يظل التصدي للحديث عن حرب السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1973 وما قبلها، مهمة تنوء بحملها الجبال. وقد يقول قائل إن الصحافي ليس في مقدوره أن يكتب التاريخ، وذلك صحيح، فمثل هذه المهمة قد تتجاوز قدراته وطاقاته، لكن الصحيح أيضاً أن الصحافي يبدو أقدر من كثيرين على الاضطلاع ببعض أعباء مثل تلك المهمة، من منظور متابعة ورصد تلك الأحداث التي يكون التاريخ قاده إلى الانخراط في بعضها، ربما بمحض صدف رتبتها الأقدار من دون مقدمات موضوعية أو ذاتية، وليكون مشاركاً في ما جرى من تطورات، وبما قد يجعله الأقدر على تقديم "شهادة" يمكن أن تكون فيها فائدة أو إفادة، وربما تكون سنداً أو قرينة.
ذلك ما كتبناه في مقدمة كتابنا "القاهرة - موسكو. وثائق وأسرار"، الذي صدر في العام الماضي حول العلاقات المصرية السوفياتية، وتضمن كثيراً من أقوال شهود عيان تلك الفترة التاريخية التي امتدت لتشمل بين ثناياها الكثير من الأحداث والتطورات المحورية، وتظل حرب السادس من أكتوبر في مقدم هذه التطورات، وهذا ما يؤكده ما اطلعنا عليه من وثائق ومذكرات، وما استمعنا إليه من نجوم ذلك الزمان، من السوفيات والمصريين على حد سواء، فضلاً عما عاصرناه من أحداث، من خلال عملنا كمترجم مع أول الوفود العسكرية من الخبراء السوفيات، حضر المحادثات وعاصر التطورات، وما شملته من تدريبات ومناورات.
ومن هنا نبدأ فنقول إن حرب أكتوبر 1973 تستمد بداياتها من قرار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر حول الاستعداد للحرب من أجل "تصفية آثار عدوان الخامس من يونيو (حزيران) 1967" بعد عودته عن قرار التنحي عن السلطة تحت ضغوط زحف الجماهير، وطلب القيادة السوفياتية التي وعدته بتأمين ما يطلبه من دعم عسكري ومعنوي. ففي الـ 11من الشهر نفسه، استدعى عبدالناصر كلاً من الفريق أول محمد فوزي والفريق عبد المنعم رياض لتكليفهما بمهمة إعادة بناء القوات المسلحة، مستعيناً بدعم الاتحاد السوفياتي، وما سيقدمه من أسلحة حديثة، وخبراء عسكريين قاموا بمهمتهم على نحو سرعان ما أتى بثماره. غير أن الأقدار شاءت ألا يكمل عبدالناصر هذه المهمة، بعدما وافته المنية في 28 سبتمبر (أيلول) 1970، وإن كان رفاقه وجنوده شهوداً على أنه كان قريباً من تحقيقها، فقد استطاع من خلال حرب الاستنزاف وبناء حائط الصواريخ وبدء تدريب قواته المسلحة على عبور القناة في منطقة الخطاطبة بشمال غربي مصر، إعداد جيش قوي قادر على تنفيذ المهمة بما اتخذه من قرارات حول تعيين الفريق فوزي وزيراً للحربية، والفريق رياض رئيساً للأركان، واستدعائه للخبراء السوفيات، ممن كلفهم بضرورة الانتهاء من هذه المهمة في غضون عام أو عامين.
وما إن وصل الرئيس أنور السادات إلى سدة الحكم خلفاً لعبدالناصر حتى تعالت الهمهمات، وتناقلت الألسن الحكايات التي تقول بتحولات في السياسات، ومنها ما يتعلق بفك الارتباط مع الاتحاد السوفياتي، والجنوح صوب التقارب مع الولايات المتحدة، وقد كشف سكرتير مجلس الأمن القومي الأميركي ووزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر لاحقاً في مذكراته عن اتصالات من جانب السادات بحث من خلالها عن حلول للأزمة، قال عنها لاحقاً إن الولايات المتحدة تملك 99 في المئة من أوراقها.
غير أن القوات المسلحة كان لها رأي آخر، يتلخص في ضرورة الاضطلاع بمهمة غسيل عار الهزيمة واستعادة الأرض المحتلة، "فما أخذ بالقوة، لا يسترد بغير القوة"، على حد قول عبدالناصر، الذي لم يكن يستبعد أيضاً الحلول السلمية إذا كانت في إطار يحفظ للجندي المصري كرامته، ويعيد للوطن أراضيه.
