"إن كتابات أندريه جيد جديرة بالإدانة. والحال إن موهبة الذكاء الداخلي والشاعرية الثرية التي مُنحها الكاتب تجعل الحكم عليه أكثر مثاراً للشجن، ولكن تجعل منه في الوقت نفسه ضرورة قصوى. إن مكان (أندريه جيد) في العالم المسيحي هو بين الأعداء والمفسدين، وبين أنصار عدو المسيحية. لقد كان جيد من القوة بحيث كان يصر على أن يكون ضعيفاً مهما كان الثمن، وكان من الشجاعة بحيث يخاف الرأي العام. كان شاعر السرور الأكثر احتضاراً، والمجد الأكثر عبثية. بيد أنه لم ينجح أبداً في أن يقتلع إيمانه المسيحي من داخل فؤاده. ولهذا نلاحظ أنه دائماً ما كان يعود إلى ذلك الإيمان في محاولة منه لإلغائه، وفي محاولة منه لاستبعاده". هذا ما كتبت صحيفة "أوبسرفاتوري رومانو" ذات يوم من يونيو (حزيران) عام 1952، عن الكاتب الفرنسي أندريه جيد الذي كان قد فارق الحياة قبل ذلك بعام ونصف العام، مطالبة الكاثوليكيين بعدم قراءته.
في المقابل وقبل ذلك بسنوات قليلة حين كان الكاتب لا يزال على قيد الحياة وعاد لتوه من زيارة إلى موسكو، كتبت الصحافة الشيوعية الفرنسية منددة به: "إن جيد لم يكن أبداً كاتباً كبيراً، ولم تكن قراءته ممتعة. كل ما في الأمر أننا كنا مخدوعين به".
توافق بين المتناقضين
كان غريباً أمر هذا "التوافق" في الرؤية بين طرفين لم يحدث لهما أبداً أن اتفقا في تاريخهما. وضد من؟ ضد ذاك الذي كان يُعتبر واحداً من كبار الكتاب الفرنسيين خلال النصف الأول من القرن العشرين. والطريف أنه إذا كان في الإمكان تفهّم موقف الفاتيكان من كاتب أعلن دائماً ومن دون أقنعة مواقفه اللا إيمانية، وحمّل معظم رواياته لا سيما منها "أقبية الفاتيكان" التي كتبها باكراً جداً في مسيرته الأدبية، نقضاً لكل ما يمكن أن تنادي به المؤسسة الفاتيكانية من أفكار وأيديولوجيات ومواقف، سيبدو موقف "الكنيسة" الشيوعية منه أقل منطقية هو الذي عُرف بدنوه من الشيوعيين منذ اندلاع الثورة البلشفية، بل دنوه عن كثب من الشيوعيين الفرنسيين أنفسهم في نضالاته وتحركاته السياسية، ثم في موقفه ضد الاستعمار هو الذي حين زار الكونغو والتشاد ومصر، لم يتورع عن تسليط قلمه ضد كل أنواع الممارسات الاستعمارية ما جعله في خندق واحد مع الشيوعيين. ومع هذا ما كان في إمكان الشيوعيين الفرنسيين أن يغفروا له كونه فتح عينيه جيداً لدى زيارة شهيرة قام بها إلى ما كانوا يعتبرونه "بلاد السعادة القصوى" و"المستقبل الزاهر".
وصار جيد عدو الناس والتقدم
الحقيقة أن أندريه جيد، حين توجه في أواسط سنوات الثلاثين في تلك الزيارة إلى موسكو كان محملاً بالأفكار الإيجابية عن الاتحاد السوفياتي. كان متفائلاً إلى درجة أنه قال قبل السفر: "ليس ماركس من يقودني إلى موسكو، بل الإنجيل!"، محاولاً أن يقول بهذا أن المسيحية الحقيقية هي التي تقود الماركسية في بناء الشيوعية على الطريقة الموسكوفية. ونعرف هنا أنه حين عاد من بلاد السوفيات عاد مختلفاً في تفكيره تماماً، عاد ليقول بالحرف الواحد "إن أخشى ما يخشاه ستالين إنما هو الناس الأنقياء وأولئك النحيلون البائسون". وكان المعنى واضحاً. وهكذا ما إن نشر جيد كتابه "عودة من الاتحاد السوفياتي" الذي يتأرجح بين التحقيق الصحافي والدراسة ويحمل كل أنواع الفضائح الستالينية وتعبيرات خيبة أمل جيد الذي يعترف بأنه لم يرَ في تلك البلاد أي شيء مما كان يقال له عنه. وهكذا اندلعت المعركة بينه وبين الشيوعيين الذين أنكروا أية قيمة أدبية له ناسين أن ترجمة أي كتاب له إلى "اللغة" الروسية الأم كانت تصل في مبيعاتها إلى نحو 400 ألف نسخة، أي ما يفوق مبيعات أي كتاب له حين يُنشر في الفرنسية. صار الرجل وبسرعة "عدو التقدم والفكر والإنسان"، عدواً "لا قيمة له أصلاً" و"ننصح الناس الطيبين الأحرار بعدم قراءة السموم التي يكتبها".
