وقّع الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، أحد أقدم الأحزاب السياسية السودانية، اتفاقاً سياسياً بوساطة مصرية مع حركة جيش تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، وذلك بعد أسابيع قليلة من توصل الحكومة السودانية إلى التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق السلام لإنهاء 17 عاماً من الحرب الأهلية مع الحركات المسلحة، فيما اعتبر مراقبون أن هذا الاتفاق يمثل نواة تحالفات سياسية وانتخابية تستهدف معالجة تشرذم المعارضة "التاريخية" في السودان، سعياً إلى مرحلة انتقالية "تسع الجميع" عوضاً عن التوقف عند ثنائية الجيش وقوى الحرية والتغيير (قحت) التي صبغت المرحلة الانتقالية في السودان.
ووجه طرفا الاتفاق رسائل عدة إلى المشهد السياسي السوداني، تتعلق بموقفهما من اتفاق السلام، ودعمهما للفيدرالية، وتوسيع مظلة المرحلة الانتقالية ومرجعيتها الدستورية، والتأكيد على أن صندوق الانتخابات سيكون الحكم بين القوى السياسية السودانية الساعية إلى المشاركة في حكم "سودان ما بعد ثورة ديسمبر".
التمسك بالسلام والدولة المدنية
وأكد الحزب الاتحادي الديمقراطي السوداني، بقيادة محمد عثمان الميرغني، وحركة تحرير السودان، في مذكرة التفاهم التي وقعاها مساء الأربعاء بالعاصمة المصرية القاهرة برعاية المخابرات العامة، دعمهما للفترة الانتقالية في السودان، ولاتفاق السلام السوداني الذي تم التوقيع عليه بالأحرف الأولى نهاية أغسطس (آب) الماضي في جوبا عاصمة جنوب السودان.
وشدد الجانبان على دعم الجهود المبذولة لوقف الحرب وتحقيق التحول الديمقراطي، معتبرين أن غياب المشاركة العادلة والمتكافئة بين أبناء السودان في مؤسسات الحكم على مدار كل المراحل السابقة أسهم في الأزمات والحروب والصراعات التي ظلت تخوضها البلاد، وأكد على إقرار مبدأ المواطنة المتساوية لجميع السكان، وجعله المعيار الوحيد لنيل الحقوق وأداء الواجبات السياسية والمدنية.
وبرغم أن الاتفاق نصّ على دعم جهود السلام القائمة وصولاً إلى التوقيع النهائي على اتفاق السلام، إلا أن الميرغني وصف في تصريحات صحافية عقب توقيع مذكرة التفاهم مع مناوي، اتفاقات السلام بين الحركات المسلحة والحكومة السودانية، بـ "العرجاء إلى حد ما، لأنها لم تدخل أطرافاً كثيرة من الحركات المسلحة ضمن التوقيع على تلك الاتفاقات، وإذا بقيت بعض الأطراف غير راضية أو معتقدة أن هذا التوافق لن يحل مشكلاتها، فلن توقع على اتفاق السلام النهائي، وبالتالي نحن نعمل على ضمان مشاركة الجميع ودعم مختلف الأطراف للسلام وإنجاح الاتفاق، بدلاً من الوصول إلى سلام مبتور أو غير منتهي".
"سودان الثورة" ليس حكراً على "قحت"
ويرى منتقدو قوى الحرية والتغيير التي تصدرت المرحلة الانتقالية منذ سقوط البشير، أن هذه القوى الشبابية "حديثة العهد بالسياسة"، وتحتاج إلى خبرة القادة التاريخيين و"الآباء المؤسسين" للسودان الحديث، ويؤكدون على أن الساحة السودانية تضم أطرافاً كثيرة غير ممثلة في المرحلة الانتقالية، ولم توقع على وثيقة الحرية والتغيير التي تمثل مرجعية تلك المرحلة، إذ دعا الطرفان إلى إعادة صياغة الحاضنة السياسية للحكومة لتشمل كل القوى الموقعة وغير الموقعة على إعلان قوى الحرية والتغيير.
