يومان مُتتاليان، وربما أكثر، لم ينعم فيها طارق البيطار (44 عاماً) بالنوم، ولا حتى دقيقة واحدة. فليلُه يضج بالصخب والغناء والصراخ، فيما يزدحم نهاره بالاعتداءات والضرب والشتائم من قبل المستوطنين الإسرائيليين "جيرانه". فالأعياد اليهودية في الضفة الغربية والقدس التي بدأت قبل أيام وتستمر حتى منتصف كتوبر (تشرين الأول) المقبل، أصبحت فرصة مضاعفة للمستوطنين اليهود للاقتحامات والسلب، وفرض العنترية، خصوصاً في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية.
عشية حلول رأس السنة العبرية الجديدة، فرضت إسرائيل طوقاً أمنياً شاملاً على الضفة الغربية لأيام عدة، وأغلقت المعابر مع قطاع غزة، فيما سيغلق المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل على فترات بوجه المصلين، ويُفتح بالكامل أمام المستوطنين والمتطرفين اليهود، مع اتخاذ إجراءات أمنية تحد من حرية آلاف الفلسطينيين ممن يقطنون في محيط المسجد.
منزل عائلة البيطار، وهو لا يبعد عن الحرم الإبراهيمي سوى خمسين متراً، مُحاط بـ400 مستوطن، ويُحرم أصحابه منذ مجرزة الحرم الإبراهيمي عام 1994 العيش بطمأنينة. فالمنزل محاصر بمئات كاميرات المراقبة، وأربعة حواجز عسكرية مشددة، وباتت مغادرته بلا حراسة "خروجاً بلا عودة".
يتحدث البيطار لـ"اندبندنت عربية" قائلاً إن "الحياة التي نعيشها لا توصف، فاعتداءات المستوطينين لم تتوقف يوماً، وما إن تبدأ احتفالاتهم برأس السنة العبرية وغيرها من الأعياد، نعيش أياماً متواصلة بلا راحة. الحديقة الملاصقة لمنزلي مخصصة بالكامل من أجل إمتاع المستوطنين، ومعززة بثمانية مكبرات للصوت ضخمة، ويتقصدون رفع الصوت أثناء الغناء أو الصلاة لإزعاج العرب في البلدة القديمة وحرمانهم النوم، فأغلبية طقوسهم الدينية تقام ما بعد منتصف الليل. ليس ذلك فحسب، بل إن سطح منزلي تحول إلى ثكنة عسكرية لحراستهم من جانب الجنود المعززين بالسلاح خوفاً من رشقهم بالحجارة".
إجراءات مشددة
يتابع البيطار "في فترة الأعياد اليهودية نحبس الأنفاس من شدة التدابير الأمنية التي يتخدها الجيش. حركتي مقيدة إن لم تكن معطلة، وفي حال قررت الخروج لإيصال أبنائي إلى المدارس أو شراء حاجة ما للبيت، فهذا يعني ساعات من الانتظار عند الحواجز الإسرائيلية المتمركزة أمام منزلي، ويرافقني الجنود، ليس خوفاً علينا بالتأكيد، بل خوفاً منّا. الفلسطيني أينما تحرك يشك في تصرفاته، خصوصاً مع وجود مئات المستوطنين في الشوارع هذه الأيام للاحتفال".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي حين قررت الحكومة الإسرائيلية الحظر التام على التجمعات بسبب فيروس كورونا وإغلاقها للمرة الأولى الكنيس اليهودي الكبير في القدس (مقر الصلاة الرسمي للدولة العبرية) منذ عام 1982، لم يكترث المستوطنون لتلك القرارات، ومضوا قدماً بالاحتفال برأس السنة العبرية والأعياد التي تليه.
