على غرار "الماسونيين الأحرار"، أو عشاق الـ "بودكاست" والمدونات الصوتية عبر الإنترنت، تعد المافيا كيانا غنيا بالأساطير التي صنعتها بنفسها.
إذ إن "قسم الصمت"، الذي يحيل الرجال إلى أعضاء في الكيان المافيوي، يمثل طقوساً وتقاليد تعتمدها عصابات المافيا والإجرام الإيطالية الشهيرة، لكنه غدا جزءاً من وعينا العام تلقيناه عبر عدد لا يحصى من الأفلام والعروض التلفزيونية، وقد تكون بعض جماليات ذلك العالم شهد تغييرات بسيطة منذ أيام بلطجية فترة حظر الكحول في الولايات المتحدة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الـ 20، وثيابهم المقلمة، إذ تلاشت صورة رجل العصابة الأنيق الثياب، وصاحب العينين القاسيتين، ليحل مكانها نمط طوني سوبرانو ببزته الرياضية القذرة. وبالرغم من ذلك، فقد استمرت الكليشيهات التي تستحضرها أجواء الغرف المظلمة، والسيكار بين الأسنان، ورؤوس الأحصنة المقطوعة، ومحطات كلام من قبيل "قضي الأمر"، و"بات نائماً مع الأسماك" (أي جرت تصفيته).
وتعود أفلام العصابات بجذورها إلى هوليوود القديمة، عبر أفلام نموذجية مثل "الوجه ذو الندبة" Scarface لهاورد هوكس (1932)، و"ملائكة بوجوه قذرة" Angels with Dirty Faces لمايكل كورتيز (1938)، ثم في مرحلة تالية، "السخونة البالغة" The Big Heat لفريتز لانغ (1953).
في المقابل، من المؤكد أنه ما من فيلم دخل أعماق مخيلتنا المعاصرة مثل ما فعلت ثلاثية "العراب" The Godfather لفرانسيس فورد كوبولا، التي استندت إلى كتب لماريو بوزو. وعندما يستحضر الناس العاديون المافيا الإيطالية في أميركا "كوزا نوسترا" Cosa Nostra، فإن أول ما يحضر في أذهانهم وأحاديثهم في العادة، صور من فيلم "العراب" (1972).
إذ إن كل فيلم عن العصابات صنع بعد ذلك الأخير، بطريقة أو بأخرى، هو بمثابة رد فعل عليه، سواء كان ذلك تأثراً به أو تعارضاً معه. وقد جاء فيلم "الأصدقاء الطيبون" Goodfellas (1990) لمارتن سكورسيزي حاملاً بعض التأثر والتعارض، إذ تبنى بعض الأساطير التقليدية للمافيا ولفظ بعضها الآخر. وفيما بعد ربما، جسد مسلسل "آل سوبرانو" The Sopranos الجيل العظيم الثالث في رواية المافيا الحديثة.
يروى ذلك المسلسل الآسر الذي صنعه ديفيد تشايس، قصص عصابات على مدى ستة مواسم، من 1999 إلى 2007. وتالياً، تمكن من العبور في قلب عالم العصابات الساحر، مستعرضاً حماقات رجال العصابات وهفواتهم وضعفهم، ومحيلاً إياهم في السياق إلى حقيقتهم البشرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتبدي جميع الشخصيات في "آل سوبرانو" معرفة بفيلمي "العراب" و"الأصدقاء الطيبون"، إذ سبق لها مشاهدتهما، فيما يقلد مؤدو أدوار تلك الشخصيات في "آل سوبرانو" حركات آل باتشينو، ويتجادلون حول أفضل مشهد متتابع في "العراب".
تكتنف ذلك الأمر الأخير دقة محيرة، بفضل ما تكشفه تسجيلات ومواد تنصت لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) من أن رجال مافيا حقيقين كانوا متابعين نهمين لمسلسل "آل سوبرانو"، وكذلك تجادلوا في ما بينهم حول من تمثله منهم كل شخصية من الشخصيات.
