أسابيع مرت على فوز ألكسندر لوكاشينكو في الانتخابات الرئاسية ضد منافسته سفيتلانا تيخانوفسكايا التي وصفها بـ"الفتاة الصغيرة البائسة".
منذ ذلك الوقت والمدرّسة السابقة وربة المنزل تبهر نفسها والجميع بإمكاناتها. فقد ترشحت للانتخابات الرئاسية لسبب واحد هو أن لوكاشينكو سجن زوجها (الذي كان هو المرشح للانتخابات قبلها). ترأست تيخانوفسكايا حلفاً ثلاثياً من نساء سياسيات معارضات وشنّت تحت لواء هذا التكتل حملة رئاسية كادت أن تكون مثالية لولا أنها انتهت بخسارتها غير المتوقعة في انتخابات التاسع من أغسطس (آب) أمام الديكتارتور الذي يتولّى قيادة بيلاروس منذ 26 عاماً، والذي زعم أنه حقق فوزاً ساحقاً في اقتراع كان شبه مؤكد أن تفوز فيه تيخانوفسكايا بشكل مريح.
وفي ضوء العمليات القمعية العنيفة التي أعقبت الانتخابات، أجبرت تيخانوفسكايا على مغادرة البلاد. وتوقع كثيرون أن تكتب بمغادرتها نهاية مشوارها السياسي والحركة التي ترأستها، لكن لم يحصل ذلك. ففي الوقت الذي كانت تشهد بيلاروس حركة احتجاجية مدنية، لافتة للنظر ومستدامة وخلاقة بصورة متزايدة، كانت ابنة الـ38 سنة قابعة في منفاها تمر بتغيرات جذرية مماثلة، وهذه التغيرات هي التي حوّلتها من رمز للاحتجاجات إلى امرأة سياسية شرسة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"كان عليّ أن أتعلم الكثير وبسرعة"، تروي تيخانوفسكايا لصحيفة "اندبندنت". "ومما زاد في الطين بلة والتجربة تعقيداً، هو انفصالي القصري عن شعبي. ولكنني أفهم دوري بوضوح شديد – أنا بحاجة للقاء أكبر عدد ممكن من قادة العالم حتى أطلعهم على حقيقة لوكاشينكو".
وأثارت تيخانوفسكايا ضجة كبيرة بتوجيهها كلمة عبر الفيديو إلى "مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة" ((OHCHR تحثّ فيها المجتمع الدولي على إدانة الانتهاكات الحاصلة بحق البيلاروسيين أشد إدانة". يومها، قاطع السفير الرسمي لمينسك، المحسوب على لوكاشينكو، عرض الفيديو طالباً وقفه على اعتبار أنه يمثّل تدخلاً "غير مقبول" في الشؤون الداخلية لبلاده. لكن طلبه قوبل بالرفض واستكمل عرض الفيديو حتى النهاية.
واليوم، تقول تيخانوفسكايا إنها تضع اللمسات الأخيرة على قائمة جديدة بالعقوبات التي تنوي تسليمها إلى السلطات الدولية. وتحتوي هذه القائمة على أسماء الضباط والمسؤولين "الملطّخة أيديهم بالدماء"، وقد جمعتها تيخانوفسكايا بالتعاون الوثيق مع ناشطين حقوقيين يبذلون الغالي والنفيس في سبيل فضح رجال لوكاشينكو وإسقاط الأقنعة عن وجوههم، كجزء من أحدث الأساليب المتّبعة من قبل المحتجين في معركتهم غير المتكافئة مع النظام الحاكم.
وفي غضون الأيام والأسابيع التي تلت الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها، مرت الاحتجاجات البيلاروسية بمراحل عدة. فبعد فترة الإرهاب التعسفي بين 9 و12 أغسطس، أعلن النظام انسحابه المشهود وحلّت على المتظاهرين فرحة عارمة. لكن مرحلة الابتهاج لم تدم طويلاً وانتهت في أواخر أغسطس بوعد من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتوفير ضمانات أمنية للوكاشينكو. ونتيجة لذلك، أصبحت بيلاروس في حالة من الجمود وعدم الاستقرار، مع إصرار كل طرف من الطرفين المتنازعين على مواصلة معركته حتى النهاية.
فالنظام من ناحيته، يحاول التكشير عن أنيابه عن طريق شنّ حملات ترهيب مطّردة ضد زعماء المعارضة وقيادات التظاهرات بشكل خاص. وقد تمكّن لغاية الآن من اعتقال جميع أعضاء "مجلس التنسيق الوطني" لتيخانوفسكايا باستثناء واحدة. وفي خضم موجة التوقيفات التعسفية، تعرضت ماريا كوليسنيكوفا، آخر عضوات الثلاثي النسائي التي اختارت عدم مغادرة البلاد، للاختطاف - وقيل لها إنها سترحّل عن بيلاروس "حيّة كاملة أو أشلاء".
لكن رد فعل كوليسنيكوفا البطولي على احتمال ترحيلها قسراً – بتمزيق جواز سفرها عند الحدود الأوكرانية – هو دليل واضح وصريح على التصميم المتنامي لدى المحتجين الذين لا يتوقفون عن النزول إلى الشوارع بمئات الآلاف على الرغم من كل المخاطر، مستمدّين القوة والشجاعة، على ما يبدو، من التدخلات العنيفة والسفيهة التي تمارسها السلطات بحقهم.
