الفنون أكبر وأوسع من الأيديولوجيات بكثير، وأرحب من كل الديانات بكثير، إذ تمثل الفنون عموماً والآداب خصوصاً قلقاً وإزعاجاً للأيديولوجيا المهيمنة أو للديانة المسيطرة من حيث إنها حاملة الحرية والحلم بالتغيير.
إن الطغاة المتحكمين في رقاب العباد عن طريق أيديولوجيا إلهية أو زمنية يشغلهم كثيراً أمر البحث عن طريق استعمار رؤوس المبدعين، وبالتالي بثّ سم أيديولوجيتهم في مفاصل الإبداع لفرملة زحف الحرية.
علينا أن نفهم بأن فكر "الخنوع" الذي تفرضه الأنظمة القمعية الشمولية، الدينية أو العسكرية، على "الرعايا" لا المواطنين يتحقق، أي الخنوع، من خلال الهيمنة الأيديولوجية قبل التسييج المادي أو السجن الجسماني، فالسجن الأيديولوجي أخطر من السجن المشكّل من غرف انفرادية ومن أسوار شائكة وعالية وحرس وزبانية.
سجين الفكر يعاني أكثر من سجين الأسوار، جرح الروح وانتهاك المخيال أخطر من سلاسل المعصم وتعذيب الجسد.
عبر التاريخ البشري، كانت وعلى التوالي في كل حقبة، كل أيديولوجيا تحاول أن تضع يدها على الفنون، وأن تستفرد بها، فالستالينية حاولت أن تفرّخ فنونها في الشعر الشيوعي والرواية الشيوعية أو ما أطلق عليه اسم "الواقعية الاشتراكية" أو "السينما الشيوعية" و"الفن التشكيلي الشيوعي"، وقد خلقت لذلك ترسانة من النقاد والمنظرين للدفاع عن هذه الأطروحات الأيديولوجية الأدبية. كانت الأيديولوجيا الستالينية تدرك بأنها لن تتمكن من القبض على روح البشر إلا من خلال نصب فخ داخل الإبداع، الذي هو مجال الإمتاع والتأمل واللعب والتحرر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
النازية بدورها، وفي ريعان تألقها المتوحش، لم تغفل البحث عن تثمير أشباه المثقفين الخونة من الأدباء والسينمائيين والفنانين التشكيليين بحثاً عن صناعة أصباغ ملونة لوحش مفترس ومدمر للبشرية.
لقد بدأ الإسلاميون منذ خمسينيات القرن الماضي، بخاصة تنظيم الإخوان المسلمين، المنظمة الأم والرحم والضرع الأيديولوجي لجميع التنظيمات والأحزاب السياسية الإسلامية في العالم العربي والمغاربي والإسلامي عامة، في العمل الحثيث على تشجيع الإنتاج الفني والأدبي بشكل خاص، كي يكون الحضن الدافئ للأيديولوجيا الإخوانية المرَضية.
لا تشذّ الجزائر عن هذه القاعدة، فمنذ سبعينيات القرن الماضي عرف البلد ولادة قيصرية لأول نبتة في ما سمي بـ"الأدب الإسلامي"، وكان أول ظهور له متجلياً في "الشعر" باللغة العربية.
أمام شعارات غامضة وانتهازية رفعها النظام السياسي آنذاك، مثل "الاشتراكية الإسلامية"، لفك عزلته الشعبية التي بدأ يشعر بها مع تراكم المشكلات الاقتصادية والزراعية الديموغرافية والثقافية، سمح هذا الوضع بظهور مجموعة من الأصوات الشعرية باللغة العربية التي لم تكن تخفي أيديولوجيتها الإخوانية والخمينية أيضاً.
ما في ذلك شك، هناك كثير من القراء، من يتذكر ولو بشكل سحابي، مجموعة من الأسماء الشعرية التي ما عاد لها اليوم وزن أدبي على الإطلاق، وكانت وقتها تملأ المنابر والمنصات الجامعية والأمسيات الشعرية العامة في البلد، من أمثال مصطفى الغماري صاحب دواوين "خضراء تشرق من طهران" و"أسرار الغربة"، ومحمد بن رقطان صاحب "الأضواء الخالدة" وجمال الطاهري وأبو جرة سلطاني الذي أصبح لاحقاً رئيساً لحزب حركة مجتمع السلم "حمس" أحد فروع الإخوان المسلمين في الجزائر، وحسن خليفة وغيرهم.
وبعد ظهور هذه الأصوات في الجزائر، وأيضاً مجموعة أسماء أخرى في المغرب الأقصى من أمثال حسن الأمراني ومحمد علي الرباوي ومحمد بنعمارة، بدأ التأسيس لفروع محلية لرابطة الأدب الإسلامي العالمية في بلدان شمال أفريقيا، وهي منابر سياسية بصيغة أدبية تشتغل على مستوى الحقل الأدبي كلسان حال حزب الإخوان المسلمين، وقد تسللت بشكل واضح في الجامعات وتأسست لذلك لاحقاً مقاييس ومواد في البرامج الجامعية تهتم بهذا الأدب، وتروّج له كتابة وبحثاً ودعاية.
