يرتبط الشعر بالمختلِف لا المؤتلف، والتعبير عن المناطق المسكوت عنها أو التي تمثل درجة من درجات "التابو"؛ بغرض معرفة الذات وتعريتها ووضعها في ضوء جديد. ولا يرتبط هذا بالقصيدة الراهنة فحسب؛ بل يعد تقليداً شعرياً قديماً عبَّر عنه الأصمعي بقوله: "الشعر بابه الشر فإن دخله الخير لانَ".
وديوان الشاعرة المصرية عزة حسين "من شرفة موازية لشريط قطار" (دار العين- القاهرة) يحمل مثل هذا التوجه، فالشعر في رؤيتها مفسدة؛ لأنه أكسبها قسوة ووقاحة، على أن نفهم "الوقاحة" هنا بمعنى الكشف عما هو غير سائد أو ما جرت التقاليد على ستره. ويظل الشعر، كما تقول عزة حسين في الإهداء، رهانها الأخير وربما الوحيد لمقاربة ما هو "مستور"، حين تقول: "يشبه تحرير القصائد/ تحلية الكوب الأجمل من دموع أمك/ أو طهو عظام حبيبك للغرباء/ هذا الأخير أخبرني مرة أن الشعر أكسبني قسوة ووقاحة/ كان محقاً على أية حال".
إننا أمام خيال قاس يدفع الشاعرة إلى تشبيه تحرير القصائد بطهو عظام حبيبها للغرباء، وهو أمر يقربنا مما يعرف بجماليات القبح التي شاعت حديثاً والتي استخدمتها الشاعرة في أكثر من موضع مثل قولها: "قبل عشر سنوات/ كان عليَّ أن أموت وحيدة/ كرأس دُمية في القمامة". أو حين تقول عن نفسها: "خفيفة مثل حشرجة الكلب المبقور"، أو قولها: "ملء أيامي الفائتة/ جثث قصائد/ رفضت أن تكبر".
بعيداً من الخيال المستأنس
صحيح أن الشاعرة لا تبالغ في رصد هذه الجماليات، لكنها تنأى عن الخيال المستأنَس الذي لا يجرح الذوق العام ويخيّب توقعات التلقي. إنها تسعى إلى ما تسميه المجاز الطازج حين تقول: "سنوات/ أصحو لأتسول المجاز الطازج/ وفي الليل تفزع الكوابيس من سُعار الحقيقة". تهرب الشاعرة إذن من كوابيس سعار الحقيقة لتصنع خيالاً طازجاً موازياً يخلصها مِن هذه الكوابيس، وتظل الذات مشطورة بين سُعار الحقيقة والخيال المفارق لها وهو ما يحقق درامية النص الشعري في هذا الديوان الذي يتكون مِن وحدتين كبيرتين تحت عنوان "سندريلا في الثلاثين"، وسندريلا هنا هي قناع للشاعرة، و"شظية ترقص التانجو". واختيار "الثلاثين" تحديداً يمثل حداً متوتراً بين مرحلتين عمريتين؛ حين نقرأ: "أنا هنا على الأريكة/ سندريلا بائتة/ بزوج حذاء منزليين/ وشعر هائش/ والفلاش باك ليس طيّعاً/ كما كان/ وإلى جانبي الثلاثون/ حافة النوستالجيا/ وأوان الطرد من الأسطورة".
نحن هنا أمام محاكاة ساخرة لقصة "سندريلا"؛ الجميلة التي فقدت "فردة" من حذائها وعثر عليها الأمير أو ألقاها الطائر في حِجره، كما قيل، وظل يبحث عن صاحبتها حتى تزوجها. لكن شاعرتنا تقدم صورة مختلفة، صورة امرأة تجلس – ربما منهكة – على أريكتها بزوج حذاء منزليين وشعر هائش تتحسب لسنوات الشيخوخة التي تزحف إليها، ولعل هذا ما يفسر استرجاعها المتكرر طفولتها وصباها؛ تقول – مثلاً – : "لمسة واحدة/ كانت ستبعث كل ما سبق لخانة الحقيقة/ أو على الأقل اصطفاؤه/ كأفضل قصة مكثفة/ عن غرام الخامسة عشرة". بل إنها تختتم الديوان بتصوير هذه المرحلة البعيدة من حياتها – مرحلة الطفولة – حين تقول: "بعد سنوات يمكن أن يظل المشهد كما هو/ أقبض على بطن دميتي/ لِصقَ الحائط/ تتدلى ضفيرتاها على وجهها/ وتتسمر ذراعاها/ أنسى أناملي بين شفتيَّ/ وعيوني مفتوحة ترقب مِن بعيد".
تحولات الذات
إن الشاعرة لا تسترجع هذه المرحلة على سبيل النوستالجيا بل تراها مرآة لحياتها كلها القائمة على العنف، وهو ما يظهر مِن مقارنتها بين مرحلتين أخريين من عمرها حين تقول: "لم تمت في مكانها/ النظرة التي طوَّحتها ابنة الثامنة عشرة/ لذات الخامسة والثلاثين/ النيئة كعاهرة مبتدئة/ كرة الفزع التي/ تعرف سِكتها/ إلى ما خلف زجاج النوافذ". هذا الرصد الدقيق لتحولات الذات هو إحدى مزايا هذا الديوان، فالشاعرة تتأمل ماضيها في ضوء حاضرها واستشرافها للمستقبل ومع ذلك يظل للطفولة سحرها وذكرياتها المحفورة في وجدان الشاعرة: "خمسة وعشرون عاماً لأقول: ذبحني الحرمان من عرائس الطين/ من اتساخ ملابسي تماماً".