وبينما كان الجيش والشعب في انتظار قرار الحرب الذي تأخر "لسبب أو لآخر"، اتخذ الرئيس السادات قراره حول "طرد الخبراء السوفيات" لأسباب عزاها إلى "رغبته في ألا يكون هناك خبراء سوفيات على أرض مصر في حال اتخاذ قرار الحرب، حتى لا يظهر من ينسب النصر وتحرير الأرض إليهم"، وهو ما فنده هنري كيسنجر في مذكراته التي اختار لها عنوان "الأزمة". كشف كيسنجر أنه صارح "الوسيط العربي" الذي كان السادات طلب منه استطلاع رأي الولايات المتحدة في العثور على الحل السلمي للخروج من الأزمة، بإعلانه عن "صعوبة ذلك، طالما يوجد عسكريون سوفيات في مصر"، وذلك ما عقد عليه السادات النية، واتخذ في شأنه قراره "حول إنهاء مهمة الخبراء السوفيات في مصر في يوليو (تموز) 1972".
تدهور سابق للعلاقات
لكن الإعلان عن ذلك، سبقته أحداث تقول بتدهور العلاقات بين البلدين رصدتها القيادة السوفياتية في حينه، وسجلها رئيس أركان القوات المسلحة الفريق سعد الشاذلي بعد استشهاد الفريق رياض على خط الجبهة، في مذكراته التي صدرت تحت عنوان "مذكرات حرب أكتوبر 1973" عن دار بحوث الشرق الأوسط الأميركية عام 2003.
وتتضمن هذه المذكرات تفاصيل "مزاعم" تهريب الخبراء السوفيات لما وصفه وزير الحربية آنذاك الفريق محمد صادق، بأنه "كميات من الذهب يبلغ وزنها حوالى 80 كيلوغراماً". وأكد الفريق الشاذلي في مذكراته عدم صحة الاتهام، بما يعني ضمناً تعمد الاستفزاز والرغبة في تشويه الحقائق. وقال الفريق الشاذلي إن ما عثر عليه رجال الجمارك من "كميات كبيرة من الذهب" لم يتعد "كيلو غرام واحد و200 أوقية من الهدايا والمشغولات الذهبية حملها 71 من الخبراء السوفيات لدى عودتهم إلى بلادهم، أي بمعدل 17 غراماً لكل منهم، وليس 80 كما قيل آنذاك". (ص 167).
وكان الجنرال رئيس بعثة جهاز الأمن الروسي في الشرق الأوسط فاديم كيربيتشينكو كتب في مذكراته عن هذه الواقعة "إن الاتصالات السرية بدأت مع الرئيس نيكسون باكراً، فيما أشار إلى بعض المشاهد الاستفزازية في حق الخبراء الروس، ومنها واقعة احتجاز 71 خبيراً مع أفراد عائلاتهم في مطار القاهرة في 8 مايو (أيار) 1972، وتفتيشهم قبيل عودتهم إلى الوطن بحثاً عما قيل إنه ذهب مصر".
وإحقاقاً للحق، فقد استشاط الرئيس السادات غضباً، وكان في زيارة إلى ليبيا، وطالب الفريق صادق بالسفر إليه فوراً بصحبة رئيس الوزراء عزيز صدقي، فيما كلفه بسرعة تسوية المشكلة وإنهاء الأمر. وذلك ما حدث بالفعل.
وبالرغم من ذلك فقد كانت هذه الحادثة، وما سبقها من أحداث تتسم بطابع غير ودي مع السوفيات، مقدمة لقرار السادات حول "طرد الخبراء السوفيات" في يوليو من العام نفسه. وحول هذا القرار نقل إريك رولو مراسل صحيفة لوموند الفرنسية في القاهرة في حديث نشرته الأهرام القاهرية في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2012، عن هنري كيسنجر، تصريحاته التي سخر فيها من هذا القرار الذي وصفه بأنه "خطأ فادح". وقال "لو أن السادات حاول وضع ثمناً لمبادرته تلك قبل أن يشرع في تنفيذها، لكنا دفعنا فيها ثمناً غالياً جداً".
على أن ما تلا ذلك من أحداث وتطورات، إلى جانب أسباب أخرى كثيرة جرى الإعلان عنها في أكثر من مناسبة، كانت وراء اتخاذ قرار الحرب، على نحو اتسم في حينه بالكثير من الذكاء والحكمة في آن، اعتماداً على ما تحقق للقوات المسلحة من خبرة ودراية وتدريبات طالت لما يزيد على الست سنوات.