وقال الطرفان إن الاتفاق بينهما "انتصار لثورة الشعب السوداني وكل شهداء الثورة السودانية منذ الاستقلال، انطلاقاً من المسؤولية الوطنية التي تستلزم تضافر الجهود وتوحيد الرؤى للتصدي للأزمات المتعددة التي يواجهها السودان، وسعياً إلى بناء دولة المواطنة المتساوية من خلال مخاطبة جذور الأزمة التاريخية المتراكمة، والتي أدت إلى إشعال الحروب في أنحاء السودان، حتى وصلت إلى ارتكاب النظام البائد الإبادة الجماعية في دارفور".
واعتبر القيادي الاتحادي عبدالله الشريف عبدالرحمن الهندي، في تصريحات إلى "اندبندنت عربية"، أن الاتفاق بين الجانبين يدفع جهود السلام من خلال "تعويض القصور الحاصل في مفاوضات جوبا، إذ سبق أن وقع جعفر الميرغني اتفاقاً مع الحركة الشعبية بقيادة عبدالعزيز الحلو لدعم السلام، وهذا الجهد الاتحادي الداعم للسلام يأتي بالتوازي مع جهوده لتوسيع الحاضنة السياسية للمرحلة الانتقالية التي تتمثل حالياً في قوى الحرية والتغيير، فهي لا تستوعب القوى السياسية والاجتماعية الحقيقية الموجودة في السودان".
مضيفاً، "هذا خطأ فادح وتحد كبير يواجه المرحلة التي نعيشها، واتضح ذلك في صور كثيرة، فهذه الحاضنة السياسية ضعيفة وغير كافية، ومعظمها أفراد حديثو العهد بالعمل السياسي، ما أدى إلى المشكلات التي ارتبطت بعملية تعيين الولاة التي شابتها أخطاء يمكن أن تؤدي إلى كوارث، مع أن مهمات الحكومة الانتقالية الحالية هي السعي إلى السلام، فإذا بهم ينحون مناحي خطيرة قد تؤدي إلى فتن وحروب ومشكلات مستجدة، إضافة إلى المشكلات القديمة".
اتفاق سياسي أم تحالف انتخابي؟
واعتبر مراقبون سودانيون أن من أبرز دوافع الاتفاق تلاقي المصالح الانتخابية بين الطرفين الساعين إلى المشاركة في الحكومة القادمة، إذ تسعى "حركة جيش تحرير السودان" إلى استباق توقيعها النهائي على اتفاق السلام مع الحكومة بالتحالف مع حزب سوداني عتيق له باع طويل في العمل السياسي، بينما يؤكد الحزب عودته الفاعلة في الحياة السياسية السودانية، ودعمه لمسار السلام والمرحلة الانتقالية، بعد سنوات من التهميش وإقامة زعيمه التاريخي محمد عثمان الميرغني، مرشد الطريقة الصوفية الختمية، في منفاه الاختياري بالقاهرة خلال حكم البشير.
وقال نائب رئيس الحزب الاتحادي جعفر الميرغني في كلمة موجزة خلال احتفال التوقيع، إن الاتفاق يأتي لجمع الصف الوطني لتحقيق تطلعات الوطن والمواطن السوداني في العدالة والمساواة والتنمية والحفاظ على وحدة السودان أرضاً وشعباً، مشيراً إلى العمل المشترك بين الجانبين "ليكون الرأي والتفويض والكلمة المسموعة في السودان لصندوق الانتخابات، فالانتخابات صوت المواطن، والمجلس التشريعي المنتخب هو لسانه، وبغير ذلك سنعيد الدائرة الشريرة".
وأوضح الميرغني، في تصريح خاص على هامش الاتفاق، أنه إعادة لإحياء للتحالفات القديمة التي كانت قائمة مع الحركات ضمن التجمع الوطني الديمقراطي الذي أسسه "الميرغني الأب"، وتأكيد للدور التاريخي للحزب في عملية السلام منذ الاتفاق الموقّع في الثمانينيات، واستكمال للاتفاق مع جناح "الحلو" في جوبا.
من جانبه، شدد مناوي على أهمية دور الحزب الاتحادي وزعيمه محمد عثمان الميرغني في التأسيس لعبور السودان إلى الاتفاق على قضاياه المصيرية التي أصبحت مرجعية لكل السياسيين والمناضلين فيه، معتبراً أن "الحزب الاتحادي يجب أن يكون جزءاً من الحكومة القادمة، والحاضنة السياسية للمرحلة الانتقالية، بما يؤمن الحفاظ على المرحلة الانتقالية، مؤكداً ضرورة توسيع قاعدة المشاركة في الحكم الانتقالي، وإدخال كل الشعب السوداني".
