أعادت القضية التي كشفت عنها الوثائق المسربة بشأن اتهام أكبر بنوك العالم في الضلوع بعمليات غسل وتبييض ونقل الأموال القذرة، قضايا غسل الأموال إلى الأذهان، وهي القضية التي مثلما تشكل مصدراً لقلق الحكومات والأنظمة، فإنها في الوقت نفسه تطرح عديداً من التساؤلات حول آليات مواجهتها ومدى قدرة استخدام التكنولوجيا الحديثة في القضاء على هذه العمليات التي بالفعل أصبحت تشكل خطراً كبيراً على الاقتصادات الرسمية، خاصة أنها أصبحت تتم في ثوانٍ معدودة.
وأمس، كشفت وثائق سرية للحكومة الأميركية عن أن بنك جيه بي مورغان، وبنك إتش إس بي سي، وبنوكاً كبيرة أخرى قد تحدت حملات غسل الأموال عن طريق نقل مبالغ ضخمة من الأموال غير المشروعة لشخصيات غامضة وشبكات إجرامية نشرت الفوضى وقوَّضت الديمقراطية في جميع أنحاء العالم.
وأظهرت السجلات أن خمسة بنوك عالمية هي "جي بي مورغان، وإتش إس بي سي، وستاندرد تشارترد بنك، ودويتشه بنك، وبنك نيويورك ميلون"، استمرت في الاستفادة من اللاعبين الأقوياء والخطرين حتى بعد أن فرضت السلطات الأميركية غرامة على هذه المؤسسات المالية بسبب إخفاقاتها السابقة في وقف تدفقات الأموال القذرة.
ووفق التقرير الذي نشره الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية، فإنه نادراً ما تلاحق الوكالات الأميركية المسؤولة عن إنفاذ قوانين غسل الأموال البنوك العملاقة التي تنتهك القانون، وبالكاد تتخذ السلطات الإجراءات التي تتسبب في تدفق الأموال المنهوبة التي تغسل النظام المالي الدولي. وفي بعض الحالات استمرت البنوك في نقل الأموال غير المشروعة حتى بعد أن حذرهم المسؤولون الأميركيون من أنهم سيواجهون محاكمات جنائية إذا لم يتوقفوا عن التعامل مع رجال العصابات أو المحتالين أو الأنظمة الفاسدة.
3 مراحل لغسل الأموال القذرة
وفق موقع "واي باك مشين"، أو الأرشيف الرقمي للإنترنت، فإن عمليات غسل أو تبييض الأموال هي جريمة اقتصادية تهدف إلى إضفاء شرعية قانونية على أموال محرمة، لغرض حيازتها، أو التصرف فيها، أو إدارتها، أو حفظها، أو استبدالها، أو إيداعها، أو استثمارها، أو تحويلها، أو نقلها، أو التلاعب في قيمتها إذا كانت متحصلة من جرائم، مثل زراعة وتصنيع النباتات المخدرة، أو الجواهر والمواد المخدرة وجلبها وتصديرها والاتجار فيها، واختطاف وسائل النقل، واحتجاز الأشخاص وجرائم الإرهاب وتمويلها، والنصب وخيانة الأمانة والتدليس، والغش، والفجور والدعارة، والاتجار وتهريب الآثار، والجنايات والجنح المضرة بأمن الدولة من جهة الخارج والداخل، والرشوة، واختلاس المال العام والعدوان عليه، والغدر، وجرائم المسكوكات والتزييف والتزوير.
تمر عمليات غسل الأموال بثلاث مراحل، تتمثل الأولى في التوظيف أو الإحلال، بحيث يتم التخلص من كمية كبيرة من الأموال القذرة بأساليب مختلفة، إما بإيداعها في أحد المصارف أو المؤسسات المالية، أو عن طريق تحويل هذه النقود إلى عملات أجنبية، أو عن طريق شراء سيارات فارهة ويخوت وعقارات مرتفعة الثمن يسهل بيعها والتصرف فيها بعد ذلك.
وتُعد مرحلة الإيداع هذه أصعب مرحلة بالنسبة للقائمين بعملية غسل الأموال، حيث إنها ما زالت عُرضةً لاكتشافها، خاصة أنها تتضمن في العادة كميات كبيرةً جداً من الأموال السائلة، حيث إن التعرف على من قام بعملية الإيداع لهذه الأموال ليس بالأمر العسير، ومن ثم علاقته بمصدر هذه الأموال.
وتتمثل المرحلة الثانية في التجميع أو التعتيم، حيث تبدأ بعد دخول الأموال في قنوات النظام المصرفي الشرعى، ويقوم غاسل الأموال باتخاذ الخطوة التالية، والتي تتمثل في الفصل أو التفريق بين الأموال المراد غسلها عن مصدرها غير الشرعى عن طريق مجموعة معقدة من العمليات المصرفية، والتي تتخذ نمط العمليات المصرفية المشروعة، والهدف من هذه المراحل جعل تتبع مصدر تلك الأموال غير المشروعة أمراً صعباً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتتلخص أهم تلك الوسائل في تكرار عملية تحويل تلك الأموال من بنك إلى آخر، والتحويل الإلكتروني للأموال، ويزيد ذلك من حالة التعقيد في تتبع تلك الأموال تحويلها إلى بنوك تتبنى قواعد صارمة من سرية الإيداعات في بلاد أخرى، وهي ما يطلق عليها الملاذات المصرفية الآمنة، وتتسم هذه الملاذات بتساهُل قوانينها، وجودة وسائل النقل من طائرات وسفن وسهولة تأسيس الشركات.