وسيكون من الطرافة هنا على أية حال أن نرصد ذلك التوافق في الموقف من أندريه جيد بين السلطات الفاتيكانية و"السلطات" الستالينية كما سوف يسميها جيد نفسه، مع فارق أساسي هو أنه مقابل "إلغاء" الشيوعيين الكلي لجيد ليس فقط منذ اللحظة التي تحدث فيها عن عودته من موسكو، لم يلغه الفاتيكان، بل اعترف له بقيمته الفكرية والفنية لكنه نصح المسيحيين بالانصراف عن قراءته فقط لأنه معاد للكنيسة، معاد خطير للكنيسة انطلاقاً من كونه كاتباً كبيراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فتوى الخميني على الخط
في الأحوال كافة كان لافتاً حقاً كيف أن الفاتيكان بدا في موقفه التحريمي هذا كأنه يحذو حذو الأوساط الشيوعية التي كانت قد سبقته في تحريم كتب أندريه جيد ومهاجمته ولكن بطبيعة الحال لا بد من أقول إن موقفها من لم يكن نابعاً من الأسباب نفسها التي حركت الشيوعيين، بل كان نابعاً من مجال آخر، من كونه قد تعمد في رواياته ونصوصه أن يخرق المحرمات وأن يتناول أكثر المسائل صعوبة، والقضايا الشائكة، من دون أن يعمل حساباً لأي رقيب أو حسيب. ومن هنا جاءت الكنيسة الكاثوليكية لتقول إن أندريه جيد يشكل خطراً على أفكار المؤمنين وأخلاقهم.
طبعاً لا بد هنا من الإشارة إلى أن لا الشيوعيين الفرنسيين في سنوات الثلاثين ولا سلطات الفاتيكان عند بداية سنوات الخمسين من القرن العشرين وصلوا، في موقفهم من أندريه جيد، إلى الحدود التي وصلها الإمام الخميني في إيران بعد ذلك بعقود من السنين حين لم يكتفِ بتحريم قراءة سلمان رشدي ومنع كتبه، بل أصدر فتوى بضرورة قتله، فتوى ظلت قائمة سنوت طويلة قبل أن تلغى "لأسباب مجهولة" وفي "ظروف غامضة"، تتجدد كلما دعت الحاجة، وتغري المؤمنين بالتنفيذ لأنها تعدهم بمبالغ ضخمة من المال.
ولكن لما كانت المطالبة بتحريم أعمال كاتب تعتبر مبدئياً، حكماً عليه بالموت الأدبي، ولما كان الموت الأدبي بالنسبة إلى المبدع أمراً لا يقل شأناً عن الموت المادي، بات من الممكن المقارنة بين المواقف الثلاثة: موقف الشيوعيين الفرنسيين وغيرهم من شيوعيين آخرين في أنحاء كثيرة من العالم، وموقف الفاتيكان من أندريه جيد وموقف الإمام الخميني من سلمان رشدي إذ إن أنسب ما يمكننا أن تختم به هذا الكلام هو ملاحظة سوف تبدو في هذا السياق غريبة بعض الشيء، وهي أن الفتاوى التحريمية الثلاثة كانت لها في نهاية المطاف نتائج متشابهة أتت في صالح المبدعين. فنحن نعرف أن الموقف الرسمي الشيوعي أدى إلى مضاعفة مبيعات كتب جيد في فرنسا حيث أن كثراً راحوا يقرؤونه ولو من باب الفضول! وكذلك لا بد أن نشير إلى ما تم تداوله بعد ذلك في فرنسا من أن مبيعات كتب الكاتب نفسه قد تضاعفت مرة ثانية إثر صدور الموقف الفاتيكاني، ولا سيما في الأوساط المسيحية التي أرادت أن تعرف كما يبدو لماذا كان تحريم قراءته كنسياً، ما زاد بالتالي من أعداد قرائه أضعافاً مضاعفة.
أما الطامة الكبرى فكانت في "الخدمة" التي أدتها فتوى الخميني لرواية رشدي "الملعونة الشيطانية"، وأدبه بشكل عام: انتقلت أعداد قرائه من خانة عشرت الألوف إلى خانة عشرات الملايين، وهو ما شكر رشدي الخميني عليه دائماً وحتى بعدما رحل هذا الأخير واختفت فتواه وبقي الهندي البريطاني يكتب ويبيع ما طاب له!