وتكمن الرؤية الصوفية للحياة، كما يقول كولن ولسون، في النظر إليها نظرة طائر، النظر إليها من بعيد أو من أعلى، وهو ما لاحظتُه في بعض الشواهد السابقة، ويمكن أن نلحظه أيضاً في قولها: "هنا أكثر من حياة لم أطأها/ أعضاء معطوبة وأخرى فُقِدت في السفر".
ولهذه الرؤية القاتمة للحياة أسبابها الموضوعية المتمثلة في موت الأحبة وتحول الألفة إلى شوك ناتئ وصبَّار: "كل أحبتي هناك/ حتى أن الألفة تتهيأ لي/ شوكاً ناتئاً وصبَّاراً"، الأمر الذي يدفع الشاعرة إلى تمني انتهاء العالم: "بضغطة زِر ناعمة/ بلا نصلٍ أو رصاصة".
إنه العالم الحديث الذى يبيد مدناً "بضغطة زر". العالم الذي فقد الأمان وأورث الجبن من مجرد تسلق شجرة: "الأمان؟ أعرفه/ خذلني ألف مرة/ لأجله لم أتسلق شجرة في حياتي/ نبتت الشجرات/ على حواف الترع/ وطليتُ أجنحتي/ كطيور الزينة". فالشاعرة تحس بالتشيؤ بعدما فقدت القدرة على التحليق وأصبحت شبيهة بطيور الزينة.
لم تعد ساحة للكون
وإذا كنا قد رأينا في السطور السابقة ما يمكن تسميته المدينة المعولمة، فإن الشاعرة تتوقف – تحديداً – أمام "القاهرة" التي احتلت مساحة كبيرة في جيل ريادة الشعر الحر، بصورة عابرة موحية: "حبيبتي القاهرة/ صرتِ بدينة فعلاً/ كيف سيحبك العشاق هكذا/ أو تقتنع البنات أن أرصفتك ساحة للكون".
والبدانة التي تقيد الحركة ليست صفة للمدينة فحسب بل تنعكس على الشاعرة التي تشبه نفسها بالسلحفاة التي تحجَّرت أجنحتها حين تقول: "يسأل كلانا/ عن إثم سلحفاة/ بأجنحة تحجَّرت/ كانت تسأل هي الأخرى/ عن جدوى التدلي كبندول لسنوات/ برأس يوشك على الانفجار".
وإذا كانت حركة السلحفاة دلالة على البطء، فإن حركة البندول تراوح في المكان. إنها حركة مقيَّدة؛ تعود إلى حيث بدأت. وفي هذه الحالة يفقد الحب هالته أو رومانسيته القديمة ويصبح الوصول إلى الطرف الآخر نوعاً من الاقتتال: "يالنا من بائستين/ كيف اقتتلنا لثلثي دقيقة/ على رجلٍ لا تحبه كلتانا/ كان جديراً أن نسخر من صلعته وذقنه المخنَّثة/ ثم نمضي ليلتنا في مديح الصعلكة".
ولا شك في أن هذا الحس الساخر من الذات يعد إحدى سمات ما بعد الحداثة وهو ما يظهر أيضاً في تخليد الخراب والدمار الذي تدور حوله قصائد التسعينيين: "ظهري لبرودة الحائط/ والخراب الذي خلَّدته قصائد التسعينيين/ يشعل الغرفة كأنفاس غائب/ جسدي تتعارك أطرافه/ وكرات دهني مسنونة/ ترعى الظلام بالداخل".
القطار/ الندَّاهة
لقد تحول الاقتتال الخارجي إلى داخلي بين أطراف الجسد تماماً، كما تحولت المجافاة التي كان ينشدها صلاح عبد الصبور في قوله "أجافيكم لأعرفكم"، إلى الكراهية الصريحة: "أريد أن أجري للوراء/ خمسة وعشرين عاماً/ أن أقول أكرهكم بصدق أكثر". إن هذه الكراهية موجَّهة لفراغ العالم وعنفه وخرابه الذي أصبحت الذات الشاعرة تراه في كل شيء: "في المرآة التي ستشفق عليَّ يوماً وتستدير/ عاملة النظافة/ الكراهية المدرَّبة في مثلث وجهها"، وهو ما جعل حياتها محاصرة بين "موت فاتر وحياة مطفأة"، وخذلان القصائد التي كفَّت – لضرورات فنية – عن "العويل".
ويصبح دال "القطار" الوارد في عنوان الديوان أشبه بالندَّاهة التي لا تكفّ عن إغواء الذات الشاعرة لتغادر هذه الشرفة الموازية له: "أكتب قصائد رديئة كي لا يسبني أطفالي في مراهقتهم/ للسبب نفسه لا أستجيب لنداءات القطار/ ربما لأن هاوية ألمع بالانتظار/ لا أريد أن أُربِك خططها".
ولا يكون أمام الذات التي لا تستطيع الفكاك من حصارها سوى انتظار الموت ومقاطعة الاستعارات بخيالها المفارق بعدما تحولت الكلمات إلى "مشنقة": "سأقاطع الاستعارات بعد هذه القصيدة/ لكن دعوني أقلْ/ إن كل هذه الكلمات المشدودة إلى روحي/ مشنقة/ ودمٌ ملون وموتى متخثرون/ وسُباب صريح وخيانة وقسوة/ أعرف أني أستحقها/ لكنني طالما انتظرت ميتة كأنها الغفران".
وهكذا تفقد الذات الشاعرة عزاءها في كل شيء: العالم والشعر، وتستقبل عذاباتها بحياد كأنها أمر اعتيادي حين تكتشف – مثلاً – أن اليتم لايستأهل "كل هذه التراجيديا".