في مسرحيته ذات الفصل الواحد "الوردة والتاج" سعى الكاتب البريطاني غي بي بريستلي إلى بث روح التفاؤل في نفوس مواطنيه، فكل إنسان لديه سبب ما- حتى لو كان كامناً في لاوعيه- للتمسك بالحياة رغم ما يعانيه من ألم وبؤس وشقاء، ورغم إعلانه المستمر عن رغبته في الموت، حتى أن أنانيته تظهر جلية عندما يتعلق الأمر بضرورة اختيار مجموعة من البشر واحداً من بينها ليموت ليحيا الآخرون، هنا يرفض كل منهم الموت معدداً الأسباب التي تدفعه إلى الاستمرار في الحياة.
تنتمي هذه المسرحية إلى نوعية مسرحيات مابعد الحرب، فقد قدمت للمرة الأولى كمسرحية تليفزيونية في العام 1946 عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وما خلفته من دمار وتمزق وأسى، انعكس على مواطني أوروبا، لكن المسرحية - رغم ذلك- لم تتعرض للحرب وأحداثها من قريب أو بعيد، تعرضت فقط لانعاكساتها المؤلمة التي جعلت الكثيرين منهم بلا أمل في غد طيب، زاهدين في العيش، منكفئين على ذواتهم، غير راغبين في التواصل مع غيرهم من البشر.
إنها مسرحية عن إعادة إحياء الأمل، عن مقاومة الوحدة وبرودتها، عن تخطي الألم ومواجهة تداعيات الزمن بقوة وشجاعة بالبحث عن البهجة واقتناصها من وسط الأنقاض المادية والروحية التي خلفتها الحرب، مسرحية تقول "ما أحلى الحياة حتى ولو فتافيت" بحسب الشاعر المصري صلاح جاهين.
محطمون نفسياً
تدور أحداث المسرحية في ليلة لندنية داخل إحدى الحانات تسمى "الوردة والتاج"، روادها، في أغلبهم، محطمون نفسياً، لدى كل منهم - بحسب تصوره- سبب يجعله غير راغب في الحياة، متمنياً الموت، ملحاً في طلبه، وذلك من خلال الحوارات الدائرة بينهم داخل الحانة.
هناك "مستر ستون" السباك الذي هجره أبناؤه وتركوه لوحدته، يمضي وقته في احتساء الشراب وقراءة الجرائد التي تحفل بالحوادث والأخبار المقبضة، كأن لا شيء في الحياة يبعث على البهجة، و"مسز ريد" المغنية المتقاعدة بعدما صار صوتها غير صالح للغناء وهجرها محبوها، ولم تعد تنال تصفيقهم وهداياهم، تبحث عن رفقة داخل الحانة وتحاول استدعاء الفرح والضحك، بصوت مزيف، وفي غير مناسبة، وكلما حاولت التقرب من "مستر ستون" نهرها لأن لديه ما يكفيه من ضجر وألم، وهناك "بيرس" الذي يبدو مضطرباً ومنزعجاً من الحروب والتلوث وثقب الأوزون، غير راغب في إنجاب أطفال حتى لا يجلب لهم التعاسة، في حين أن زوجته الشابة "إيفي" تلح في طلب ذلك، وهناك كذلك العجوز "ما" التي دفنت زوجين وثلاثة أولاد لها، وتنتظر من يدفنها ويضع الزهور على قبرها، في حين أن "هاري" الشاب المصاب بمرض في القلب، والذي تزوجت حبيبته من غيره في الليلة نفسها لقدومه إلى الحانة، هو الأكثر حرصاً على الحياة وتمسكاً بها.
الانتصار على الألم
هكذا أغلب شخصيات الحانة، محطمة وغير راغبة في الحياة، لكن "هاري" يبدأ في تحريضهم على ممارسة حياتهم والانتصار على الألم، وخلق أسباب للسعادة، يطلب منهم الرقص حتى لو كانت أجسادهم تيبست ولم تعد تطاوعهم، الغناء حتى لو كانت أصواتهم صدئت ولم تعد صالحة، ينفق عليهم ببذخ رغم أن راتبه لا يكفيه لنهاية الشهر.