وحول أجواء تلك الفترة، كتب الفريق الشاذلي يقول إن "القطيعة لم تبلغ مداها، وإن الطرفين نجحا في الحفاظ على شعرة معاوية، وإن حرص كل منهما على عدم إطلاع الآخر بما يعرفه عن نواياه ومخططاته. وكان تخطيطنا وتحضيرنا للهجوم يتمان في سرية تامة من دون أي إخطار للاتحاد السوفياتي. وقبل المعركة بأسبوع أمر الرئيس السادات بأن نقوم بإخطار الجانب العسكري السوفياتي باحتمال قيام العمليات، ولكن بشكل عام لا تبدو منه نيتنا للهجوم".
الاستعداد للحرب
ومع ذلك لم يستبعد الفريق الشاذلي أن يكون العسكريون السوفيات على بينة مما كان يبدو من مظاهر الاستعدادات لهجوم. وقال إنهم لا بد أن يكونوا أطلعوا قياداتهم على ما يجري من استعدادات غير عادية. وقال أيضاً إن الأقمار الصناعية السوفياتية لا بد أن تكون سجلت هذه الاستعدادات على الجبهتين المصرية والسورية. وضرب مثالاً على ذلك، بإرسال طائراته لنقل خبرائه ومواطنيه في الرابع من أكتوبر 1973، بما يعني ضمنا تأكيده أن هناك من الخبراء والمستشارين السوفيات من بقي حتى بعد اندلاع الحرب.
وفي هذا الصدد، ذكر السفير السوفياتي في القاهرة فينوغرادوف أنه التقى الرئيس السادات أكثر من مرة قبل السادس من أكتوبر. وكشف في مذكراته التي نشرها بعد عودته إلى موسكو أنه التقى مع الرئيس السادات في 22 سبتمبر 1973 في برج العرب غربي الإسكندرية. وقال إنه حاول اختبار رد فعله في حال انفجار الموقف الذي وصفه بأنه لا يطاق. وتذكر السفير السوفياتي ما قطعه السادات على نفسه من وعود في شأن التشاور مع الأصدقاء السوفيات، في الوقت نفسه الذي كان يرصد فيه بعض التغيرات في الشارع المصري، ومنها ظهور الكثير من العسكريين في ملابس الميدان.
وعاد ليقول "إنه اُستدعي للقاء السادات في مقر سكنه على ضفاف النيل والكائن على مقربة من مقر السفارة السوفياتية، وتعمد الإشارة كثيراً إلى ما وصفه باستفزازات إسرائيل، واحتمال نفاد صبر المصريين. ورداً على تساؤلاتي في شأن احتمالات الحرب، قال السادات إنه لا بد أن يبلغه به في الوقت المناسب".
وأضاف فينوغرادوف أن السادات لم يكشف له عن شيء محدد، لكنه طلب منه البقاء في القاهرة، وأن يكون في متناول اتصالاته التليفونية.
ومضى يقول "ولذا كان من الطبيعي أن أقوم بإبلاغ الرئيس تلفونياً في اليوم التالي بقرار موسكو إجلاء الأطفال والنساء من عائلات العاملين السوفيات، وأطلب منه مساعدته لدى السلطات المصرية لتسهيل القيام بهذه المهمة، وهو ما استجاب له".
وأضاف السفير "لقد استطعنا في خلال فترة وجيزة إجلاء ما يزيد على 2700 من الأطفال والنساء السوفيات، إلى جانب ما يقرب من الألف من عائلات العاملين السوفيات وموظفي سفارات البلدان الاشتراكية، وعادة ما كان يتم نقلهم ليلاً إلى الإسكندرية التي أبحروا منها على متن السفن البحرية السوفياتية، أو على متن طائرات خاصة من مطار القاهرة قبل اتخاذ قرار إغلاقه".
أما عن معرفة السوفيات بموعد الحرب، بالرغم من كل ما تداولته المصادر المصرية الرسمية حول سرية قرار الحرب، فقد كشف السفير السوفياتي عن أن الرئيس السادات استدعاه إلى قصر الطاهرة صباح السادس من أكتوبر ليبلغه بقرب احتمالات المواجهة. وقال إنه أبلغه بأن "الموقف يتطور، فيما تتواصل الاستفزازات الإسرائيلية، وهناك ما قد يحدث في غضون أربع ساعات. لقد كان يريد أن يكون السفير السوفياتي على مقربة خلال تلك الأيام والساعات، لكنه وبعد برهة وجيزة قال باستحالة ذلك بسبب ضرورة أن يكون السفير السوفياتي على اتصال دائم بموسكو".
