشدة من جانب زمرة المتسترين بالأخلاق الغارقة في النفاق السياسي والديني والاجتماعي، فإن جميع الكتب، من روايات ودراسات فلسفية أو اجتماعية، التي تتناول ظاهرة الجنس بطريقة واضحة وواقعية وشفافة تتعرض للمنع أو المقص أو التزوير والتشويه. كل نص أدبي عالمي جريء بمجرد أن يترجم إلى العربية يفقد جلده وروحه، إننا لا نترجم، إننا نعرّب! أي نجعله يشبهنا، على الرغم من أنه لا يشبهنا بتاتاً.
بمثل هذه الإجراءات الرقابية، لن نتمكن أبداً من تخليص المواطن العربي والمغاربي من هوسه الجنسي المرضي الذي أصبح ظاهرة اجتماعية وثقافية، تتمثل في التحرش بالنساء والعنف ضد المرأة والبيدوفيليا التي يسكت عنها المجتمع كثيراً. ولكي نحرر المواطن من الهوس والنفاق الأخلاقي والاجتماعي، علينا وبكل جرأة، أن نترجم أمهات الكتب التي تتناول الجنس من الناحية الفلسفية والبيولوجية والبيداغوجية والفنية، بعيداً من المزايدات الأخلاقوية.
لم يجد فقهاء قدامى حرجاً في الكتابة في موضوع الجنس، فقد فسروا ذلك تفسيراً بحسب ثقافتهم وبحسب إمكانياتهم العلمية آنذاك وتبعاً لما كان متوافراً لديهم من معطيات طبية ونفسية وجسمانية محدودة. لقد كتب في باب الجنس والتربية العاطفية والجسدية كل من السيوطي والنفزاوي وابن حزم وابن القيم وابن داوود وغيرهم... كتبوا كتبهم بكثير من الجرأة، لكن هذه الكتب لم تعد صالحة لعصرنا الحالي. لقد تجاوزتها البحوث والنظريات العلمية الجديدة. لذا، علينا، وعلى سنتهم في الشجاعة الفكرية والدينية، أن نترجم ما يكتبه الآخرون في الموضوع في انتظار أن يطلع لنا عالم اجتماع أو فيلسوف أو طبيب أو حتى فقيه متنوّر عارف بشؤون الجسد والنفس، بعيداً من الدروشة التي لا تزال تهيمن على هذا المجال، فيكتب كتباً ليس للقارئ العربي وحده إنما للعالم الآخر الذي نتقاسم معه التاريخ والزمن والجغرافيا والحلم.
وكما في الدين والتدين والتربية الجنسية، كذلك الوضع السياسي والاقتصادي، لا يسلم من رعب الترجمة، فإذا أردنا حياة سياسية واقتصادية معافاة، علينا أن نسمح بقراءة ما يكتبه عدوّنا عنا قبل حليفنا. ففي هذه القراءة يكمن سر القوة والنجاح، إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم لن تتحقق فيها الثقة إلا إذا كانت مؤسسة على حرية النقد والانتقاد. وأعتقد أن الكتابات التي تنقد الأنظمة العربية والمغاربية قارئة ومشرّحة المستويين السياسي والاقتصادي الغارقين في الفساد والظلم، حين تجيء من خصم أو عدو ناجح، فإنها من دون شك تحمل كثيراً من الصدق، ليس كل الصدق بطبيعة الحال، لذا وكي تتم مصالحة المواطن مع السياسة الإيجابية، حتى يعود المواطن إلى حب وطنه من دون خوف أو إجبار أو طمع، ويتحرر من ثقافة عبادة الشخصية التي هي ثقافة سائدة في العالم العربي وشمال أفريقيا، علينا أن نحرر باب الترجمة في كتب الفكر السياسي، وبهذا يستطيع القارئ المواطن أن يقيم مراجعة ذكية وإيجابية لذاته ولوطنه ولمستقبله.