أما مرحلة الإدماج فهي الأخيرة، ويترتب عليها إضفاء طابع الشرعية على الأموال، لذلك يطلق عليها "مرحلة التجفيف" ومن خلال هذه المرحلة يتم دمج الأموال المغسولة في الدورة الاقتصادية والنظام المصرفي، لكي تبدو وكأنها عوائد أو مكتسبات طبيعية لصفقات تجارية، مثل الشركات الوهمية والقروض المُصطنعة، وتواطؤ البنوك الأجنبية، وكذلك الفواتير الوهمية في مجال الاستيراد والتصدير. وعند الوصول لهذه المرحلة يكون من الصعب جداً التمييز بين تلك الأموال القذرة والأموال المشروعة إلا من خلال أعمال البحث السري وزرع المخبرين بين عصابات غسل الأموال.
كم يخسر الاقتصاد العالمي من عمليات غسل الأموال؟
أما غسل الأموال العكسي فهو أن يكون هناك أموال من مصدر مشروع ويتم إنفاقها في مصدر غير مشروع، مثل تمويل العمليات الإرهابية، أو شراء أسلحة محرمة دولياً، أو حتى من دول كاملة عليها حظر، مثل إيران الآن، أو السودان، منذ عامين، والعراق من قبلهما، وهناك أيضاً نوعان آخران تتم إضافتهما لهذه القوائم، أولهما هم من ثبتت ضدهم قضايا فساد مالي والنوع الأخير هم جميع المشتغلين بالسياسة، ويطلق عليهم PEP وجميع المديرين التنفيذيين بالبنوك، ويطلق عليهم FEB، حتى إن كانوا صالحين ويتم وضعهم في القائمة بغرض المراقبة، وليس المنع؛ أي إن أي عملية تحويل أموال عبر البلاد لأي شخص يشتغل بالسياسة يجب أن تتم مراقبتها يدوياً ومراجعة مصدرها لكي لا تكون هناك شبهة فساد أو رشوة، وبالطبع هذا لا يتم في أي من بلاد المنطقة العربية لرفع الحرج عن الفاسدين.
وتتمثل سلبيات انتشار هذه الظاهرة في استقطاعات من الدخل القومي ونزيف للاقتصاد الوطني لصالح الاقتصاديات الخارجية، وزيادة السيولة المحلية بشكل لا يتناسب مع الزيادة في إنتاج السلع والخدمات، مع التهرب من سداد الضرائب المباشرة، ومن ثم معاناة خزانة الدولة من نقص الإيرادات العامة عن مجمل النفقات العامة، إضافة إلى شراء ذمم رجال الشرطة والقضاء والسياسيين، مما يؤدي إلى ضعف كيان الدولة واستشراء خطر جماعات الإجرام المنظم، مع تدهور قيمة العملة الوطنية وتشويه صورة الأسواق المالية، وارتفاع معدل التضخم بسبب الضغط على المعروض السلعي من خلال القوة الشرائية لفئات يرتفع لديها الميل الحدي للاستهلاك وذات نمط استهلاكي يتصف بعدم الرشد أو العشوائية.
يضاف إلى ذلك، انخفاض معدل الادخار نظراً لشيوع الرشاوى والتهرب الضريبي وانخفاض كفاءة الأجهزة الإدارية وفسادها وتشويه المنافسة وإفساد مناخ الاستثمار.
وتشير البيانات إلى أن الدول التي ينتشر فيها الفساد بكثرة تكون بُؤراً يكثر فيها غسل الأموال وتتقدمها روسيا. وأشهر قضية غسل أموال كان بطلها زوج ابنة الرئيس الروسي السابق يلتسن، حيث أشارت التقارير إلى أنه قام بسرقة نحو 10 مليارات دولار من القروض الدولية الممنوحة لروسيا، وقام بغسلها في بنك أوف نيويورك الأميركي. وكشفت التحقيقات عن أن البنك الأميركي قام بتحويل هذه الأموال المسروقة إلى عشرات البنوك في العالم، ومن بينها بنوك في روسيا.
وتؤكد الإحصاءات والتقارير المتاحة أن ظاهرة غسل الأموال تتصاعد بشكل مُخيف، خاصة في ظل العولمة الاقتصادية وشيوع التجارة الإلكترونية، خاصة أن عمليات الغسل الإلكتروني تتم في دقائق أو ثوانٍ معدودة من أجل الإسراع في إخفاء هذه العمليات الإجرامية. وقد قدَّر محللو الاقتصاد المبالغ المالية التي يتم غسلها سنوياً بتريليون دولار، وهو ما يعادل 15 في المئة من إجمالي قيمة التجارة العالمية.