وسط هذا الصخب يظهر شخص نعرف أنه مندوب ملاك الموت، يخبرهم أنه جاء لاصطحاب أحدهم ويمهلهم دقائق معدودات ليختاروا واحداً منهم، وهنا يحدث التحول ويبدأ كل منهم في ذكر الأسباب التي تدعوه إلى التمسك بالحياة مهما كانت قسوتها وبؤسها، وفي النهاية يتطوع "هاري" أكثرهم حباً للحياة وتحريضاً على ممارستها، ليكون هو الشخص الذي يذهب مع مندوب ملاك الموت، وكأنه من فرط محبته للحياة وإيمانه بضرورتها تحت وطأة أي ظرف، يضحي بنفسه تاركاً الفرصة لغيره ليعيشها.
لقد جاءت هذه المسرحية كرد فعل إيجابي على ويلات الحرب، داعية إلى التفاؤل والتمسك بالأمل، صحيح أنها لم تتعرض للحرب بشكل مباشر ومالت إلى الجانب الاجتماعي، لكن قراءتها في ضوء الظروف التي كتبت فيها، تشير إلى ذكاء كاتبها الذي لم يكن مطلوباً منه أن يحدثنا عن الحرب حتى نعرف أن مسرحيته نتاج طبيعي لها.
التمثيل المتقن
هذه المسرحية قدمها طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية في مصر ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، دراماتورجيا ياسر أبو العينين، إخراج إبراهيم أشرف، وحصلوا بها على جائزة أفضل عرض في مسابقة المسرح الحي إحدى مسابقات المهرجان الثلاث.
هناك عناصر عدة أسهمت في تميز هذا العرض، ربما أبرزها التمثيل الذي رغم قتامة الأحداث مال إلى الجانب الكوميدي، وأظهر قدرات هؤلاء الطلاب وفهمهم الجيد طبيعة الشخصيات التي يقدمونها، وبخاصة أن أغلب هذه الشخصيات من كبار السن، لكنهم طوعوا أجسادهم وأصواتهم لأدائها بشكل مقنع لاتكلف فيه، ولعب الماكياج دوراً مهماً في إبراز عنصر الزمن على وجوههم.
استغرق العرض ساعة بين التشويق والإثارة والأداء الفكه للممثلين ولكن من دون إسراف، وبرزت قدرة المخرج في السيطرة على فريق عمله وتسكين كل منهم في دوره بشكل جيد ومحسوب بدقة، وبدا الممثلون، رغم أعمارهم الصغيرة، واثقين في قدراتهم، حتى أن التيار الكهربائي انقطع في إحدى ليالي العرض، وهو مايمكن أن يصيب ممثلين أصحاب خبرة بالاضطراب، لكنهم واصلوا العرض على أضواء هواتف المشاهدين، وكأن شيئاً لم يكن.
ديكور العرض (صممه محمود هاشم) كان واقعياً، منظر واحد يصور حانة قديمة اهتم المصمم بإبراز أدق تفاصيلها، وكان لافتاً كذلك دقة التنفيذ التي وضحت في أحد المشاهد التي اهتزت فيها الحانة بشدة عند قدوم مندوب ملاك الموت وإعلانه سبب قدومه، من دون أن تتأثر الديكورات أو تنهار أجزاء منها، وهو مايشير إلى الحسابات الدقيقة التي عمل المصمم وفقها، وقد أسهمت الإضاءة (صممها وليد درويش) في عكس أجواء الحانات بشكل جيد، واستجابت كذلك للحظات التوتر التي صاحبت روادها، ولم تكن الموسيقى (وضعها يوسف وليد) ولا الاستعراضات (صممتها مي إبراهيم) بعيدتين من تلك الأجواء التي سعى المخرج إلى الإمساك بها موظفاً عناصر العرض كلها لتحقيق هدفه، وتقديم عرض متماسك بإيقاع منضبط له ضربات سريعة ودالة.
العرض في مجمله عكس مفهوم صنّاعه عن المسرح باعتباره "صورة" لذلك حقق بهجة مضاعفة، من خلال رسالته أولاً، ومن خلال جمالياته ثانياً، التي من دونها يصبح العرض ناقصاً ورسالته مشوشة. شارك في التمثيل نغم صالح، نورهان عز، محمود زيزو، محمود مكي، محمد الدسوقي، جنا صلاح، إياد أمين، أحمد علي، أزياء منة محمد.