وحين أطلقت صيغة "مافيا" Mafia كلعبة كمبيوتر للمرة الأولى في 2002، كان مسلسل "آل سوبرانو" قد بلغ موسمه الثالث. وكذلك أتت تلك اللعبة الثلاثية الأبعاد هذه، "مافيا"، والتي تدور حوادثها داخل مدينة "النعيم المفقود" في حقبة الثلاثينيات من القرن الـ 20 التي تستلهم أجواء نيويورك وشيكاغو ولوس أنجلوس، أتت غارقة حتى أذنيها بالكليشيهات، وهو ما جعلها إلى حد ما رجعية وغريبة، مقارنة مع نمط أفلام شبكة التلفزة الأميركية "أتش بي أو" HBO التي تصور عالم العصابات الأميركي على نحو صاخب ومشاغب.
في المقابل، يكاد هذا الأمر أن يكون اليوم من دون أهمية، إذ جاء أسلوب اللعب في "مافيا" متيناً، ولم ينتبه عموماً إلى أنها تدمج عنف السلاح ومعاركه مع المطاردات الطويلة بالسيارات على نمط "غراند ثيفت أوتو" Grand Theft Auto وهي لعبة إلكترونية تتضمن عمليات ومغامرات سرقة السيارات.
من ناحية أخرى، يتمثل الجانب الذي ميز لعبة "مافيا" في حكايتها التي تدور حول تومي أنجيلو، سائق التاكسي الذي يتحول إلى رجل عصابات مأجور، وتقوده طريقه إلى عائلة "ساليري" الإجرامية قبل أن ينقلب عليها في النهاية، ويغدو مخبراً لمكتب التحقيقات الفيدرالي.
وإذا لعب المرء "مافيا" اليوم، فإن كثيراً من حواراتها وشخصياتها ستبدو له خرقاء بعض الشيء، وتلك ركاكة تتفاقم حتى الرسوم التصويرية "غرافيكس" Graphics المتقادمة في اللعبة، والإيحاءات العامة التبسيطية لتقنيات آخر الألفية الثانية.
في ملمح آخر، تبقى لعبة "مافيا" سابقة لزمانها، إذ إنها لا تشكل حكاية عصابات خالدة للأجيال، بل ربما شيء من هذا القبيل بالنسبة لعالم ألعاب الفيديو والكمبيوتر.
إذاً، على ذلك النحو جاء نجاح "مافيا"، وقد استدعى في ما بعد صنع جزأين إضافيين للعبة هما "مافيا 2" في 2010، الذي تدور حوادثها بعد الحرب العالمية الثانية، وتتبع سيرة من نوع مختلف تماماً لقاطع طريق إيطالي – أميركي، ثم "مافيا 3" التي أطلقت في 2016. وانحرفت "مافيا 3" عن نمط الحكاية التقليدي، فأسندت قصتها إلى حكاية المحارب السابق في حرب فيتنام، لينكولن كلاي، الذي يريد الثأر على طريقة المافيا الإيطالية - الأميركية في "نيو أورلينز". وقوبل الجزء الثالث، الذي بدا أشبه بتحية صريحة لـ "العراب"، بفتور وخيبة أمل.
والآن، وقد باتت أيام العز بالنسبة لحكايات المافيا وراءنا، وتنتمي إلى فترة من القرن الماضي طواها الزمن، يتلبث سحر مؤكد في ثنايا تلك الحكايات. وبعد قرابة عقدين من ظهور اللعبة الأولى، تعود "مافيا" اليوم لتطرح صيغة متجددة بعنوان "مافيا: النسخة النهائية" Mafia: Definitive Edition، فتقدم في هذه النسخة عملية إعادة صياغة كاملة للعبة من البداية إلى النهاية. وفي خضم ذلك الأمر، جرى تحديث التصويرات والرسوم "غرافيكس"، وطريقة ممارسة اللعب والأداء.
في العام الماضي، حقق سكورسيزي عودته إلى الموضوع عبر فيلم "الإيرلندي" Irishman The عن حكاية في شأن تلك العصابات الملحمية، تدور حوادثها على مدى ثلاث ساعات ونصف، وسرعان ما غدا "الإيرلندي" أكثر الأفلام الأصلية مشاهدة على شبكة "نتفليكس" في تاريخها كله، إذ تشير التقديرات الأحدث إلى 64 مليون مشاهدة.