على أن السفير السوفياتي عاد ليقول إن السادات تملص من الإدلاء بأية معلومات محددة حول الموقف، بالرغم من كل ما بذله من محاولات لاستجلاء مكنون الأمر، لكنه أدرك أن الحدث الجلل واقع لا محالة، وأن السادات حرص من خلال ذلك على تأكيد أنه لم يحنث بوعده، وأنه أبلغنا بموجب العهد الذي قطعه على نفسه بالتشاور معنا.
ومضى السفير فينوغرادوف ليسرد حكايته حول إبلاغه بقرار الحرب ليقول "إنه عاد إلى مقر السفارة من قصر الطاهرة عند ظهر السادس من أكتوبر، وانصرف إلى تسيير بعض الأمور، وتناول طعام الغذاء الذي قال إنه حرص عليه تحسباً لعدم توفر الوقت لاحقاً لتناوله. وقرابة الثانية ظهراً تعالى رنين جرس الهاتف، وطلبت من سكرتير السفارة وفا جولي زاده تناول السماعة. وما إن التقطها حتى التفت إلي ليبلغني بأن الرئيس السادات على الخط. وتعالى صوت الرئيس يقول "يا سفير. لقد عبرنا إلى الشاطئ الشرقي للقناة. لقد عبرنا القناة".
أما عن الاتصالات المتبادلة بين السادات والسفير السوفياتي، فقد قال عنها "إنها كانت تتم يومياً تقريباً، بل أحياناً أكثر من مرة في اليوم الواحد، وكان بعضها يتم بحسب تعليمات الرئيس عبر هاتف دائرة الاتصالات الحكومية المصرية المغلقة".
واعترف السفير السوفياتي بما تحقق من نجاحات هائلة على الصعيد القتالي في الأيام الأولى للحرب، مؤكداً ما تكبدته القوات الإسرائيلية من خسائر هائلة بسبب ما عزاه إلى الكفاءة والقدرات العالية لأسلحة الدفاع الجوي والمدفعية. وأكد أيضاً أن القوات المصرية استطاعت خلال ساعات معدودة تعزيز تقدمها وتمركزها على الشاطئ الشرقي للقناة من دون خسائر تذكر، لم تتعد نسبة 10ـ 15 في المئة، بالرغم من أنه كان من المقدر أن تبلغ نسبة 30 في المئة، كما أن الإسرائيليين عجزوا عن القيام بأية هجمات مضادة بفضل كفاءة القوات المصرية وما تمتعت به من غطاء جوي.
واستطرد السفير فينوغرادوف يقول "إن الرئيس السادات كان منتشياً من القدرات العالية للتسليح القتالي، وطالما كان يعرب في أحاديثه معي عن عالي تقديره وشكره للاتحاد السوفياتي، قائلاً سيأتي اليوم الذي يعلن فيه عن المساعدات العظيمة للأشقاء السوفيات. ولم يكن الأمر يتعلق فقط بالقدرات العالية للأسلحة السوفياتية وتفوقها على الأسلحة الأميركية في أيدي الإسرائيليين، بقدر ما كان يتعلق أيضاً بنتائج العمل الدؤوب الذي بذله الخبراء العسكريون والفنيون السوفيات على مدى سنوات طوال، لرفع قدرات الجيش المصري واستعادة قوته بعد الهزيمة التي تعرض لها في عام 1967، بموجب القاعدة القتالية، والمصاعب خلال التدريبات، وتخفيف الأعباء خلال المعارك".
وكان السفير فينوغرادوف بالرغم مما طرحه من تساؤلات، اعترف بما تحقق من نجاحات هائلة على الصعيد القتالي. وكتب أن "السادات استدعاه في الرابعة من بعد ظهر السادس من أكتوبر 1973، أي بعد العبور بساعتين ليعلمه أن القوات المصرية نجحت في عبور القناة بمعدات وأسلحة سوفياتية، فيما طالب بالمزيد منها، وهو ما قامت موسكو بتلبيته، ومنها صفقة الأسلحة التي تعاقد عليها الرئيس الجزائري بومدين في موسكو في أكتوبر 1973".