وفي السبعينيات، ومع صعود تيار الروابط الإسلامية للأدب، كان الشعر الصوت الطاغي في خطاباتها وعلى منابرها ومنصاتها ودور نشرها، فالشعر كان لا يزال هو "ديوان العرب" و"البربر المعربين" أيضاً.
لقد بدأ الإسلام السياسي في شمال أفريقيا، وفي الجزائر خصوصاً، بافتراس الشعر باللغة العربية أولاً، واليوم وبعد 50 سنة، تزيد بقليل أو تنقص بقليل، تغيرت تضاريس الأدب في العالم العربي وبلدان شمال أفريقيا، فقد انتقل موقع القوة الأدبية من جنس الشعر إلى الرواية، وأصبحت الرواية على حد تعبير الدكتور جابر عصفور هي "ديوان العرب"، وانتقل الاهتمام العام الصحافي والجامعي والسوق أيضاً والجوائز من الشعر إلى الرواية، وانسحب الشعر مهزوماً حزيناً إلى طرف الطاولة، وترك المجال للرواية لتتصدر الجلسة.
جراء ذلك، تغيرت أيضاً تقاليد القراءة وتغير القارئ وتغيرت المنصة والميكروفون أيضاً، كل شيء تغير في الثالوث الأدبي: الكاتب والقارئ والناشر، فالجميع يهرول نحو الرواية سيدة العصر الأدبي.
بعد أن هزمت الرواية الأجناس الأدبية الأخرى كالقصة القصيرة والشعر والنصوص المسرحية، انتقلت إلى مزاحمة الكتاب الديني السياسي الذي ظل سيد المكتبات منذ صعود التيارات السياسية الإسلامية، وبالأساس منذ ثورة الخميني نهاية السبعينيات، وشرعت في سحب وإقناع قارئ الكتاب الديني السياسي والأيديولوجي بالتوجه نحو متعة السرد.
إن إغراء الرواية بدأ يتأسس كتابة وقراءة، فهي الجنس الذي بدأ يغري أكثر فأكثر القارئ العربي والشمال أفريقي، كما أصبحت أكثر فأكثر تغري الأدباء أيضاً، وانخرط الكثيرون في مغامرة كتابة الرواية، وبعض من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والصحافيين والشعراء والنقاد الجامعيين تخلوا عن كتاباتهم السابقة والتحقوا بالرواية، في مغامرة جديدة.
مباشرة، وأمام ما حققته الرواية من مكانة في القراءة والاهتمام، فقد أسرع الإسلاميون إلى الاستثمار في هذه الفرصة الأدبية التي أصبحت شعبية، بوضع استراتيجية خاصة، بدءاً بتشجيع الكُتاب المجندين في صفوف حزب الإخوان للدخول إلى غمار السرد الروائي، فالقارئ يجب ألا يفلت من قبضة الدين السياسي، سواء من طريق الكتاب السياسي أو الكتاب السردي الروائي.
وخلال فترة قصيرة بدأنا نسمع عن شيء يسمى "الرواية الإسلامية" على غرار "الشعر الإسلامي"، ثم بدأت بعض الأسماء تقدم نفسها على الساحة الإعلامية على أنها من "الروائيين الإسلاميين"؟ ثم زحف هذا التيار على مواقع التواصل الاجتماعي، فأسس منصات خاصة بالرواية الإسلامية وبالروائيين الإسلاميين، واكتسحت مجموعة من المواقع الإلكترونية شبكة التواصل الاجتماعي محاولة أن توصل صوت الإخوان المسلمين من خلال الرواية التي سطع نجمها، خصوصاً بعد أن تأسست لها جوائز كثيرة في كل البلدان العربية تقريباً، بعضها محلي وبعضها دولي، وفيها كثير من الإغراء المادي.
وبالموازاة مع ظاهرة "الرواية الإسلامية" طفت على السطح الإعلامي والجامعي مجموعة من الدكاترة الجامعيين الذين فرخوا مجموعة من الكتب "النقدية" (بين قوسين)، تشيد وتبارك هذا التوجه الأيديولوجي في الرواية، وهو ما شجع كثيرين من الباحثين الشباب، تماشياً مع رغبة أساتذتهم وتحت ضغطهم الأيديولوجي أيضاً، على تقديم أطروحات دكتوراه وماجستير ومذكرات ماستر حول موضوع "الرواية الإسلامية".
لقد صدق الكثير كذبة الرواية الإسلامية، ولا يزال البعض يؤمن بها ويشجعها، ناسياً أو متناسياً بأن الرواية الناجحة في كل الآداب العالمية هي الصوت الجمالي الذي يدافع عن القيم الإنسانية الكبرى، وليس الأيديولوجيات المهيمنة للطواغيت، وأن هذه القيم الإنسانية لا تتجلى في صورة خطابات سياسية وأيديولوجية عارية، كما هي في الرواية الإسلامية، بل من خلال شخوص روائية حيث الحياة متدفقة بكل عفويتها وقوتها التاريخية.