وهنا يحضر سؤال عما يجذبنا إلى حكايا العصابات، فبالنسبة إلى بعض الأشخاص، يتمثل الجاذب في العنف والطرق السادية والجشعة والماكرة في أغلب الأحيان، التي يمارس الكائن البشري من خلالها "لا إنسانيته" تجاه بشري آخر، وهي تمثل مكيدة فهمها جيداً مسلسل "آل سوبرانو". وعلى مدى أوقات عدة من العرض المذكور، وجدت الدكتورة ميلفي، الطبيبة النفسية المثقفة التي تعالج زعيم عصابات نيوجيرسي طوني سوبرانو، نفسها تلعب دور المراقب من كرسيها، متابعة من بعيد للتقلبات والتوترات السائدة في صراع العصابات. وعلى غرار الدكتورة ميلفي، ثمة كثيرون ينظر إليهم أيضاً على أنهم يعيشون بالوكالة عبر جنايات وجرائم شخصيات أخرى، وقد شكل ذلك في أحد معانيه مقاربة نقدية موجهة إلى جمهور المسلسل، خصوصاً ذلك الجزء من الجمهور الذي راح يعرف بـ "الأقل ثرثرة، والأكثر فعلاً".
وانطلاقاً من تلك المعطيات، يشكل عنف العصابات الهادف إلى الإثارة، مجرد جزء من المعادلة، لأننا في حكايات المافيا نقع أيضاً على نقاشات معمقة حول العائلة، إذ يركز "آل سوبرانو" على ذلك، وتشكل العائلة محوراً يقف في صميم فيلم "العراب"، فعلى نقيض موقف هنري هيل في "الأصدقاء الطيبون" الذي تعني له المافيا إحساساً بالترحيب الرفاقي وملجأً من عائلته البيولوجية ووالده المسيء، تطمس عائلة كورليوني الإجرامية جميع الحدود الفاصلة بين روابط الدم والأعمال التجارية. وفي هذا الإطار يعد عمل جوناثان ديمي الكوميدي "متزوج من العصابة" Married to the Mob (1988) واحداً من الأعمال القليلة التي تستفيد من الكوميديا المتأصلة في التباين بين هذين النمطين من العائلات.
وتعد فكرة المافيا في نواح عدة موضوعاً مثالياً لمجتمع يزداد توجهه نحو الماضي الجميل وشبه المتخيل. "من الجيد أن تكون في شيء من الطبقة الأرضية"، يروي جيمس غاندولفيني متأسياً أثناء أدائه دور طوني سوبرانو، في واحدة من أشهر جمل ذلك المسلسل. "أتيت متأخراً جداً لهذا الأمر، أنا أعرف، لكن في الآونة الأخيرة ينتابني شعور بأنني على الأقل حضرت في النهاية، فالأجمل لم يعد موجوداً". بالطبع، إنه محق، إذ إن العصر الذهبي للمافيا انقضى منذ زمن، وتضاءل بفضل عمليات التنصت التي نهض بها "مكتب التحقيقات الفيدرالي وقانون "ريكو" واتهاماته، وهو قانون صدر في العام 1980 يدين المنظمات الفاسدة والابتزازية في الولايات المتحدة، والمنظمات الإجرامية المنافسة.
واستطراداً، لا يقتصر الإحساس بالوصول إلى الحفلة بعد انقضائها، إذا جاز التعبير، على طوني سوبرانو وحده، إذ يرسم فيلم "الأصدقاء الطيبون" أيضاً صورة لعصابة تنوء تحت ضغوط الـ "أف بي آي"، وتسممها تجارة الكوكايين، وتتلهف إلى ماض جميل، ملتبس وبعيد المنال، ويمثل ذلك طريقة تفكير يمكن لجمهور المشاهدين اليوم أن يتبناها، كونه جمهور يواجه عالماً تتهدده أزمة المناخ، ويسوده القنوط السياسي.
وحاضراً، في 2020، تبدو بعض التنميطات القديمة للمافيا متقادمة ومثيرة للضحك، إذ تبدو تلك الصور عن الرعاع المتأنقين الذين يشهرون الرشاشات الصغيرة والسكاكين، خيالية على نحو غريب، كأنها أشياء خارجة من واقع بديل. في المقابل، تستمر مجموعة من كليشيهات أخرى، متعلقة بالجشع والسلطة والرجولة الهشة، في كونها وجيهة الآن على غرار ما كانته على الدوام. وبهذا، فإن حكايات تلك العصابات لم تبلغ خواتمها بعد. الآن باتت لعبة "مافيا: النسخة النهائية" متوافرة على أجهزة الكمبيوتر الشخصية و"بلايستايشن 4" و"إكس بوكس وان".
© The Independent