من المؤكد أن الانتماء الإيطالي (هوية وفناً)، كان من أهم مميزات الموسيقي جوزيبي فيردي، وكان هو من صاغ ثراء إبداعه الموسيقي. ونعرف أن فيردي كان ولا يزال يُعرف بكونه أكبر موسيقيي الأوبرا في تاريخ الفن الإيطالي، بل بكونه صاحب الاسم الأكبر في هذا الفن على المستوى العالمي، إلى جانب زميله ومزامنه الألماني ريتشارد فاغنر.
لنضف إلى هذا أن عدد الأوبرات التي لحنها فيردي خلال سنوات نشاطه التي تواصلت عقوداً طويلة لحياة بدأت في مدينة بوسيتو في بارما عام 1813 لتنتهي في ميلانو في الشمال الإيطالي عام 1901، أي في المدينة التي شهدت لحظات مجده الكبرى، والعروض الافتتاحية لبعض أعظم أعماله الفنية، لم يتمكن من مضاهاته أي فنان آخر. ولكن على رغم هذا كله، لا بد من التذكير بأن فيردي لم يلتزم بإيطاليته حصرياً، بل كثيراً ما كان يطل على الخارج، سواء للعثور على موضوعاته، أو لتقديم العروض الأولى لبعض أعماله الكبرى.
عين الفنان وقلبه على الخارج
ولئن كانت أوبرا "عايدة" التي لحنها فيردي في أجواء فرعونية لا يمكن نسيانها بناء على طلب من الخديوي المصري إسماعيل، كي تتواكب مع افتتاح قناة السويس أواخر ستينيات القرن التاسع عشر، لكنه لم ينجزها في الوقت المطلوب لتقدم لاحقاً، ولئن كانت خير مثال على تطلع فيردي إلى الخارج، فإن في إمكاننا أن نتوقف في السياق نفسه مثلاً عند أوبرا "قوة الأقدار"، التي كان عرضها الأول في سانت بطرسبيرغ الروسية، وتدور أحداثها الأساسية في إسبانيا، كما عند تلحينه أوبرات عدة في اقتباس عن شاعر الإنجليز الأكبر شكسبير ("عطيل" و"ماكبث" و"فالستاف" مثلاً) أو عن الألماني فردريخ شيللر ("دون كالالوس"، "لويزا ميللر" و"جان دارك") أو اللورد بايرون ("القرصان") أو فيكتور هوغو ("هرناني" و"ريغوليتو")، ويمكن لهذه اللائحة أن تطول بمعنى أن فيردي خلال شتى حقبه الإبداعية كان يحرص على أن تكون استلهاماته كوزموبوليتية، من دون أن ننسى هنا اشتغاله على العولمة موسيقياً أيضاً.
من هنا يمكننا في استعراض لأعماله الكبرى والصغرى سواءً بسواء، أن نتجابه مع موسيقى شعبية إيطالية حقيقية، ولكن كذلك مع موسيقى إسبانية أو فرنسية أو حتى ألمانية. بكلمات أخرى لعل فيردي مثّل العولمة الفنية بأكثر مما فعل أي مجايل له، وربما أي موسيقي أتى بعده في القرن العشرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذا السياق يمكن التوقف عند جانب آخر من إبداع فيردي يتعلق هذه المرة بالأمكنة، وروح تلك الأمكنة كما تجلت في أعماله. فإذا كانت موسيقى "عايدة" قد أوحت دائماً بكونها مستقاة من موسيقى يُفترض وجودها في الأزمان الفرعونية القديمة، وكذلك موسيقى "نبوخذ نصّر"، تبدو مرتبطة بموسيقى يفترض وجودها منذ ساحق الزمن في بلاد ما بين النهرين، كما في فلسطين القديمة، حسبنا في السياق الذي نتناوله هنا أن نستعرض ألحانَ واحدة من أشهر أوبرات فيردي، "الحفل المقنّع"، لكي نجد أنفسنا وقد انتقلنا إلى ولاية ماساشوستس الأميركية، وتحديداً إلى مدينة بوسطن عند نهاية القرن السابع عشر، بما في ذلك إحساسنا بوجود ما لموسيقى تنتمي إلى تلك المنطقة، وإلى ذلك الزمن دون أن نعرف تماماً كيف تمكن فيردي من صياغتها.
الأولوية للأجواء والموسيقى
من المؤكد أنه ليس من المهم كثيراً التوقف عند الموضوع أو على الأقل "تيماته" الأساسية التي تمزج بين المؤامرات والحب والخيانة والانتقام وضروب الخداع والصراعات بين الواجب ونداء القلب، ناهيك عن الأبعاد الميلودرامية والقلبات المسرحية. فكل هذا منطقي ومعهود في أوبرات نهايات القرن التاسع عشر، حتى ولو راحت إلى أزمنة أقدم كثيراً تبحث فيها عن الموضوعات. ولو رسمنا جردة بالأعمال الأوبرالية الكبرى لكبار مبدعي هذا الفن، لن نجدنا بعيدين كثيراً عن هذه "التيمات". ومن هنا كان على الجديد أن ينحصر في الأجواء المرسومة، والتجديدات الموسيقية، وهما أمران، لا بد من القول أن فيردي كان من كبار البارعين فيهما، ومرة أخرى، المنافس الرئيس لزميله الألماني فاغنر.