ويشير السفير السوفياتي إلى أنه التقى السادات خلال الحرب 35 مرة، "فضلاً عن زيارة رئيس الحكومة السوفياتية ألكسي كوسيغين لمصر في 16 أكتوبر، أي قبل أن تضع الحرب أوزارها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شكوك سوفياتية
لكن فينوغرادوف سرعان ما عاد إلى التشكيك في صدقية السادات، حين أشار إلى ما تنامى إلى علم موسكو حول الاتصالات السرية مع الولايات المتحدة، وهي المعروفة تحت اسم "رسائل حافظ إسماعيل إلى كيسنجر"، وتناولت الاتصالات والمكاتبات بين السادات وكيسنجر خلال الفترة ما بين 7 أكتوبر وحتى 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 1973، والتي وصل عددها إلى أكثر من 90 رسالة. وكان السادات تعهد في أولها صباح يوم 7 أكتوبر أي بعد أقل من 24 ساعة على بدء العمليات العسكرية يوم 6 أكتوبر "لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع أبعاد المواجهة"، ما يعني توقف العمليات العسكرية بعد العبور، ولم تعد هناك نية لتطويرها، فضلاً عن تعهده في أول لقاء جرى معه في السابع من نوفمبر بإجراء تغييرات استراتيجية أساسية في السياسة المصرية وتوجهاتها الداخلية والخارجية، وهو ما دفع السوفيات الى إعادة النظر في مجمل علاقاتهم مع مصر، بحسب ما كتب محمد حسنين هيكل.
وفي هذا الشأن، نستشهد بما سجله هيكل حول ترجمة هذه الرسالة التي أوردها هنري كيسنجر في كتابه "الأزمة". وقال إنه عهد بها إلى أحد كبار المسؤولين في قسم الترجمة برئاسة الجمهورية في ذلك الحين، حرصاً من جانبه على تحري الدقة في الشكل والمضمون، وجاءت على النحو التالي، "في الساعة العاشرة والنصف بتوقيت واشنطن يوم 7 أكتوبر بعد نشوب العمليات العسكرية في سيناء بساعات تلقيت اتصالاً مستغرباً من الرئيس السادات على شكل رسالة موقعة من مستشاره للأمن القومي حافظ إسماعيل، وصلتني خلال قناة الاستخبارات المركزية. الرسالة تخطرنا بموقف مصر السياسي في الحرب، وبصرف النظر عن الإشارات التي وردت فيها عن ضرورة العودة إلى خطوط 1967، فقد كان اعتقادنا بتحليل الرسالة أنها مجرد افتتاحية، كان من المهم في نظرنا هو أخطار الاتصال بنا على هذا النحو في هذه اللحظة، ذلك أن معنى هذه الأخطار هو ما لم يقل".
ومضى هيكل في سرده لما جاء في هذه الرسالة شديدة الخطورة وبالغة الأهمية، ليقول "إن ما لم يقله كيسنجر لم يكن يعني سوى أن الاتصال بنا معناه أن الرئيس السادات قرر أن يعتمد علينا، وأن معناه أنه على استعداد بنياته وسياساته أن يبتعد عن الاتحاد السوفياتي، وأنه قرر أن يهجر السلاح بما في ذلك سوريا".
واستطرد لاحقاً ليضيف أن أخطر ما جاء في هذه الرسالة يتمثل في ما قاله السادات حول أن مصر لا تعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع أبعاد المواجهة. فيما نقل عن كيسنجر ما كتبه في الصفحتين 115 و116 من كتاب "الأزمة" حول أنه "نقل لسفير إسرائيل سيمحا دينتز نص الرسالة التي يتعهد فيها السادات بعدم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع أبعاد المواجهة، وكانت تلك خدمة جليلة لإسرائيل في أوقات حرب عصيبة".
على أن ذلك كله لم يحل من دون تحقيق الهدف المرجو من تلك الحرب التي زلزلت كيان إسرائيل، وإن كان في مقدم ما أعقبه من تفريط في نصر باهر مدو خال من شوائب "ثغرة الدفرسوار"، وعثرات محادثات فض الاشتباك، وغيرها من السلبيات التي نالت من مذاق الانتصار التاريخي. ونكتفي في هذا الشأن بما اعترف به كثيرون من "أعداء الوطن" ومنهم رئيسة وزراء إسرائيل في ذلك الحين غولدا مائير، فضلاً عما جرى تأكيده حول أبعاد المأساة ومرارة الهزيمة في كتاب "التقصير" (المحدال) الذي صدر بالعبرية، عن أخطاء إسرائيل في حرب أكتوبر 1973، نقلاً عن شهادات عسكريين وضباط احتياط إسرائيليين حول "تقصير الجيش الإسرائيلي وعيوبه"، في الوقت نفسه الذي استعرضت فيه كثيراً من القصص التي كانت بمثابة الشهادة والاعتراف ببطولات المصريين في هذه الحرب المجيدة. وقد صدر هذا الكتاب بالعربية عام 1974 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت.