بعد ظهيرة يوم من أيام العمل الأسبوعية تقف خطيبة غاضبة وسط مدينة ليدز وتخبر جمعاً من المارة يضم نحو 40 شخصاً أن فيروس كورونا خدعة اخترعتها جماعة سرية من النخبة العالمية الساعية لفرض سيطرتها على باقي البشر.
وتصيح وسط تصفيق الحشد "هذه ليست نظرية مؤامرة. إنه بيل غيتس".
وقد اكتشفت الحقيقة، كما أخبرتني، بعد أن بدأت بالتشكيك في أحوال العالم حولها أثناء فترة الإقفال العام. أين وجدتها؟ في منشورات على "فيسبوك" وفيديوهات على "يوتيوب"، على ما يبدو "لكنها تُمحى بسرعة شديدة". كما تقول، "لأنهم جزء من المسألة كذلك".
أهلاً بكم في محطة ويست يوركشاير ضمن حملة "جولة حقيقة كوفيد-19" التي تتوقف في 27 محطة في المملكة المتحدة بتنظيم من مجموعة متفرقة من المشككين بكورونا. الجمع هنا مناهض للحجر والكمامات واللقاحات، ولكن الأهم من ذلك أنه مناهض (خذوا نفساً عميقاً) لمؤسسات شركات تصنيع الأدوية الكبرى والمال والإعلام والعلم والتكنولوجيا والصناعة، التي إما خلقت أو ضخمت فيروس كورونا المستجد، كما يقولون، في محاولة لمضاعفة ثروات الأثرياء وسحب الحريات من باقي الناس وتأسيس حكومة عالمية شاملة.
"لا يقتصر الموضوع على بيل غيتس"، كما يشرح المسؤول عن تنظيم كل هذا، الرجل البالغ من العمر 57 عاماً، الذي لا يعرف عن نفسه سوى باسم دايف المزعوم (Allegedly Dave). "ليس سوى واحد منهم. هم يسيطرون على النظام المصرفي العالمي وعلى غالبية الحكومات ومنظمة الصحة العالمية".
ما الهدف من استحداث فيروس كورونا؟ "قرروا أن عددنا كبير جداً، كثير من مستهلكي الطعام غير الضروريين، لذلك سيطبق هذا اللقاح تكنولوجيا تحكم السيطرة علينا".
يكفي القول إنه حتى مع ذهن منفتح، الكلام مغال في العبثية.
تُثار خلال الحديث مع الموجودين هنا مجموعة من المراجع المتباينة (اشتهاء الأطفال (البيدوفيليا)، وتظاهرات بيلاروس، وسياسة تغطية الوجه على متن قطارات شركة نورذرن ريل Northern Rail) وتؤدي جميعها بطريقة أو بأخرى إلى تلك النخبة السرية. وقال أحد الرجال اسمه جون وانتلينغ، وهو متقاعد من العمل في إحدى الكليات إنه حرر رسالة لشركة نورذرن ريل يشتكي فيها من أن اشتراطها ارتداء الكمامات على متن القطارات هو الخطوة الأولى في طريق فرض قانون عرفي عالمي. ويلحظ أن الشركة "لم ترد بعد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن الحق يُقال إن بعض المخاوف التي أثيرت خلال فترة بعد الظهر مشروعة، أزمة صحة ذهنية وشيكة، واقتصاد يغرق، وسلامة اللقاحات المحتملة. لكن المشكلة هي في أن من يثيرونها سرعان ما ينحرفون عن مسار الحديث، ليسقطوا في هاوية مواضيع العلماء المرتشين وزراعة الرقائق الإلكترونية في أجسام المجتمعات، وكما هي الحال في هذه السيناريوهات عادة، كثير من التصورات المعادية للسامية. ومع أن رئيس مايكروسوفت بيل غيتس احتل موقع الشرير الأول، لم ينفد جورج سوروس اليهودي من التقريع أيضاً.
وانتقالاً إلى نقطة غير متصلة كلياً بالنقطة الأخيرة: بيرس كوربين (شقيق جيريمي- زعيم حزب العمال السابق) له مشاركة رئيسة في الجولة. ويقول للحشد في إشارة إلى الكمامات والتباعد الاجتماعي وغسل اليدين "هذه ليست إجراءات هدفها السيطرة على الفيروس، بل هي إجراءات من أجل التحكم بكم".
في الأيام الطبيعية، لا شك أن كل هذا يقع في خانة بين المشهد الكريه والمضحك إلى حد ما. إنما في ليدز (في شمال إنجلترا) اليوم، لفت الموضوع انتباه كثير من المارة.
لكن فيما تعصف جائحة بالعالم، يتعاظم الخوف من أن المعلومات الكاذبة الصادرة عن حائكي نظريات المؤامرة مثل هؤلاء تمثل خطراً متنامياً على الصحة العامة، وعلى الثقة في المؤسسات والخبرة التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطية الغربية.
والخوف مرده إلى أن المعلومات هذه، مهما بدا هذا الكلام غريباً، تستقطب جمهوراً أوسع وتنتشر في متن التيار الفكري السائد وتلوث النقاش المنطقي حول فيروس كورونا والثقة في العلم القائم على الأدلة. ومن يتفاعل مع هذه النظريات الشاذة لا يميل لاتباع إرشادات الصحة العامة، كما وجدت الدراسة التي أجرتها جامعة أنغليا راسكين Anglia Ruskin University.
وقال الدكتور جوفان بايفورد، أحد كبار المحاضرين في علم النفس في الجامعة المفتوحة (Open University) كاتب نظريات المؤامرة، مقدمة نقدية "إن لم تُضبط هذه الأفكار، يمكنها التسبب باختلال حقيقي في المجتمع".
ويبدو من المؤكد أن عدد الناس الذين يتفاعلون معها في عصر كورونا قد ازداد أكثر من أي وقت مضى.
شاهد أكثر من 10 ملايين شخص حول العالم الوثائقي المزعوم "Plandemic" (مخطط الجائحة)، فيما شهد نحو 147 حساباً وقناة ضد التلقيح (وهي المواقع التي يقال فيها للأهل إن عليهم ألا يُعطوا أطفالهم لقاح شلل الأطفال) زيادة في عدد متابعيهم بلغت 9.2 مليون شخص منذ بداية الإغلاق العام، وفقاً لمركز مناهضة الكراهية الاإكترونية الذي يتخذ من لندن مقراً له Centre For Countering Digital Hate.
وفي إحدى الحالات، لم يتوقف الأمر عند انتشار سلسلة من المنشورات على "فيسبوك" تربط تقنيات اتصالات الجيل الخامس بكوفيد-19، بل أدت هذه المنشورات إلى اعتداءات على أعمدة الهواتف. فقد دُمر أو خُرب نحو 75 عاموداً في أنحاء المملكة المتحدة وفقاً لاتحاد مشغلي شبكات الهواتف النقالة موبايل يو كاي (Mobile UK).
ويقول الاتحاد إن معظم هذه الأعمدة لم توضع عليها في الحقيقة أجهزة إرسال لشبكة الجيل الخامس.
وربما ما يحمل على القلق هو أن عديداً من هذه الأفكار يختلط الآن مع نظرية المؤامرة القديمة كيو أنون QAnon - وتزيد من شعبيتها، وهي من النظريات الملتوية المفضلة في أوساط اليمين الأميركي المتطرف، وتقول إن دونالد ترمب يحارب عبدة شيطان يشتهون الأطفال (معظمهم يهود بالطبع) ويحكمون العالم في السر. وزادت نسبة أعضاء حركة كيو أنون على "فيسبوك" 120 في المئة منذ مارس (آذار) وفقاً لمعهد الحوار الإستراتيجي. وحين تظاهر ما يُقدر بحوالي 10 آلاف شخص ضد الإجراءات المتخذة في إطار جبه فيروس كورونا في لندن أواخر الشهر الماضي، ظهرت لافتاتهم في كل مكان.