ورداً على سؤال حول مدى اتفاق الحركات المسلحة على الدعوة التي أطلقها لمشاركة "الاتحادي" في الحكومة القادمة، قال مناوي "السودان ليس مملوكاً للحركات المسلحة، بل جمهورية لكل الاحزاب السياسية، وحزب الاتحادي الديمقراطي له وجود كبير جداً في السودان، ويجب أن يشارك في حكمه".
واتفق الجانبان على تشكيل لجنة مشتركة من الطرفين تُعنى بالمتابعة وتنسيق المواقف وتطوير البرامج السياسية، وتخويلها بحق تنظيم نشاطات جماهيرية وورش عمل وفعاليات مشتركة لتحقيق بنود المذكرة.
بدوره، اعتبر المحلل السياسي السوداني مجدي عبدالعزيز أن "أية خطوات تجمع القوى السودانية مفيدة للعملية السياسية والسلمية، وهذا اتفاق نوعي بين حزب كبير وعريق في الحياة السياسية السودانية وحركة مسلحة على عتبة السلام". فيما أشار الهندي إلى أن الأحزاب الكبيرة مثل الحزب الاتحادي لديها الخبرة والشخصيات الوطنية، وليست في حاجة إلى "سياسات التمكين والاستحواذ" ولا تخشى الانتخابات العامة، في مقابل سعي الأحزاب الصغيرة إلى التمكين الآن خلال المرحلة الانتقالية، لأنها تخشى عدم إحراز مكاسب في "صناديق الانتخابات".
تجنب جدل "التطبيع" ويعوّل على المحيط العربي
وفيما تجنب الميرغني التعليق على تساؤلات الصحافيين حول انقسام السودانيين تجاه مسألة "تطبيع علاقات الخرطوم مع إسرائيل للخروج من العزلة الدولية وقائمة العقوبات الأميركية"، نص الاتفاق على "التعاون والتنسيق لبناء علاقات خارجية للسودان تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وحسن الجوار، والحفاظ على السلم والأمن الدوليين، والتعاون بين الشعوب والدول من أجل المصالح المتبادلة".
ويأتي الاتفاق وسط تقارب بين القاهرة والخرطوم، إذ تبادل البلدان خلال الشهرين الماضيين زيارات رفيعة المستوى، كان آخرها زيارة رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي التي جاءت في خضم توافق المواقف بين الجارتين، بخاصة في ما يتعلق بتعثر مفاوضات سد النهضة الإثيوبي.
وقال رئيس وحدة دراسات السودان وحوض النيل بمركز "الأهرام" للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة هاني رسلان، إن توقيع الاتفاق في القاهرة يمثل استمراراً لدور مصر الداعم لاتفاق السلام السوداني، إذ سبق واستضافت مصر وفود القوى السياسية والحركات المسلحة السودانية على مدى الفترة الانتقالية التي قاربت عامين، فضلاً عن إقامة زعيم الحزب الاتحادي في القاهرة حالياً، "إذ لم يعد إلى السودان منذ نجاح الثورة، نظراً لظروفه الصحية"، مؤكداً أن مثل هذه الاتفاقات هدفها تجسير الهوة بين القوى السياسية السودانية التي عانت تشرذماً كبيراً خلال عهد البشير، واستمرار هذا التشرذم يمكن أن يلقي بتداعيات سلبية تعرقل نجاح المرحلة الانتقالية.
وفي وقت اتفقت فيه مصر والسودان خلال زيارة مدبولي على تفعيل التكامل الاقتصادي بين البلدين، قال الميرغني رداً على سؤال لـ "اندبندنت عربية" حول إمكان أن ينص على هذا الاتجاه التكاملي دستورياً في ضوء تأكيد الاتفاق على تعديل الوثيقة الدستورية، إن "الوثيقة الدستورية القائمة ليست أمراً منزلاً بل قابلة للتعديل، وخصوصية العلاقة بين شعبي وادي النيل تنبع من روابط تاريخية وطيدة، ولا يمكن أن تتغير هذه الصلة أبداً، لكن السودان حالياً يمر بمحنة كبيرة، وهذه الأمور سيتم ترتيبها بصورة أفضل لضمان استمرار العلاقة وتقويتها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبينما أشاد مناوي بدور "الدول الصديقة التي وقفت إلى جوار الشعب السوداني، خصوصاً بعد سقوط نظام البشير"، قال إنه "ترك السودان في وضع هشّ كان يمكن أن يقضي عليه أو يؤدي به إلى الفوضى"، لكنه شدد أيضاً على أن موارد السودان وقدراته الكامنة قادرة على تلبية تطلعات شعبه في التنمية والتقدم. واعتبر قائد حركة جيش تحرير السودان، في تصريحات على هامش الحفل، أن مصر والسعودية والإمارات قامت بدور فعال في دعم المرحلة الانتقالية وعملية السلام في السودان، إضافة إلى وساطة جنوب السودان ودعم تشاد وغيرها من دول الجوار السوداني للسلام.