توثيق الانتهاكات
يروي الناشط في "تجمع شباب ضد الاستيطان"، عيسى عمرو، لـ"اندبندنت عربية" أنه "نزولاً على رغبة المستوطنين ومع بدء التحضير للاحتفال بعيدي الغفران والعرش (أهم الأعياد اليهودية)، يغدو آلاف الفلسطينيين في دائرة التدقيق بهوياتهم؛ إذ يتوافد آلالاف المستوطنين من كل مكان إلى مدينة الخليل القديمة، ليس للاحتفال برأس السنة العبرية فحسب، بل لانتهاك حقوق المواطنين الفلسطينيين أينما كانوا، وبالأخص الأطفال الذين يتعرضون باستمرار للضرب والاعتقال".
يضيف عمرو "الفصائل الفلسطينية والمؤسسات الرسمية مقصرة جداً في حماية سكان المناطق المحاذية للبؤر الاستيطانية في الخليل والحرم والإبراهيمي. خلق وقفة فلسطينية جدية لحماية أحد أهم المقدسات الإسلامية بات ضرورة ملحة للجميع، وما يدفع الناس لتنفس الصعداء رغم كل تلك المعاناة أننا في التجمع (شباب ضد الاستيطان) نوثق كل الاعتداءات لحظة بلحظة بالصوت والصورة، ونفضح الجنود والمستوطنين أمام العالم وفي المواقع الإلكترونية الأجنبية؛ إذ أصبحت الكاميرات أهم سلاح بالنسبة إلينا".
ظلم اليهود
حركة "شباب هار إيل" و"منظمة العودة إلى جبل المعبد" (منظمتان يهوديتان) دعتا مع بدء الاحتفالات برأس السنة العبرية إلى اقتحامٍ واسع للمسجد الأقصى بالتزامن مع عيد الغفران اليهودي، وتلاوة الأناشيد الدينية والقومية بصوتٍ عالٍ.
وطالب السفير الإسرائيلي في الولايات المتحدة، جلعاد أردان، بـ"بضرورة تغيير الوضع القائم في المسجد الاقصى والسائد منذ 1967. فالمستوطنون اليهود لهم الحق في الدخول إلى مقدساتهم لأداء شعائرهم الدينية والصلاة في جبل الهيكل الذي يعتبر أقدس مكان لليهود وهم يتعرّضون للظلم بحرمانهم من نفخ الشوفار (نوع من البوق المصنوع من قرن الكبش) وذبح القرابين".
وترمز عملية النفخ تلك إلى كبش الفداء الذي ضحى به النبي إبراهيم بعدما همّ بذبح ابنه إسحاق وفق المعتقدات اليهودية (إسماعيل وفق المعتقدات الإسلامية) استجابة لأمر الرب في رؤيا شاهدها في منامه.
تراجع عن الإغلاق
كان مجلس الأوقاف الإسلامية في القدس قد قرر الأسبوع الماضي تعليق استقبال المصلين في المسجد الأقصى لمدة ثلاثة أسابيع، بسبب انتشار جائحة كورونا في الأراضي الفلسطينية. لكن، مع استمرار اقتحامات المستوطنين المسجد لأداء طقوس دينية، وبحماية من الشرطة الإسرائيلية، تراجع المجلس عن قراره وأبقى على المسجد الأقصى مفتوحاً أمام المصلين لصد الاقتحامات الاستيطانية المتكررة.
إمام المسجد الأقصى ورئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس، الشيخ عكرمة صبري، يقول لـ"اندبندنت عربية": "يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى إبعاد المسلمين عن الأقصى وسلخ المدينة المقدسة عن أهلها، خصوصاً في ظل الأعياد اليهودية، وعلى كل فلسطيني وعربي غيور على مقدساته الإسلامية النفير وشد الرحال إلى المسجد الأقصى والرباط فيه والدفاع عنه، لصد أي محاولة من المستوطنين لاقتحام المسجد وأداء الطقوس التلمودية في ساحاته".
وفقاً للإحصاءات، تحتل إسرائيل التي يبلغ عدد سكانها نحو تسعة ملايين نسمة، ومنذ أسبوعين المرتبة الثانية عالمياً بعد البحرين في أعلى معدل للإصابات بفيروس كورونا مقارنة بعدد السكان؛ إذ وصلت الإصابات لقرابة 200 ألف إصابة، وأكثر من 1200 حالة وفاة.