في الوقت نفسه، زادت شعبية من يروجون لأفكار الجائحة الكاذبة. ويحظى تفكير ديفيد آيك (الذي تحدث خلال مسيرة لندن المذكورة سابقاً) بإعجاب لم يكن المرء ليعتقد أنه ممكن بالنسبة لشخص يدعي أنْ العائلة المالكة مجموعة من السحالي المتنقلة عبر الأبعاد الزمنية والمكانية. أما كايتي شاميراني مثلاً، الممرضة الموقوفة من العمل، التي أصبحت رمز حركة مناهضة التطعيم، فقد تضاعف عدد متابعيها على "تويتر" ثلاث مرات خلال الشهر الماضي، على الرغم من (أو بسبب) تفوهها بملاحظات ذكية مثل مقارنة الإغلاق بمحرقة اليهود، الهولوكوست.
وسألت في إحدى كتاباتها، متى يستيقظ الناس. "هل وهم على متن قطار نقل الماشية؟ أم في حجرات الاستحمام"؟
وحين أسألها عن هذا التعليق خلال مكالمة هاتفية، تتمسك بموقفها. وتصرح السيدة البالغة من العمر 54 عاماً قبل أن تؤكد على غياب أي دليل على وجود فيروس كورونا جديد "ما يحصل استبداد. وأنا أؤمن (وأنا على يقين تام) أنه مع اللقاح الجديد، سترون ارتفاعاً كبيراً (في عدد الوفيات) بسببه. ولذا لا أعلم كيف تسمي ما يحصل، لكن أنا أسميه إبادة جماعية. وأسميه جريمة قتل".
يوم السبت، خاطبت حشداً من ألفي شخص اعتُقل فيه 32 شخصاً وسط اشتباكات مع الشرطة. ووصفت المتظاهرين بعدها بقولها إنهم "رجال بحق". ويستمر متابعوها بالتكاثر.
ربما السؤال الأهم إذاً هو، لماذا استقطبت هذه الآراء الغريبة كما هو واضح جمهوراً كبيراً نسبياً خلال الأشهر الستة الماضية.
يقول عمران أحمد، رئيس مركز مناهضة الكراهية الإلكترونية "خلق كوفيد الظروف المثالية لحائكي نظريات المؤامرة. فالناس يعزلون أنفسهم داخل منازلهم، ويقضون مزيداً من الوقت على شبكة الإنترنت محرومين من اتصالهم العادي بالأصدقاء وزملاء العمل، الذين قد يمثلون في الأوقات الطبيعية مصادر للمعلومات والمنطق. وهم في الوقت نفسه تواقون للعثور على المعلومات بسرعة أكبر من وتيرة توفرها، ما يدفع بهم نحو فضاءات شبكة الإنترنت التي تقدم إجابات خاطئة".
والمسألة الأخيرة أساسية، كما يقول الدكتور بايفورد مجدداً
ويشرح أن "نظريات المؤامرة تميل إلى الازدهار في أوقات الشك، وحين يقع حدث درامي، وحين يُنظر إلى التفسير الرسمي لما يحدث على أنه غير مناسب، أو أنه يتعارض مع خطورة الوضع. وما يحدث هو تنافر معرفي. إذ إن الحادث الذي وقع خلف أثراً بالغاً في حياة الناس لدرجة أنه لا شك يتطلب تفسيراً درامياً أكثر من كونه ببساطة (في هذه الحالة) فيروساً انتقل من فصيلة إلى أخرى بكل بساطة".
ويضيف أنه بينما ما زالت المعلومات المؤكدة حول الفيروس قيد الجمع، ومع وجود اختلاف كبير في أغلب الأحيان بين النتائج التي يستخلصها العلماء من جهة والحكومات من جهة أخرى حتى انطلاقاً من بيانات يتفقون عليها، قدمت النظريات الخادعة يقيناً (كاذباً) للناس خلال فترة من الضغط الشديد.
ويوضح أن النظريات هذه "تقدم رواية تشرح بمنطق وبساطة وضعاً معقداً. ومن خلال خلق وتقديم كبش فداء، تعطي هدفاً لتوجيه مشاعر الغضب أو السخط التي لا نعرف إلى أين نوجهها في غيابه".