وقبل يومين من توقيع الاتفاق، زار مناوي مقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية في القاهرة، وبحث مع أمينها العام أحمد أبو الغيط سبل دعم السلام والاستقرار في السودان، وتنفيذ استحقاقات اتفاق السلام بين الحكومة السودانية والحركات السودانية المسلحة، إذ أكد أبو الغيط استعداد الجامعة "للاستمرار في مساندة كل جهد يصب في تدعيم الأمن والاستقرار في البلاد، وحشد الدعم العربي والدولي لتنفيذ استحقاقات السلام بين الأشقاء في السودان".
وشدد مناوي على أن "إسعاف وإنقاذ السودان سيتم بقدرات شبابية وذاتية حقيقية، وكذلك بالعلاقات بمحيطنا الإقليمي والدولي، وعلاقات الحزب الاتحادي الديمقراطي الراسخة والمتينة في الإقليم والعالم، ستدعم ذلك، ونتمنى أن تصب هذه العلاقات في مصلحة استقرار السودان، فنحن بحاجة إليها، وسنقدم كل ما لدينا لوحدة السودان ونهضته، ولذلك أقول هذا الكلام من منطلق الوضع الاقتصادي والسياسي الذي يحتاج إلى استنفار اقتصادي، وأن نعمل على ترشيد مواردنا وما لدينا من مال لمصلحة الاستقرار".
الفيدرالية والدستور الجديد
ويدعو نص الاتفاق، الذي اطلعت "اندبندنت عربية" على نسخة منه، إلى ضرورة مراجعة تجربة الحكم الاتحادي وتقويمها، "وصولاً إلى نظام حكم فيدرالي ديمقراطي، تتوزع فيه السلطات والموارد بين مستويات الحكم المختلفة توزيعاً عادلاً، واعتماد معيار نسبة سكان كل إقليم من المجموع الكلي للسكان أساساً لاقتسام وتوزيع الثروة، وإتاحة فرصة متساوية في الخدمة المدنية لأقاليم السودان بحسب نسب السكان، مع تطبيق مبدأ التمييز الإيجابي لمعالجة الحرمان التاريخي للأقاليم التي تأثرت بالحروب والنزاعات والظروف الطبيعية، وضرورة مراجعة تجربة الحكم الاتحادي، وتحقيق العدالة الجنائية في جرائم حكم نظام الرئيس المعزول عمر البشير، وإصلاح المؤسسات العدلية ومثول المتهمين أمام العدالة، وعودة النازحين واللاجئين، وإنجاح المؤتمر القومي الدستوري لإقرار دستور يعبر عن جميع السودانيين، ويؤكد عدم استغلال الدين في السياسة، للعبور بالسودان من أزماته الحالية، ويحقق التماسك الوطني، ويفوت الفرص على الجهات المتربصة بالسودان".
وفي وقت شهدت فيه مناطق شرق السودان نزاعات قبلية خلال الفترة الماضية، أكد الطرفان على ضرورة "توحيد الجهود للمحافظة على أمن وسلامة الوطن، والإسهام في الخروج بالبلاد من الأزمة الراهنة، والسير نحو إرساء واستدامة السلام والأمن والاستقرار والإصلاح الشامل، وتعزيز التماسك الوطني والتخفيف من الأعباء الاقتصادية والاجتماعية، وعدم إتاحة الفرصة على جميع الجهات التي تتربص بالسودان وشعبه، والتي تعمل على بث الفتن وإشاعة الفوضى والوصول إلى مرحلة عدم الاستقرار الأمني والسياسي، والنيل من وحدته الوطنية".