وما "الحفل المقنّع" سوى خير برهان على ذلك. ولنبدأ هنا بالحكاية التي تبدو كما نشير، بادية الشبه بحكايات عشرات الأوبرات الأخرى، سواء كانت من توقيع فيردي أو سواه.
ما لدينا هنا هو الكونت ريكاردو دي وورويك، حاكم ولاية ماساشوستس، الذي يطالعنا أول الأمر وهو يستقبل في مجلسه عدداً من الولاة والأعيان، كما اعتاد أن يفعل كل يوم. ومن بين المستقبَلين هناك صامويل وتوم من أصحاب الأملاك الأثرياء، اللذان خارج إطار الولاء الذي يبدونه، سندرك أنهما ينسجان خيوط مؤامرة سرية تستهدف التخلص من ريناتو. وخلال الاستقبال يعرض حاجب الحاكم على هذا الأخير لائحة أسماء المدعوين إلى الحفل الضخم الذي سيقام بعد حين. ويُسرّ الحاكم إذ يجد بين الأسماء اسم الحسناء أميليا التي يهيم بها سراً، دون أن يكون مرتاح الضمير إزاء ذلك الهيام، تحديداً لأن أميليا هي زوجة سكرتيره الشخصي الأمين ريناتو. إنه حب يعذب الحاكم، ولكن ما العمل طالما أن للقلب أحكامه؟ بيد أن ما يزيد من عذاب الحاكم ريكاردو أن ريناتو هو الذي يأتيه الآن كاشفاً سر المؤامرة التي تحاك ضده، معلناً له ولاءه وكونه سيواصل التحري حول هذا الموضوع حتى يصل به إلى خاتمة مرضية، دون أن يخمن شيئاً عن غرام سيده بزوجته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
السحر يدخل على الخط
في الوقت نفسه، ولكي تتراكم المواقف والأحداث على الطريقة الأوبرالية المعهودة، يأتي إلى المجلس قاضٍ يسأل الحاكم التوقيع على مرسوم يقضي بطرد الزنجية أولريكا بتهمة ممارسة السحر والشعوذة. بيد أن ريكاردو يرفض التوقيع ويصر على تحري أمر أولريكا بنفسه. وهكذا يطلب من بعض كبار حاشيته ملاقاته في مقر الساحرة حيث يوافيهم هو متنكراً في ثياب صياد. وإذ يحدث له أن يصل مبكراً يتمكن دون أن يراه أحد من التنصت على حبيبته أميليا، وهي تتوسل الساحرة أن تزودها بترياق سحري لمجابهة حب مستحيل تعيشه ويعذبها. يخلق المشهد رضى مكتوماً داخل الحاكم الذي يحل دوره في استشارة الساحرة تالياً لأميليا. بيد أن الأخبار التي ستبلغه بها هذه الأخيرة لن تكون مفرحة، فهو كما تقول له، دون أن تعرفه طبعاً، سيموت قتلاً على يد صديق له. وسيكون هذا الصديق أول من يصافحه في ذلك اليوم بالذات. وهنا يصل ريناتو الذي سيصافح الحاكم من فوره دون أن يعرف شيئاً عن النبوءة. لاحقاً سيلتقي ريكاردو أميليا المحجبة وسيعيشان لحظة هوى يوقظهما منها وصول ريناتو الذي يبلغ سيده أن المتآمرين في الجوار وعليه أن يهرب. فيفعل ريكاردو مكلفاً سكرتيره بإيصال السيدة المحجبة إلى المدينة، وهو ما يفعله دون التحدث معها أو محاولة معرفة من هي. فهذه وظيفته ودوره.
الحاكم يسامح الجميع
يلتقي المتآمرون، ريناتو والسيدة الغامضة فيدهشهم وجوده في المكان الذي يفترض أن يعثروا فيه على الحاكم. ويصرون على معرفة هوية المرأة التي ما إن تنزع حجابها حتى يُذهل المتآمرون. بيد أن ذهول ريناتو سيكون أكبر لمرأى امرأته في هذه الوضعية غير المنتظرة. وعلى الفور يتحول ولاؤه تجاه الحاكم إلى كراهية عميقة. وإذ تتضرع إليه أميليا أن يرأف بها وبالحاكم يرفض ويصر على أنه هو، لا المتآمرون من سيقتل ريكاردو. وأن مناسبة ذلك ستكون الحفل المقنّع الذي يقام بعد حين في دارة الحاكم.
وهذا ما ينقلنا طبعاً إلى الحفل الذي أعار الأوبرا اسمه. وسنعرف أن أميليا قد تمكنت من تنبيه الحاكم إلى الخطر الذي سيتعرض له، لكن هذا يطالبها بأن يراها من جديد فيما يحضّر نفسه للحفل مرتدياً القناع. بيد أن ريناتو سيعلم من الحاجب تفاصيل قناع الحاكم، وهكذا فيما يكون هذا الأخير منصرفاً إلى تبادل الحديث مع أميليا غير دار أن ريناتو يعرف قناعه، يقترب هذا منه ويطعنه فيخر على الأرض ليس راضياً فقط بل مسامحاً حبيبته وسكرتيره والمتآمرين. في واحد من أجمل المشاهد الأوبرالية وفي موسيقى أوصلها فيردي إلى ذروة مدهشة.