وزاد بعض المشاهير الوضع سوءاً
كانت مادونا وآلان شوغار ووودي هارلسون وأمير خان من بين الذين روجوا لنظريات المؤامرة على وسائل التواصل الاجتماعي وعرضوا هذه الأفكار الخاطئة أمام جمهور واسع. كما شارك لويس هاميلتون فيديو مع متابعيه على "انستغرام" وعددهم 18 مليوناً، يشار فيه إلى أن اللقاح قد يُستخدم وسيلة لزرع رقائق إلكترونية في أجسام الناس. من قد يقف وراء هكذا عمل لعين؟ بيل غيتس، وفقاً للفيديو. قام الحائز ست مرات على بطولة سباق السيارات "الفورمولا وان" بحذف الفيديو لاحقاً لكن ليس قبل أن تشاهده أعداد هائلة من الناس.
من جانبه، لم يكتفِ المغني فان موريسون بوسائل التواصل الاجتماعي، بل لحن هذه الرسالة. وقد أطلق ثلاث أغان جديدة يبدو فيها كأنه يشكك في وجود كوفيد-19. وينشد في إحداها "علماء يخترعون حقائق محرفة... يتظاهرون أن الهدف سلامتنا بينما هو استعبادنا".
يمكن القول بصدق إنها ليست بجودة أغنية "بنية العينين" Brown Eyed Girl.
في الأحوال كلها، بينما ليست هذه المرة الأولى التي تظهر فيها نظريات مؤامرة لتفسير وقوع جائحة، اعتقد كثيرون أن الإنفلونزا الإسبانية في العام 1919 كانت سلاحاً بيولوجياً ألمانياً، ربما الذي تغير الآن هو سرعة مشاركة وانتقال هذه الأفكار واكتسابها التأييد في عصرنا الافتراضي.
وهذه بالتحديد الأحجية التي يجب حلها برأي الخبراء. وتتكاثر الأفكار الخادعة والشاذة والعلم المزيف مدفوعة بالمؤمنين بها والجهات الخبيثة على حد سواء، بسرعة كبيرة عبر شبكة الإنترنت، فيصبح من المستحيل الاستمرار في صدها باستخدام الحجج العقلانية والمنطق المضاد.
"فيسبوك" وحده يقول إنه حذف 7 ملايين منشور فيها معلومات خاطئة لدرجة الخطر حول كوفيد-19 بين أبريل (نيسان) ويونيو (حزيران) وصنف 98 مليوناً غيرها على أنها موضع شك. لكن تقديرات مركز مناهضة الكراهية الإلكترونية تفيد، بأن 95 في المئة من كل المعلومات الخاطئة المتعلقة بكوفيد-19 ما زالت موجودة على الإنترنت كما هي.
هو ببساطة أشبه بسيل جارف. والأهم أنه يبقى بلا أي إجابة مُقنعة.
ويقول أحمد "نحن بحاجة لخليط من المُعلنين الذين يستخدمون نفوذهم باعتبارهم العملاء الرئيسين لمنصات التواصل الاجتماعي، وأنواع جديدة من الضبط والقوانين الحكومية من أجل منع الناس من الانجرار إلى أكاذيب أصحاب الدعاية المحترفين".
ويبقى السؤال المعلق هو مدى سهولة تحويل هكذا اقتراحات إلى حقيقة. ومدى فعاليتها.
في الوقت الراهن، بالعودة إلى ليدز، وفيما تهدأ الأمور قليلاً، يقول "دايف المزعوم" Allegedly Dave للحشد إن الجولة تبلغ ذروتها السبت في لندن. وهو يرغب في أن ينزل مليون شخص إلى الشوارع ليشاركوا في ما يسميها (ربما بشكل طموح للغاية) "مسيرة القرن".
وأسأله، ألا يقلق أبداً من أنه قد يكون مخطئاً وباقي الأشخاص مثلنا (الخراف والسائرون وهم نيام) على حق؟ ألا يقلق من أن كلماته ومسيراته قد تعرض الصحة العامة للخطر، أو تودي بحياة الناس؟ كلا، يجيبني. "كل ما نفعله هنا هو أننا نقدم ترياقاً مضاداً لكم أنتم يا وسائل الإعلام. ونكشف للناس القصة الحقيقية التي يجري التستر عليها".
© The Independent