بيروت واحدة من العواصم العربية الأربع، التي تفاخر طهران بأنها تحكمها. لكن ما تستطيعه وتفعله في الواقع هو تعطيل الحكم بأشكال متعددة عبر الميليشيات التابعة لها. ففي العراق، تعرقل إيران تأليف الحكومات حتى المجيء بحكومة ترضيها. وعندما تضطر إلى التسليم بحكومة مثل حكومة مصطفى الكاظمي الحالية، فإنها تضع العصي في دواليب الإصلاح، وترفع صوت التحذير عبر "الرسائل الصاروخية"، التي تطلقها الميليشيات على المنطقة الخضراء والمطار والقواعد العسكرية، التي يستضيف فيها الجيش العراقي قوات تدريب أميركية.
وفي سوريا، التي يقول الموفد الدولي غير بيدرسون إنها صارت "بيئة دولية"، فيها خمسة جيوش خارجية، فإن الحديث عن الحكم الإيراني، هو حديث عن عالم افتراضي. أما في اليمن، فإن استيلاء الحوثيين على صنعاء بدعم إيراني أخرج الشرعية منها، لكنه لم يُحدث شرعية معترفاً بها، بل أخذ البلد إلى حرب أهلية مستمرة. وأما في لبنان، فإن ما يُسمى "فائض القوة" لدى حزب الله المرتبط بإيران، قاد إلى التحكم بالبلد من دون الإقدام على تسلم الحكم رسمياً، سواء في إعداد قوانين الانتخاب أو في تأليف الحكومات وانتخاب الرؤساء، مع الإسهام في جعل لبنان دولة فاشلة.
ذلك أن تأليف الحكومات في لبنان ليس مجرد عملية سياسية ضمن اللعبة الديمقراطية في نظام ديمقراطي برلماني حسب الدستور. فلا هو خاضع لما ينص عليه الدستور وما صار بالتكراراً نوعاً من "الأعراف" المسلّم بها. ولا هو تأليف حكومة للبنان تعكس التوازنات الداخلية، بمقدار كونه تأليف "حكومات" تعكس الأوزان الإقليمية والدولية. وآخر ما يتحكم بإدارة التأليف هو المجيء بحكومة على صورة المهمة الملحة أمامها. فالمهمة اليوم هي إنقاذ لبنان من الانهيار الكامل عبر إخراجه من هاوية الأزمات النقدية والمالية والاقتصادية، وإجراء الإصلاحات الضرورية لاستعادة ثقة الداخل والخارج. واللعبة هي الالتفاف على مشروع الحكومة المؤهلة للقيام بالمهمة من أجل الحصول على ضمانات تمنع الإصلاح الجدي وعلى مكاسب في سفينة مهددة بالغرق.
وفي البدء، كان التكيف مع الأمور غير الطبيعية واعتبار أنها الأمور الطبيعية. فما كان غريباً أن يأتي الرئيس إيمانويل ماكرون إلى بيروت مرتين ويشرف شخصياً وعبر معاونيه على ترتيب "مبادرة فرنسية" لتأليف "حكومة مهمات". ولم يكن خارج المألوف أن يعمل ماكرون في وقت واحد مع التركيبة السياسية في لبنان، ومع أميركا وإيران والسعودية ومصر وروسيا، وكل من له سهم في "النادي السياسي" في لبنان. لا بل ما كان ولا يزال محل اهتمام اللبنانيين هو قطع الشك باليقين في كون المبادرة الفرنسية متمتعة أو لا بغطاء أميركي ومنسقة مع إيران والسعودية ومنفتحة على أي مساعدة روسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما حدث وسط خطاب التمسك بالمبادرة، هو "الانقلاب" عليها في اللحظة الأخيرة. ومن بدل موقفه هو "الثنائي الشيعي"، الذي أصر على "تطويب" وزارة المال باسم الطائفة الشيعية تحت عنوان الميثاقية، وعملياً للتحكم بكل قرارات السلطة عبر "التوقيع الثالث"، أي توقيع وزير المال الشيعي مع توقيع كل من رئيس الجمهورية الماروني ورئيس الحكومة السني. لكن "أمر العمليات" صدر من طهران لأجل هدف إضافي أبعد. فهي تتصرف على أساس أن لبنان "رصيد إستراتيجي" لها وحكومته "ورقة" في يدها لن تفرط بها قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية في انتظار أن يفوز جو بايدن، المرشح الديمقراطي، نائب الرئيس السابق باراك أوباما، الذي صنع معها الاتفاق النووي. ومثل كل لعبة، بطبائع الأمور، فإن الثنائي الشيعي اتهم رؤساء الحكومات السابقين بالانقلاب على المبادرة، وأميركا بإطلاق النار عليها عبر فرض العقوبات على وزير المال السابق علي حسن خليل، أبرز معاوني رئيس المجلس النيابي نبيه بري.
لكن اللعبة خطيرة وخطرة حتى على الطرف المحلي الذي يلعبها. فالأميركي والإيراني قادران على تقطيع الوقت في لعبة العض على الأصابع. والفرنسي لديه هموم أخرى تشغله في الداخل وفي أفريقيا وفي شرق المتوسط.
أما شعار، وزارة المال أو حسان دياب آخر، فإنه وصفة لاكتمال الانهيار.
وزارة مال بلا مال يأتي. وحكومة تظل معزولة عربياً ودولياً. ولا معنى للتحدي بالقول، إما وزارة المال للشيعة أو تعالوا إلى دولة مدنية، سوى تهديد بدولة دينية مضادة لجوهر لبنان ورسالته.
يقول المفكر الفرنسي آلان مينك "لا أعرف إن كان التاريخ تراجيدياً، لكن علينا التصرف على هذا الأساس، لكي نحول دون أن يصبح تراجيدياً". والمخيف هو الإصرار على أن يكون قدر لبنان خارجياً، وأن يصبح تاريخه تراجيديا إغريقية.