"أؤكد لك أنها ليست معركة عادلة"، تذكر تيخانوفسكايا. "ولكنك قد تضيّع الفكرة الأساسية لو قلت إن لوكاشينكو يربح ونحن نخسر. المهم هنا هو إرادة الشعب التي لا تنكسر والمهمون هم البيلاروسيون فقط".
لكن مع مرور الأيام وتصاعد وتيرة الاعتقالات والعنف، يزداد خطر تحوّل الاحتجاجات السلمية إلى مواجهات يائسة. فمؤخرا، أضرم رجل النار في نفسه أمام مخفر للشرطة قرب مينسك في ما بدا وكأنه نذير بما تخفيه المرحلة المقبلة. وفي الوقت الحاضر، الرجل مجهول الهوية موجود في العناية المركّزة وحالته حرجة بعدما احترق جسمه بنسبة 90 في المئة.
وبرأي تيخانوفسكايا، فإن "الحدث المريع" هو نتيجة مباشرة لتجاهل البيلاروسيين (من قبل العالم الخارجي). "أراد الرجل أن يقول للعالم إننا هنا وإننا نريد التغيير، الشعب البيلاروسي يتوسل أن تساعدوه، لأنه لا يدري ما عليه فعله".
وفيما تدأب تيخانوفسكايا على تسليط الضوء على الطبيعة "الداخلية" للأزمة السياسية في بيلاروس، تأبى إلا أن تعبّر عن خيبة أملها الكبيرة إزاء الاستجابة الدولية "غير المناسبة" – وعدم فعالية بيروقراطية الاتحاد الأوروبي.
وقد تكللت جهودها أخيراً بتصويت البرلمان الأوروبي مؤخرا على قرار الاعتراف بمجلس التنسيق الخاص بها "ممثلاً مؤقتاً للشعب البيلاروسي" وعدم الاعتراف بفوز ألكسندر لوكاشينكو المزعوم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. لكن خطوته (البرلمان الأوروبي) المتدرجة هذه جاءت متأخرة، كيف لا وهو كان قد أوقف تنفيذ العقوبات بحق السلطة الحاكمة في بيلاروس جراء خلافات داخلية، واكتفى بتوجيه إدانة بسيطة للدعم الروسي للوكاشينكو؟
"نحن نفهم أنه من الصعب على بعض الأوروبيين أن يدركوا ويستوعبوا حقيقة ما يجري في بيلاروس، فعمليات الاغتصاب والاعتداء والإبادة التي نتكلم عنها بعيدة كل البعد عما هم معتادون عليه نسبياً"، تشرح تيخانوفسكايا. "لكن على الاتحاد الأوروبي أن يكون أكثر حزماً وأكثر شجاعة. وإلا فسيكون مصير الكثير من الناس كمصير هذا الرجل المسكين".
وفي الوقت الراهن، تعي تيخانوفسكايا أن احتمالات التأثير في موقف اللاعب الدولي الرئيس في الكرملين ضئيلة وتتقبلها. "أحزننا جداً وقوف" بوتين "مع الديكتارتور ضد الشعب"، تشير تيخانوفسكايا. لكن ما اتفقت عليه موسكو ومينسك على وجه التحديد لا يزال "غير واضح المعالم" والدعم المخصص للوكاشينكو ليس نهائياً: "كل ما نعرفه أنه سيكون هناك قرض روسي بـ1.5 مليار دولار أميركي. وهذا القرض لن يستخدم لمصلحة البلاد – إنما لضرب الشعب البيلاروسي واغتصابه وقتله".
وعلى الرغم من هذا القبول وهذه الإيجابية، ترفض تيخانوفسكايا رفضاً قاطعاً إنهاء الأزمة وفقاً لشروط روسيا – وعملاً بمشروع الدستور الجديد للوكاشينكو ونتائج الانتخابات الأخيرة المزوّرة، ضاربةً عرض الحائط بالتقارير التي تفيد عن ممارسة الكرملين ضغوطاً جبارة من أجل استكمال العملية في غضون عام واحد، مقابل عامين للوكاشينكو.
"أعتقد أن عاماً من المزيد من الضربات والمزيد من الاغتصاب والمزيد من استبداد لوكاشينكو هو عام طويل جداً"، تجزم تيخانوفسكايا. "يمكننا أن نتفاوض بكل هدوء لنتوصل إلى اتفاقات. لكن لا يمكننا أن نعمل من دون سيادة القانون".
فزمن الدبلوماسية اللطيفة شارف على نهايته، على حدّ تعبير قائدة المعارضة التي أرهقتها الظروف وأعطتها دروساً في العزيمة، كما يتضح جلياً من عنوان القناة الخاصة بها على إنستغرام - prezident.sveta - التي بدأت عرضها الأول الأسبوع الماضي.
"لطالما كنت شخصاً ناعماً، لكن الوضع الحالي أثّر فيّ" وزادني "صلابة وثقة بنفسي ووعياً بقدراتي".
"نعم، ثقتي بنفسي تزداد يوماً بعد آخر – أسوةً بالغضب الذي يتملكني إزاء ما يحدث في بيلاروس".
© The Independent